لفترة طويلة، كان يُعتقد أن الحدود في سياسات الهجرة واضحة فاليسار يدعم سياسات الهجرة المفتوحة، في حين أن اليمين يعارضها بشدة، إلا أن ملايين الهاربين من جحيم الحروب والأزمات والكوارث الطبيعية خلال العقد الفائت أصبحوا فجأة حطباً لخطابات سياسية شعبوية خلقت شقوقاً في تلك الحدود، فبدأ ينزاح اليسار إلى الوسط والوسط إلى اليمين واليمين إلى تطرف أعمى، فنجحت أحزاب في استقطاب ناخبين وفشلت أخرى، لأن الدوافع الانتخابية في أوروربا والغرب أعقد من الاصطفاف بناء على دافع واحد مثل الهجرة.
فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية مرة ثانية يعيد المخاوف من تكرار ما حدث في الأولى على الضفة الأخرى من الأطلسي من ناحية تنامي الطفرة اليمينية وتأثير هذا التنامي على الانزياح اليساري. منذ 2016 أصبح ترامب رمز الاتجاه العالمي نحو الشعبوية والقومية وازدراء التعددية ومعاداة "الأممية الليبرالية"، وكان فوزه مثالاً تحتذيه الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، وألهم زعماء مثل مارين لوبان في فرنسا وماتيو سالفيني في إيطاليا وفيكتور أوربان في المجر.
حفّز كاتالوج ترامب وفوزه الأول في الانتخابات الأحزاب اليمينية في الدول الأوروبية التي تواجه أزمات الهجرة، حيث اكتسبت الأحزاب اليمينية المتطرفة مثل البديل من أجل ألمانيا (AfD) زخماً من خلال انتقاد سياسات الهجرة الليبرالية، وأشاد ترامب علناً بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، واعتبره انتصاراً للسيادة الوطنية على المؤسسات العالمية، وشجع هذا الموقف الحركات المتشككة في أوروبا والأحزاب اليمينية المتطرفة التي تدعو إلى سياسات مماثلة. أظهرت رئاسة ترامب في السابق كيف يمكن لليمين المتطرف عبر الأطلسي أن يعزز كل منهما الآخر، مدفوعين بخوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي التي يمتلك إيلون ماسك الآن المنصة الأولى للسياسيين والزعماء، والذي بدوره انقلب على مواقفه من ترامب وبات رفيقه المقرب الذي سيتسلّم منصب رئيس لجنة كفاءة الحكومة الأميركية.
أظهرت رئاسة ترامب في السابق كيف يمكن لليمين المتطرف عبر الأطلسي أن يعزز كل منهما الآخر، مدفوعين بخوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي
عودة ترامب للرئاسة في هذا الوقت تحديداً تتجاوز مخاطره مسألة الهجرة والقومية المتطرفة، فعلاقته المتوترة مع الكتلة الأوروبية في الفترة الأولى وتهديده بالانحساب من حلف شمال الأطلسي في الوقت الذي يلوح فيه بوتين بالنووي، قد يشجع الدعوات القومية للحكم الذاتي الإقليمي والنجاة الفردية، كما فعل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان عندما التقى في تموز الفائت بوتين في الكرملين.
اعتماد اليمين المتطرف على النفوذ الرمزي لترامب لا يصلح دائماً، فالسياقات السياسية الأوروبية تختلف بشكل كبير، والانحياز المفرط لترامب قد يؤدي إلى تنفير الناخبين الوسطيين، ويعزز المخاوف الوسطية والنفور التاريخي لأوروبا من القومية الصريحة، كما حدث في فوز الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني (PSOE) عام 2019 بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان، ضد الأحزاب اليمينية مثل حزب الشعب (PP) أو حزب اليمين المتطرف "فوكس " (VOX)، وكذلك فوز إيمانويل ماكرون، مرشح الوسط واليسار التقدمي نسبياً، برئاسة الجمهورية الفرنسية عام 2017 وأعيد انتخابه لولاية ثانية بعدما تغلب على منافسته من اليمين المتطرف مارين لوبان، والتي حصلت، على الرغم من هزيمتها، على حصة مرتفعة من الأصوات، وكذلك حقق حزب العمال البريطاني انتصاراً ساحقاً، حيث حصل على 409 مقاعد من أصل 650 في مجلس العموم، مما منحه أغلبية كبيرة وأعاد الحزب إلى السلطة بعد 14 عاماً من حكم المحافظين.
باختصار، هنالك علاقة مترابطة للشعبوية العالمية في تشكيل الحركات السياسية عبر الأطلسي، والأكيد أن اليمين نما واكتسب من خطاباته قواعد أوسع، فنجح في دول وفشل في أخرى بحكم أن لكل سياقاتها ومشكلاتها المختلفة داخلياً، والأكيد أيضاً أن اليسار متخوف من هذا التنامي وانجرف إلى ما يطلبه الجمهور فابتعد عن يساره إلى اليمين.
بلغ الانزياح اليساري إلى اليمين إلى نقطة باتت موضع استثمار لدى البعض. يُعتبر تحالف سارة فاغنكنخت (BSW) في ألمانيا مثالاً بارزاً لهذا الاتجاه نحو تبني مواقف نقدية تجاه الهجرة في التيار اليساري.
مع تأسيس التحالف الجديد سارة فاغنكنخت (BSW)، بدأت الحدود بين النقد اليساري واليميني للهجرة تتلاشى بوضوح. ورغم لهجتها المعتدلة، تتبنى فاغنكنخت مواقف سياسية تجاه الهجرة قريبة جداً من مواقف حزب "البديل من أجل ألمانيا".
تحالف سارة فاغنكنخت (BSW) حركة سياسية جديدة أسستها السياسية الألمانية سارة فاغنكنخت، وهي من الشخصيات البارزة سابقاً في حزب اليسار الألماني (Die Linke). جاء تأسيس التحالف كنتيجة لانشقاقها عن حزب اليسار، حيث قررت سارة فاغنكنخت تشكيل هذا التحالف لتقديم بديل يساري ذو توجهات محافظة اجتماعياً واقتصادياً يعكس اهتمامات شريحة معينة من الشعب الألماني، خاصة في شرقي ألمانيا.
يركز تحالف BSW على تبني مواقف نقدية تجاه الهجرة والسياسات الليبرالية المرتبطة بها، ويهدف إلى الدفاع عن مصالح الألمان من الطبقات العاملة والمهمشة، الذين يشعرون بتأثيرات الهجرة على سوق العمل والخدمات الاجتماعية، مثل ضغط الأجور وارتفاع الإيجارات والعبء على البنية التحتية.
وفي مواقفه حول الهجرة، يقترب التحالف من مواقف اليمين في ألمانيا، مثل حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD)، حيث يدعو إلى سياسات صارمة تجاه طالبي اللجوء، بما في ذلك وقف الدعم لطالبي اللجوء المرفوضين، وتعليق إجراءات اللجوء لأولئك الذين يسافرون إلى بلدانهم الأصلية.
يعتبر تحالف BSW محاولة لدمج مواقف يسارية اقتصادية مع توجهات محافظة اجتماعياً، ويستند إلى أن الهجرة يمكن أن تؤدي إلى مزيد من الانقسام الاجتماعي والتأثير السلبي على الشريحة الضعيفة اقتصادياً.
وسارا فاغنكنخت هي سياسية، واقتصادية، وكاتبة غير روائية، وصحفية، من ألمانيا الشرقية، ولدت في يينا، كانت عضواً في الحزب اليساري وتولت قيادته بين عامي 2015 و 2019، قامت بعد ذلك بتأسيس الحزب السياسي الجديد مطلع هذا العام 2024 باسم "تحالف سارة فاجنكنشت".
اقتراح التحالف بقطع جميع المعونات عن طالبي اللجوء المرفوضين، وسحب تصريح الإقامة أو تعليق طلب اللجوء لمَن يسافر إلى بلده الأصلي في إجازة، مطلب مشترك مع برنامج حزب "البديل من أجل ألمانيا". التحالف لا ينتهج سياسة نقد شاملة تجاه اللاجئين، لكنه بعيد كل البعد عن "ثقافة الترحيب" الألمانية.
ربما يعود ذلك إلى أن سارة فاغنكنخت ليست يسارية غربية تقليدية، فتحالفها يتبع نمط الأحزاب اليسارية في وسط وشرقي أوروبا: يسار اقتصادي، ومحافظ اجتماعياً. اتخذت منهجاً قائماً على مراجعة شاملة للمبادئ اليسارية، مدفوعة بطموح شخصي وجذور اجتماعية خاصة بها.
في الواقع، يصعب على الأحزاب اليسارية في أوروبا الشرقية أن تتبنى مواقف مؤيدة للهجرة. وكما هو الحال بالنسبة للأحزاب اليمينية، يرون في الهجرة تهديداً للأمان الاجتماعي، ويظل هناك نوع من "الشوفينية المتعلقة بالرفاهية" المتجذرة في هذه المجتمعات: بحيث تكون الخدمات الاجتماعية موجهة لمصلحة المواطنين المحليين وليس الوافدين الجدد.
ورغم ذلك، إن النقد اليساري للهجرة ليس ميزة حصرية للأحزاب الشرقية الأوروبية، فجذوره تعود إلى عمق تاريخ الأفكار الأوروبية.
من ماركس إلى فاغنكنخت.. نقد يساري متجدد لأعباء الهجرة
في الواقع، يمكن العثور على مثل هذه الأفكار في كتابات كارل ماركس. فرغم أن ماركس أكد على التضامن الدولي للطبقة العاملة، إلا أنه رأى في الهجرة أداة تستخدمها الرأسمالية لخفض الأجور. ولهذا، لم يكن بإمكانه أن يرى في الهجرة شيئاً إيجابياً، حيث اعتبرها نتيجة لاستغلال الرأسمالية ومصادرة الأرض والموارد. شريكه فريدريك إنجلز ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث ألقى باللوم على الهجرة الإيرلندية في تقسيم الطبقة العاملة الإنجليزية.
ما يربط بين ماركس وإنجلز وبين النقد اليساري للهجرة اليوم هو اعتبار الهجرة كظاهرة أزمة، حيث يتم تقييد حرية اختيار المهاجرين ضمن ديناميات السوق العالمي
بحسب أوليفيرو أنجيلي هو عالم سياسي ومنسق علمي في منتدى ميركاتور للهجرة والديمقراطية (MIDEM) بجامعة التقنية في دريسدن؛ فإن ما يربط بين ماركس وإنجلز وبين النقد اليساري للهجرة اليوم هو اعتبار الهجرة كظاهرة أزمة، حيث يتم تقييد حرية اختيار المهاجرين ضمن ديناميات السوق العالمي. يلخص جان لوك ميلينشون، رئيس حزب "فرنسا الأبية" اليساري المتطرف، هذا السرد حول الأزمة بقوله: "الهجرة هي دائماً نوع من المنفى القسري وقصة معاناة".
في كتابها "المتقون"، تتبنى فاغنكنخت هذا السرد وتندد بأن أعباء الهجرة موزعة بشكل غير عادل، بينما تستفيد الشرائح الثرية في دول الهجرة من الخدمات الأرخص، تتحمل الشرائح الفقيرة العبء الأكبر على شكل ضغط الأجور وارتفاع الإيجارات والبنية التحتية الاجتماعية المثقلة. هذه الديناميكية تؤدي إلى "تفكك" المجتمع، حيث تتشكل عوالم متوازية وغريبة ويتراجع التماسك الاجتماعي.
فيما يتعلق بمسألة العدالة، قد يتفق العديد من اليساريين مع تشخيص فاغنكنخت، لولا تمييزها الحاد ضد "اليسار الحياتي" الذين تشير بهم إلى اليساريين الأكثر ثراءً، الموجودين في البيئات الحضرية والأكاديمية، والذين يجدون في تنوع الهجرة شيئاً إيجابياً. وتتهمهم فاغنكنخت بجعل الهجرة مسألة "أسلوب حياة"، مما يحرف اهتمام السياسات اليسارية من القضايا الاجتماعية الاقتصادية إلى السياسة الهوياتية. ونتيجة لذلك، يتم صرف شرائح الناخبين التقليدية إلى أحضان أحزاب يمينية كحزب البديل.
من المعروف أن المواقف الليبرالية بشأن الهجرة يمكن أن تستفز بعض فئات الناخبين، فهل يمكن أن ينطبق ذلك أيضاً على اليساريين؟ فاغنكنخت مقتنعة بذلك، ونتائج الانتخابات في شرقي ألمانيا تبدو وكأنها تؤكد ذلك. فقد وجدت مواقفها الانتقادية للهجرة صدى لدى الناخبين الأكبر سناً في شرقي ألمانيا، الذين تحولوا بشكل كبير من دعم حزب اليسار إلى تحالف سارة في الانتخابات المحلية.
أظهرت دراسة أعدها معهد "إلسه فرانكل-برونسفيك" التابع لجامعة لايبزيغ الألمانية هذا الشهر، تصاعد ظاهرة العداء للأجانب في ألمانيا، مع تسجيل زيادات ملحوظة في شرقي ألمانيا، فقد بلغت النسبة 44.3% مقارنة بـ38.4% في الدراسة السابقة.
الأدلجة اليسارية خارج الانتخابات
نتائج الانتخابات يمكن تفسيرها بقراءة أخرى: ربما لم يكن الناخبون اليساريون بذلك القدر من اليسارية كما يبدو. في الواقع، أظهرت الدراسات أن العديد من ناخبي تحالف سارة يضعون أنفسهم في منتصف مسطرة قياس اليسار واليمين، ويبدو أن هؤلاء الناخبين لا يهتمون بالانتماء الأيديولوجي الواضح بقدر ما يهتمون بالتعبير عن استيائهم من الأحزاب التقليدية.
من الخطأ اختزال النقد اليساري للهجرة كظاهرة احتجاجية بحتة. في الواقع، تغيرت اهتمامات الناخبين اليساريين أيضاً، حيث لم تعد الهجرة تشكل محور اهتمامهم الرئيسي كما هو الحال لدى الناخبين اليمينيين
لكن من الخطأ اختزال النقد اليساري للهجرة كظاهرة احتجاجية بحتة. في الواقع، تغيرت اهتمامات الناخبين اليساريين أيضاً، حيث لم تعد الهجرة تشكل محور اهتمامهم الرئيسي كما هو الحال لدى الناخبين اليمينيين، مما يحد من الحشد في هذا المجال. يتبنى الناخبون اليساريون والخضر موقفاً براغماتياً إلى حد ما فيما يتعلق بمواضيع الترحيل وحماية الحدود.
انتقل التركيز من سياسة الهجرة إلى التعامل مع التنوع الداخلي، حيث لا يزال الصراع من أجل المساواة والاندماج قائماً. هذه الرؤية تنعكس أيضاً على المستوى السياسي، فبينما تركز الأحزاب اليمينية على الحد من الهجرة غير النظامية، تركز اليسارية على دعم ودمج المهاجرين الذين يقيمون بالفعل في البلاد.
ويعود هذا التراجع في الفوارق بين اليسار واليمين الأوروبي إلى التغيرات التي طرأت على المجتمعات الأوروبية، فقد تغيرت قاعدة الناخبين للأحزاب اليسارية، وأصبح العديد من أنصارها التقليديين، خاصة من الطبقة العاملة، يشعرون بالضرر الناتج عن العولمة والهجرة، وغالباً ما يتجه هؤلاء الناخبون نحو الأحزاب اليمينية التي تؤكد على المصالح الوطنية والأمن الاجتماعي. استجابة لذلك، شعرت الأحزاب اليسارية في العديد من الدول بأنها مجبرة على التعامل مع هذه القضايا لضمان استقرار قاعدتها الانتخابية.
وعلى سبيل المثال، حزب "التجمع الوطني" (المعروف سابقاً باسم "الجبهة الوطنية") في فرنسا كان يُعتبر لسنوات طويلة حزباً يمينياً متطرفاً، وقد عُرف بمواقفه المحافظة تجاه الهجرة والسيادة الوطنية وتعزيز الهوية الفرنسية. وتقليدياً، كانت الطبقة العاملة في فرنسا تدعم الأحزاب اليسارية، التي ركزت على حقوق العمال والعدالة الاجتماعية والتعددية الثقافية.
لكن في السنوات الأخيرة، لوحظ التحول في الدعم الذي يحظى به "التجمع الوطني" بين فئات الطبقة العاملة والنقابات، وهي فئات كانت تصوت في السابق لصالح اليسار. السبب وراء ذلك هو أن هذه الفئات شعرت بتهديد على مستوى العمل والهوية الثقافية جراء تدفق المهاجرين وتداعيات العولمة، خاصة مع تزايد البطالة والمنافسة على الوظائف التي غالباً ما تكون في القطاعات العمالية.
لمواجهة هذا التغيير، قدم "التجمع الوطني" خطاباً يركز على حماية العمال الفرنسيين، ودعم الاقتصاد المحلي، وتقييد الهجرة؛ مما جعل هذه الرسائل جاذبة للطبقة العاملة التي كانت تشعر بالإحباط تجاه سياسات العولمة والانفتاح التي دافعت عنها الأحزاب اليسارية سابقًا. ومن هنا، بدأ التجمع الوطني يكسب أصوات هذه الفئات بفضل شعاراته التي تركز على "حماية فرنسا من آثار الهجرة" و"الحفاظ على الهوية الفرنسية"، بالإضافة إلى "الدفاع عن فرص العمل" للعاملين الفرنسيين.
في هولندا، حزب "من أجل الحرية" (PVV) بقيادة خيرت فيلدرز، الذي أثر بشكل كبير على الخطاب العام حول الهجرة والأمن الاجتماعي. رغم أن اليسار الهولندي تاريخياً كان منفتحاً تجاه قضايا الهجرة والاندماج، إلا أن بعض الأحزاب بدأت بتبني مواقف أكثر حذراً تجاه الهجرة.
على سبيل المثال، ربط حزب "من أجل الحرية" بين أزمة الإسكان وارتفاع أعداد المهاجرين، مما أكسبه دعماً من الناخبين الذين يبحثون عن "أمان اقتصادي" ومواقف أكثر تحفظاً ثقافياً. في الوقت ذاته، يُظهر حزب "العقد الاجتماعي الجديد" (NSC) بقيادة بيتر أومتزغت ميلاً للتفاعل مع مخاوف الناخبين، مستهدفاً دعم الفئات التي تعاني من تحديات اقتصادية واجتماعية، وهو ما يجذب بعض الناخبين التقليديين لليسار نحو طروحات هذا الحزب.
كما أن الأحزاب التقليدية، خاصة الوسطية مثل حزب "الشعب من أجل الحرية والديمقراطية" (VVD)، تبنت قضايا الهجرة بشكل أوضح في حملاتها الانتخابية لتقليل استقطاب الناخبين باتجاه اليمين المتطرف.
في النمسا، أدى صعود أحزاب اليمين المتطرف مثل "حزب الحرية" (FPÖ) إلى تغيير ملحوظ في سياسات البلاد. في الانتخابات الأخيرة، فاز حزب الحرية بنسبة 28.8٪ من الأصوات، مركزاً في حملاته على قضايا الأمن والهجرة، ونجح في جذب فئات واسعة من الناخبين المتأثرين بالمخاوف الاقتصادية والاجتماعية من زيادة المهاجرين، ما أدى إلى تعزيز مكانة الحزب كقوة سياسية رئيسية. هذا التوجه أثر على الحزبين الرئيسيين في البلاد، "حزب الشعب النمساوي" (ÖVP) و"الحزب الاشتراكي الديمقراطي" (SPÖ)، مما دفعهما إلى تبني مواقف أقرب لليمين لضمان جذب قاعدة الناخبين التقليديين وتقليل الهجرة إلى البلاد.
بعدها تبنى "حزب الشعب" مواقف أكثر تحفظاً حول الهجرة، وبدأ بالتلميح إلى إمكانية العمل مع حزب الحرية في المستقبل، إلا أن تشكيل ائتلاف حكومي يبقى مشروطاً بتوازنات دقيقة بسبب الانقسامات داخل التحالفات السياسية حول القضايا الأساسية مثل السياسات الاجتماعية والبيئية، وخاصةً مع تراجع تأثير حزب الخضر في الانتخابات الأخيرة، لكن نقاش تشكيل حكومة تضم أطيافًا من الوسط واليمين واليسار أصبح حاضراً.
في السنوات الأخيرة، اتخذت فرنسا خطوات مشددة تجاه الهجرة استجابةً لضغوط اليمين المتطرف وزيادة الدعم للحزب اليميني "التجمع الوطني" بقيادة مارين لوبان. في كانون الأول 2023، مررت حكومة ماكرون قانوناً للهجرة يُلزم بزيادة تدقيق وضع المهاجرين غير الشرعيين، وتمديد فترة احتجازهم في مراكز الترحيل. بعد تعيين ميشيل بارنييه رئيساً للوزراء في تشرين الأول 2024، أعلنت الحكومة عن مشروع قانون جديد يتماشى مع نهج أكثر تشدداً بدعم وزير الداخلية برونو ريتايو، بهدف الحد من الهجرة ومراقبة الحدود.
في أول لقاء تلفزيوني مع رئيس الوزراء الفرنسي الجديد ميشيل بارنييه، في أيلول الفائت، عرض بارنييه الخطوط العريضة لسياسته الاقتصادية والاجتماعية المستقبلية، وذكر انتعاش الميزانية العامة ومناقشات جديدة حول قانون التقاعد، ولم ينس ملف الهجرة، لا سيما وأنه عيّن برونو ريتايو اليميني، لتولي حقيبة الداخلية، في رسالة للمجتمع والناخبين بأن الحكومة تنوي إرساء سياسة صارمة بشأن الهجرة.
في الدنمارك، تبنى الحزب الديمقراطي الاجتماعي الدنماركي سياسة صارمة تجاه الهجرة وأصبح رمزاً للصلابة الاجتماعية الديمقراطية.
في بريطانيا، عاد "حزب العمال" في تموز الفائت إلى الحكم، وكان ملف الهجرة معتركاً بارزاً بينه وبين خصمه التقليدي "حزب المحافظين"، وكان تصريح رئيس الوزراء البريطاني الجديد كير ستارمر الشهير في أول مؤتمر صحفي له بما يتعلق بهذا الملف: " خطة رواندا ماتت ودُفنت قبل أن تبدأ. لست مستعدا لمواصلة الحيل التي لا تشكل رادعا".
أوفى ستارمر بإيقاف "خطة رواندا" وقدّم مسؤولو حزبه سلسلة دراسات ومقالات وإحصائيات تظهر الآثار الاقتصادية الكبيرة الناجمة عن نهج سلفه ريشي سوناك وخاصة فيما يتعلق بتأخير البت بطلبات اللجوء وذلك يترتب عليه 6 ملايين جنيه إسترليني يومياً.
اتخذ ستارمر خطوات حاسمة لإعادة تشكيل سياسة الهجرة في المملكة المتحدة، وبدأت حكومته بتسريع البت بطلبات اللجوء وهدفها الرئيسي الانتهاء من عقود الفنادق التي تؤوي طالبي اللجوء والتي كانت قضية تترأس الأخبار في البلاد على مدار عام كامل، لكن في الوقت ذاته شدد ستارمر على ضرورة إعداد خطة لضبط الحدود البحرية، وأعلن عن إنشاء وحدة جديدة تُسمى "قيادة أمن الحدود" مهمتها مكافحة الهجرة غير الشرعية عبر القنال الإنجليزي، وستضم خبراء في الهجرة والشرطة والجيش، بالإضافة إلى تعاون وثيق مع جهاز الاستخبارات الداخلية "MI5" كما تتجه الحكومة البريطانية إلى تصنيف مهربي البشر كـ إرهابيين.
تركيا.. عكس التقليدي ومناكفة سياسية شرسة
في تركيا، تبلورت سياسات الهجرة خلال السنوات الأخيرة بحيث أصبحت قضية أساسية تتشابك فيها مواقف الأحزاب اليمينية واليسارية بشكل غير تقليدي، ما أدى إلى ظهور تناقضات في مواقف هذه الأطراف مقارنة بما هو شائع دولياً.
بدايةً، كانت الحكومة التركية، تحت قيادة حزب العدالة والتنمية (AKP)، تتبنى نهجاً منفتحاً تجاه اللاجئين السوريين، معتبرة تركيا "ملاذاً آمناً للمستضعفين وبلاد الأنصار" فدخل نحو 4 ملايين سوري خلال سنوات.
ومع تزايد الضغوط الداخلية والمنافسة السياسية والأزمة الاقتصادية وفشل الحكومة التركية في تبرير الوجود السوري الكبير، تحوّل حزب العدالة والتنمية إلى نهج أكثر تحفظاً في مسألة الهجرة، محاولاً تحقيق توازن بين الالتزامات الإنسانية والاستجابة للمطالب الشعبية بعودة اللاجئين.
أما على الجانب الآخر، فالأحزاب اليسارية، مثل حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) وهو من الأحزاب الكردية، تحافظ على موقف مؤيد للمهاجرين واللاجئين، داعية إلى توفير حياة كريمة وضمانات حقوقية لهم، لكن هذا الموقف ليس أخلاقياً بالكامل، فمصلحة الحزب الكردي أن يزداد التنوع في البلاد، ويستغل الحزب الانتهاكات وعمليات الترحيل للضرب بالحكومة أكثر من كونها تضامنية مع السوريين.
في حين أن حزب الشعب الجمهوري (CHP)، الذي يمثل اليسار التقليدي، يقوم خطابه وتحشيده بنسبة عظمى على ضرورة إعادة وترحيل السوريين رغم كل التحذيرات الأممية، وقد تعمّق هذا الموقف خلال الانتخابات المحلية لعام 2019، حيث وعد حزب الشعب الجمهوري في بعض المدن بإعادة اللاجئين.
في الانتخابات المحلية التركية التي جرت في آذار الفائت، حقق حزب الشعب الجمهوري (CHP) نتائج بارزة، حيث فاز بنسبة 37.8% من الأصوات، متفوقاً على حزب العدالة والتنمية (AKP) الذي حصل على 35.5%. هذا الإنجاز مكّن الحزب من السيطرة على 35 بلدية كبرى، بما في ذلك المدن الرئيسية الثلاث، إسطنبول وأنقرة وإزمير، مقابل 24 بلدية لحزب العدالة والتنمية.
أما في الانتخابات الرئاسية، فاز أردوغان بنسبة 52 بالمئة من إجمالي الأصوات، مقابل أقل من 48 بالمئة لمنافسه كمال كليتشدار أوغلو من حزب الشعب الجمهوري.
التفوق في الانتخابات البلدية والفارق الطفيف في نتائج الانتخابات الرئاسية، أظهرت تقدماً ملحوظاً لحزب الشعب الجمهوري على الساحة السياسية التركية. وهذا ما دفع الزعيم الجديد لحزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال لتعديل الخطاب بشكل واضح تمهيداً لوصول الحزب للسلطة في الانتخابات القادمة حسب ما يأمل، وبذلك يجب على حزبه التهدئة بما يتعلق بقضية الهجرة والسوريين، لأنه يعرف جيداً أن عودة السوريين ليست قراراً تركياً فقط، وأنها مسألة مستحيلة في المدى المنظور، فأدلى أوزال في أيار الماضي بتصريحات غير مسبوقة، حيث حذر من استخدام كلمة "عربي" كمسبة، وشدد على رؤساء بلديات المعارضة ألا يشاركوا في "الممارسات الشعبوية المعادية للأجانب". كما أكد على احترام اللغة العربية، مشيراً إلى أنها لغة القرآن.
أدرك حزب الشعب الجمهوري أن الخطاب المعادي للاجئين قد لا يكون فعالًا في كسب تأييد الناخبين، بل قد يؤدي إلى نتائج عكسية، وبينما بدأ يتبنى نهجاً أكثر تسامحاً مع اللاجئين وتخفيف الانقسام وسحب الورقة التي قام عليها خطاب الحزب كثيراً لاستقطاب الناخبين لسنوات؛ انقلبت الآية وأعلن أردوغان استعداده لتطبيع العلاقات مع النظام السوري وبرر الخطوة داخلياً بأنها تهدف إلى تأمين عودة آمنة للسوريين.
الموقف الثابت في تركيا عند الصناعيين المناصرين للوجود السوري، فالعمالة الماهرة ورخيصة الأجور باتت ركيزة في الصناعة التركية، وعندما أطلقت الداخلية حملة تفتيش على السوريين المخالفين في إسطنبول وغازي عنتاب، توقفت معامل وورشات عن العمل بالكامل. وهذا الواقع ليس فقط في تركيا، فمعظم الدول التي ينمو بها خطاب معاداة اللاجئين تعاني من نقص حاد جداً في العمال.
يجب التذكير دائماً أن الخطاب الشعبوي الذي قامت عليه الأحزاب اليمينية وسيّست من أجله ملفات إنسانية واقتصادية لغايات سياسية، فتح صراع استقطاب ناخبين، تجرّه وتقتات عليه مؤسسات إعلامية كبيرة منحازة، تظهر في وجه الناخبين في الهواتف المحمولة وشاشات التلفاز والسوشال ميديا. وبناء عليه راح اليسار الأوروبي ينحو إلى اليمين أكثر فأكثر مبرراً ذلك ضمنياً بـ "البراغماتية" و"الواقعية".
سلبية هذا التحول وهشاشة الحدود بين اليسار والوسط واليمين، لا تقتصر على القلق الشديد الذي يعتري اللاجئين والمهاجرين، بل هو خطاب وعقلية وتفكير يضر الدول ذاتها من دون غيرها، فيكثر التضليل وتنتشر فرضيات المآمرات ويختلق الإعلام المنحاز والمأدلج "حقائق" كاذبة، ويلتهي المواطنون بهذه الدوامات، في حين من المفترض أن يكون تقييم الكتل السياسية الطامحة بالحكم بناء على مقدراتها وتجاربها وحاضرها وأدائها. أن تكون الحقيقة مسيطرة على الشعبوية.