دأب نظام الأسدين على التسويق بأنه الوحيد الذي لم يُطبّع أو يوقع صلحاً مع "إسرائيل"، وأنه يشكل لب محور "المقاومة والممانعة" مع حلفائه إيران وحزب الله، بالإضافة إلى بعض المنظمات الفلسطينية الضرورية كديكور لعدة الدعاية التي طالما استثمرت فيها وسائل إعلام النظام وداعميه.
استمر خطاب النظام حول القضية الفلسطينية بالوتيرة نفسها حتى التسعينيات التي حملت تغييرات عميقة في العالم والشرق الأوسط، ومنها رغبة الولايات المتحدة الأميركية والغرب بــ "إحلال السلام بين العرب وإسرائيل". دفع ذلك نظام الأسد لتغيير خطابه وتوجهاته فهو يجيد فن البقاء، فانخرط في "عملية السلام" مع إبقائه على خطابه الدعائي نحو فلسطين على حاله، لكنه بدأ بتغييرات أكثر أهميةً ودلالةً في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وتجلى ذلك بالبدء في تغيير المقررات المدرسية السورية بالتوازي مع ما كان يجري في الدول العربية الأخرى بوتيرة أسرع.
رضخ نظام الأسد كغيره للضغوط الغربية، وخاصةً من الولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى طلبات مماثلة من المنظمات الدولية كاليونسكو لتغيير المناهج في المدارس. وقد شملت التغييرات المطلوبة العديد من الثوابت والقضايا السياسية والدينية والاجتماعية، ومن أهمها الموضوع الفلسطيني الذي ضُغِط لمنع أو تقنيين تدريسه في سبيل ترسيخ الواقع الحالي والتسليم بفكرة وجود "إسرائيل" والحال الذي وصل إليه الفلسطينيون. فقد كانت الكتب المدرسية السورية، ومنذ أمدٍ بعيد وفي جميع مراحلها، لا يكاد يخلو كتاب منها من درسٍ أو بضعة دروس عن فلسطين، مما يؤكد مركزية هذا القضية لدى السوريين.
عمل النظام في هذا الموضوع بالتدريج، معطياً رسائل للأطراف التي تطلب هذا التغيير أنه مستعدٌ للتجاوب بل بدأ العمل. انطلقت التغييرات في التسعينيات بتعديلات طفيفة، ولكن بعد موت الأسد الأب عام 2000، ووصول ابنه بشار للسلطة مقدماً نفسه كإصلاحي، وبموازاة أحداث إقليمية كبرى، استمرت عملية تغيير المناهج السورية بشكل ممنهج وفق خطة من ثلاث مراحل في عام 2004، ورغم التردد في كيفية تنفيذها فقد صدرت الدفعة الأولى من المناهج الجديدة في العام الدراسي (2010- 2011). واستمرت عملية التغيير رغم اندلاع الثورة السورية 2011، لتصدر دفعة ضخمة من المناهج الجديدة في العام الدراسي (2017- 2018) بعد تأسيس "المركز الوطني لتطوير المناهج التربوية" عام 2013 وتكليفه بمهمة تعديل المناهج وتغييرها.
لقد طرأت تغييرات واسعة على المقررات المدرسية شملت الحذف والتعديل وتقليص المحتوى وإلغاءه كلياً وتبديل مفاهيم وتزوير معلومات. ويمكن القول إن المناهج الجديدة تشكل بشكل عام قطيعة مع الماضي بسبب التوجهات الجديدة في العديد من القضايا، ومنها الموضوع الفلسطيني الذي كان من أهم المواضيع التي شملها التغيير كماً وكيفاً.
فإذا قارنا بين المناهج السورية المستخدمة حتى التسعينيات والمناهج الحالية نلاحظ فرقاً شاسعاً في تناول القضية الفلسطينية كماً وكيفاً. فمن حضور واسع للموضوع الفلسطيني في مختلف المقررات المدرسية ولمختلف الصفوف والمراحل الدراسية، وبشكل متصاعد وصل ذروته في الستينيات والسبعينيات وبشكل ثابت حتى التسعينيات، ليبدأ بالتراجع شيئاً فشيئاً ليصل ذروته في المناهج الجديدة للعام الدراسي (2017- 2018) التي شهدت غياباً تاماً للموضوع الفلسطيني عن مقررات مرحلة التعليم الأساسي (الصفوف من الأول إلى السابع) بينما كان لا يخلو كتاب من مقرراتها القديمة من درس أو أكثر يتعلق بفلسطين وأحياناً يكون أغلب المقرر عنها كما في مقرر "قصص مختارة" للصف السادس الابتدائي وغيره. كما شهدت كُتب المرحلة الثانوية تراجعاً كبيراً في الموضوع.
يؤكد خبراء التربية أن الطفولة تعتبر المرحلة العمرية الأهم في تكوين ذاكرة الإنسان وهويته، وما يتلقاه الطفل فيها من أفكار وقيم وثوابت لها أهمية خاصة لأنها تستمر معه. ولذلك نجد أن النظم السياسية، من أجل الحفاظ على نفسها واستمرارها في مواجهة التغييرات من جيل إلى جيل، تعمد إلى التعليم لتبث فيها القيم والاتجاهات المقبولة عندها. وهو ما فعله حافظ الأسد الذي ركز على ربط نفسه بقضايا العرب الكبرى كقضية الوحدة العربية وفلسطين، كما فعلت معظم الأنظمة العربية على مستوى الخطاب السياسي والإعلامي في محاولة لتعزيز مشروعيتها الضعيفة، فاستثمرت في القضية الفلسطينية نظراً لأهميتها عند الشعوب العربية. ولكن ما لا يمكن فهمه هو استسهال تغيير ثوابت الأمم والشعوب واستبدالها بقيم وثوابت جديدة تخدم الحاكم أكثر مما تخدم الدولة وهويتها الوطنية.
على سبيل المثال، فإن المطلع على كتاب "التربية الوطنية" من المناهج الجديدة للصف الأول الثانوي يلاحظ التغيير الواضح في تناول القضية الفلسطينية عما كان في الماضي، إذ يوحي الكتاب بأن المقاومة الفعالة للمشروع الصهيوني تتمثل بـ"المقاومة اللبنانية" أي "حزب الله" دون ذكره مباشرةً ومن خلفه سوريا الدولة العربية الوحيدة الممانعة، ويبدو الموضوع الفلسطيني كحامل لموضوع "محور المقاومة والممانعة". ولن نستغرب ذلك إذا نظرنا إلى قائمة المراجع التي ينصح مؤلفو الكتاب الطلاب بالرجوع إليها في هذا الموضوع، إذ تتصدرها مؤلفات "الشيخ نعيم قاسم" نائب أمين عام حزب الله، بينما كانت المراجع سابقاً محصورة بحزب البعث، وكان ممنوعاً حتى على أحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية" التدخل في التعليم، فكيف إذا كانت أحزاباً دينية طائفية!
لقد تمَّ تغيير الكثير من المفاهيم والمصطلحات والثوابت في المناهج الجديدة، وتغيير القصائد والقصص التي تحث على الشجاعة والمقاومة والتضحية وحب المقدسات، في تجاوز واضح لتاريخ وعقيدة وثقافة غالبية السوريين. فمن مِن الأجيال السابقة لا يتذكر نشيد "فلسطين داري" للشاعر سليمان العيسى في كتاب القراءة الصف الأول الابتدائي، وقصص غسان كنفاني (أرض البرتقال الحزين، أم سعد وغيرها) في كتاب "قصص مختارة" للصف السادس الابتدائي وغيرها كثير.
لقد تراجعت المناهج الجديدة عن الكثير من الثوابت والمصطلحات، وأولها القومية العربية وما يرتبط بها من القضايا، كما تراجعت عن شعارات تحرير فلسطين إلى خطاب غير واضح المعالم عن المقاومة والممانعة والسلام العادل. رغم ذلك يأتي من الساسة الفلسطينيين ومنظماتهم من يحاول أن يقنع الآخرين بإقامة علاقات مع نظام الأسد لأنه داعم للقضية الفلسطينية، وكأنه لا يكفيهم أن هذا النظام قد جعل السوريين مشغولين بأنفسهم عن أي قضية أخرى بعد أن حولهم إلى شهداء ولاجئين كالفلسطينيين، وأن جرائمه فاقت بكثير ما فعلته إسرائيل بالشعب الفلسطيني!