مع عودة نظام الأسد إلى الجامعة العربية كثرت التحليلات والقراءات، ومنها الفرضية الفاشلة قديماً وحديثاً بضرورة عدم ترك الأسد في أحضان إيران، وقد فصّلت الحديث عن ذلك في مقالين سابقين بعنوان "سراب الفصل بين نظام الأسد وإيران" (1) و(2). هذه الفرضية التي ما تزال بعض الحكومات العربية تحاول التسويق لها بعدما استسلمت للتراجع أمام المشروع الإيراني في المنطقة، ولجأت إلى المقايضة حفاظاً على مصالحها الآنية أو بقاء أنظمتها. ربما هذا ما دعا بشار الأسد للخروج علينا بنظرية "الانتماء والأحضان" في كلمته أمام الجمع الطيب! وربما قصد طمأنة الحضور إلى أن كونه في أحضان إيران لا يتناقض مع عروبته، خاصة وأن لإيران دوراً كبيراً في عودته تلك.
ماذا نقول، نحن السوريين، عن مشاركة قاتلنا في اجتماع القمة العربية العتيد؟ إذا كان أحد أعضاء الكونغرس الأميركي وصف الاجتماع بالمقزز، واعداً أن العناق الحار الذي حظي به الأسد، القاتل الجماعي، سيقابل بعواقب وخيمة، رغم أن واشنطن طالما تكلمت عن هكذا عواقب ولم نرها. ماذا نقول عن ممثلي أغلب الحكومات والأنظمة الذين انبروا دون خجل للترحيب بعودة قاتل إلى مقعده بينهم؟ عدا قلة منعتهم الشهامة والمروءة والخجل من الجلوس أو الترحيب به، علّهم يخففون من صدمة السوريين المنهكين في كل مكان بعد أن أصبحوا كالأيتام على مائدة اللئام.
إذا كان هذا حال الأنظمة العربية التي كان بعضها يدّعي رفضه لبشار وجرائمه فكيف كان حال جماعة الأسد؟ نبدأ بوزير خارجيته الذي بدا منتفخاً كدمّلة مليئة بدم أطفال سوريا وقيح أبدان المعتقلين وهو يؤكد مشاركة سيده في القمة. أما إيران، وكما ورد في صحفها، فقد اعتبرت دعوة الأسد للسعودية انتصاراً كبيراً. كما وصفت صحيفة "كيهان" الأصولية المصالحة بين إيران والسعودية بالطلقة الأخيرة التي هزمت المحور المعادي لإيران وحلفائها. وغير خاف على أحد أن الإيرانيين يصنفون في هذا المحور كل من يعارضهم وفي مقدمتهم السعودية والثورة السورية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل. ورأت الصحيفة نفسها أن القمة كانت قمتين؛ الأولى عربية، والأخرى بين سوريا وما تمثله وبين السعودية.
لننظر إلى أهداف العرب (دولهم الفاعلة) خلال العقد الماضي في نقاط المواجهة الساخنة مع إيران (سوريا والعراق واليمن ولبنان). من المسيطر؟ إنها إيران وأدواتها أو بالأحرى امتداداتها الطائفية
أما صحيفة الأخبار اللبنانية "الممانِعة" فقد نشرت ملفاً على صفحتها الأولى بعنوان "عودة رجل شجاع" قاصدة بشار الأسد. ورأت في الكلمات التي ألقيت في القمة نعياً رسمياً للربيع العربي، لكنها لم تقل إن دعوة الأسد تعتبر دليل الأنظمة العربية على تأكيد نعي هذا الربيع، ودرساً واضحاً لشعوبها. وتأكيداً على ما يعتبره الإيرانيون وأدواتهم نصراً ربطت الصحيفة بين تاريخ انعقاد القمة وحضور بشار لها، وبين ذكرى معركة القصير عام 2013 التي جرت في نفس الفترة، "وكانت بداية انتصار الأسد وحزب الله" كما قالت. ولم تنس الصحيفة تذكيرنا بما فعلته ويمكن أن تفعله الحكومات العربية لـ"تطبيع الأوضاع في سوريا"، مذكرةً بمساهمتها في رعاية "المصالحات" سيئة الصيت مع النظام؛ الإمارات في جنوبي سوريا، والسعودية في الغوطة الشرقية. ولمن لا يعرف "المصالحات" فهي اتفاقيات فُرضت على المناطق الثائرة تحت ضغط الحصار والقصف والدمار، ونتج عنها التهجير القسري والتغيير الديمغرافي.
لنترك جانباً كلام صحف "المقاومة والممانعة" التي تؤكد انتصار إيران وأدواتها ولننظر إلى أرض الواقع. النتيجة واضحة للعيان؛ إيران وحدها المنتصرة والعرب كلهم خاسرون. هذه ليست أحجية. فلننظر إلى أهداف العرب (دولهم الفاعلة) خلال العقد الماضي في نقاط المواجهة الساخنة مع إيران (سوريا والعراق واليمن ولبنان). من المسيطر؟ إنها إيران وأدواتها أو بالأحرى امتداداتها الطائفية، لأنها سلكت سبيل التضامن الطائفي داخلياً وخارجياً لتحقيق أهدافها، والتقت في ذلك مع امتداداتها التي سلكت السبل نفسها كنظام الأسد.
تحدث عبد الحليم خدام في كتابه "التحالف السوري الإيراني والمنطقة" كيف سخّر الأسد الدولة السورية بعد نجاح ثورة الخميني للدفاع عن إيران في المحافل الدولية والإقليمية ومنها جامعة الدولة العربية، فكانت صوتها ويدها في العالم العربي. أصبح تحالف الأسد مع إيران سبباً للخلاف في العديد من القمم العربية. ففي عام 1980 حاول الأسد عرقلة انعقاد القمة العربية المقررة آنذاك في الأردن، واقترح عقد اجتماع مصغر بدلاً منها، لأن أغلبية الدول العربية كانت متفقة على تأييد العراق في حربه ضد إيران 1980. وعندما لم يفلح مسعاه تزعم مقاطعة المؤتمر الذي أيد العراق. ولما هاجم الملك حسين موقفه المؤيد لإيران البلد غير العربي رد الأسد باستعراض جيشه قرب الحدود الأردنية، لكنه لم يزعج دول الخليج التي كانت يبتزها بعلاقاته مع إيران. وقبل القمة التالية عام 1981 في فاس ادعى الأسد أن لديه خطة لإنهاء الحرب العراقية الإيرانية وزار السعودية للتنسيق معها في هذا الشأن، لكن وزير خارجية إيران سرعان ما زار دمشق رفضاً للفكرة لأن المعارك كانت تسير لمصلحة إيران، وكان الأسد من أهم الداعمين للمجهود الحربي الإيراني. استمر الأسد وقتئذ بدعم إيران رغم وعوده للسعودية بتخفيف علاقته بها وتخفيف انتقاده للعراق، وعلى الرغم من تلقيه مساعدات مالية سنوية سخية من دول الخليج وفي مقدمتها السعودية. ولم يتراجع عن علاقته تلك على الرغم من حاجة سوريا الماسة إلى وقوف أشقائها العرب معها، مقدماً مصلحة نظامه على البلد حتى في أحلك الظروف، كما كان بعد إصدار إسرائيل قرار ضم الجولان في أواخر 1981.
شكّلت إيران وامتداداتها محوراً له مشروع وهم ماضون فيه بلا هوادة، وفرضوا واقعاً لا بد من التعامل معه كما هو
استمر الأسد بعلاقاته مع إيران ودعمها في حربها ضد العراق رغم ما سبّبه ذلك من انقسام في العالم العربي، وكان سبباً رئيسياً في عرقلة انعقاد القمم العربية لثلاث سنوات (1982-1985). حتى حاولت السعودية رأب الصدع، وخاصةً بين العراق والأردن من جهة وسوريا من جهة، عبر "لجنة تنقية الأجواء العربية السياسية" التي ترأسها ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله. لكن الأسد استمر في المراوغة فقد كان يعتبر علاقته بملالي إيران استراتيجية، ضارباً عرض الحائط بالعرب وبالشعب السوري. فبغض النظر عن واجهة أسباب الحرب العراقية الإيرانية، ما الذي يجمع السوريين بإيران الخميني (الفارسية-الشيعية)؟ فالسوريون وقتها كانوا يؤيدون العراقيين لا لشيء سوى أنهم أشقاؤهم، وما زلت أذكر تحلق بعض الأقارب حول الراديو لسماع الإذاعة العراقية وأخبار الحرب، رغم منعها من نظام الأسد.
بعيداً عما نحب ونكره، شكّلت إيران وامتداداتها محوراً له مشروع وهم ماضون فيه بلا هوادة، وفرضوا واقعاً لا بد من التعامل معه كما هو. لكن المحور المفترض أن يواجه المشروع الإيراني ويمثل الأكثرية في المنطقة منقسم ومشبع بالمشكلات، حتى أن الدول التي تعتبرها إيران على رأس المحور المضاد لها، وأولها السعودية، مشغولة بقضايا أخرى. خلق هذا الحال فجوة في تمثيل مصالح الأكثرية بسبب قصور الأنظمة الحاكمة، وقد أدى ذلك وسيؤدي إلى اضطرابات لا يمكن توقع نتائجها، وظهور جهات وتنظيمات تتصدى لملء فجوة تمثيل الأكثرية.