مما لا شك فيه أن أبا محمد الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام هو أكبر المتضررين من الحراك الشعبي المطالب بإسقاطه في إدلب، إلا أن الحراك في الوقت ذاته قدم هدية كبيرة للجولاني، ربما لم يكن يحلم بها منذ سنوات، وهي تحييد التيار المتشدد من الهيئة، وإبعاده عن التدخل في شؤون الناس.
وبحسب مصادر خاصة لموقع تلفزيون سوريا فإن أبا محمد الجولاني أوعز بتجميد وإيقاف العمل بـ"شرطة الآداب العامة" الجهاز الوليد الذي لم يدخل العمل رسمياً حتى الآن، وذلك بذريعة تجنب الصدام مع الشعب.
وعملت جبهة النصرة منذ تأسيسها على إنشاء أجهزة الشرطة الدينية (الحسبة)، والتي تعنى بمراقبة الأسواق ومنع "الاختلاط" و "المنكرات" وغير ذلك من الأمور التي تندرج ضمن هذا السياق، كما أن أجهزة الشرطة الدينية مكنت النصرة من فرض سطوتها ورقابتها المباشرة على السكّان في مختلف تفاصيل حياتهم اليومية.
وتدرجت النصرة ومن بعدها هيئة تحرير الشام في هيكلية أجهزة الشرطة الدينية بخطاً بطيئة تتلاءم مع تحولاتها، وانسلاخها عن الحالة الجهادية وتبنيها الحالة الوطنية والثورية، لكنها أبقت على الشرطة الدينية كورقة ترضية لـ"التيار المتشدّد" في صفوفها، والذي لا يرضى عن الكثير من تحولات "الهيئة" ويصفها بتمييع الدين، والتهاون في تطبيق الحدود، وذلك للمحافظة على بقاء جميع التيارات في الهيئة والمحافظة على تماسكها التنظيمي ومنع حدوث انشقاقات عقائدية نحو جماعات متشدّدة أخرى.
أجهزة الشرطة الدينية وتحولاتها
أطلقت جبهة النصرة في العام 2014 جهاز الحسبة، الذي كان يتدخل بشكل مباشر في حياة السكان، فكان يتدخل في لباس النساء، وقصات شعر الشباب، ويمنع بيع الدخان، ويمنع التدخين في الأماكن العامة، فضلاً عن إرسال الداعيات إلى المدارس والجامعات وأماكن عمل النساء لمراقبة تطبيق منع "التبرج" أي التزين ووضع المكياج أو ارتداء لباس لا تقبله النصرة، إلى جانب تسيير دوريّات في الساحات العامة والحدائق والتدقيق في بيانات المارة وأوراقهم الثبوتيّة للتأكد من صلة القرابة بين الرجال والنساء، والتجول على محال الألبسة للتأكد من عدم عرض الألبسة "غير المحتشمة" وتغطية وجوه تماثيل عرض الألبسة على واجهات المحال التجارية، وإزالة صور النساء من علب بعض السلع.
تم إنهاء العمل في الجهاز بضغط شعبي، ومن أبرز انتهاكاته تعرّض الداعيات من "سواعد الخير" (النساء العاملات في المركز) لفتيات في سوق مدينة إدلب، شهر حزيران عام 2017، وإهانتهن، فضلاً عن إقدام داعية منهن على ضرب مديرة الامتحانات في جامعة إدلب، بسبب خلاف على لباس المديرة، بالإضافة إلى اعتقال سائقي حافلات يتبعون لمنظمة "بنفسج" بحجة الاختلاط داخل الحافلات في مطلع 2018، إضافةً إلى تنفيذ عمليات جلد (ضرب الأشخاص على ظهورهم بعيدان أو سياط) كانت تجريها بحق مرتكبي المخالفات الشرعية.
في آذار 2018 تغير اسم جهاز الحسبة وحمل اسم "سواعد الخير"، لم يختلف سواعد الخير عن سابقه إلا في تخفيف بعض القيود، لكنه واصل ممارسة التضييق والانتهاكات بحق المدنيين، وذلك حتى إنهاء عمله في منتصف عام 2019، على خلفية احتجاجات شعبية ومظاهرات طالبت بإيقافه بسبب تدخله في حياة السكان، وفرضه الكثير من القيود وأساليب التضييق عليهم.
في أيار 2020، أطلقت "هيئة تحرير الشام" جهاز الحسبة مجدداً تحت مسمى آخر هو "الفلاح"، حيث استمر هذا الجهاز أيضاً بممارسة التضييق على السكّان لكن بصورة أخف، وانخفضت نسبة الصدام بين أفراده من الدعاة والداعيات وبين المدنيين بشكل واضح مقارنة بسلفه "سواعد الخير".
ومن بين أوجه الاختلاف بين عمل جهاز الفلاح عن سابقاته هو أن بيع الدخان علانية بات خارج دوائر اهتمامه في حين أبقى ملاحقته لمدخني النرجيلة في الأماكن العامة.
كما أن جهاز الفلاح شكل نقلة نوعية في خط سير أجهزة الشرطة الدينية، فبينما كان يعتبر كل من جهازي الحسبة وسواعد الخير نفسيهما سلطة رقابية شرعية تطبق نظاماً ملزماً للسكان، رفع الفلاح من "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" شعاراً له، وعمل كمؤسسة دعوية بالدرجة الأولى، مع ممارسته أنواعاً من الرقابة والإجراءات التنفيذية بحسب ما سمحت له الظروف.
أيضاً عمل جهازا الحسبة وسواعد الخير تحت إشراف مباشر من قيادات في الصف الأول لـ"الهيئة" محسوبين على التيار المتشدّد كـ"أبي اليقظان وأبي الفتح الفرغلي" (وهما مصريا الجنسية)، بينما عمل جهاز الفلاح بقيادة شخصيات سوريّة أقلّ تشدّداً.
في أيلول 2021 أنهت تحرير الشام العمل بجهاز الفلاح، ضمن مساعيها للانفتاح على العالم الخارجي، وتقييد نفوذ التيار المتشدد، والتحول من فرض السطوة الدينية المباشرة إلى العمل المؤسساتي لتسويق نفسها خارجياً.
كان إنهاء عمل جهاز الفلاح بصورة غير رسمية وغير معلنة، وترافقت أخبار إنهاء عمله مع أخبار تفيد بعزم الهيئة على إعادة تشكيل الجهاز بصورة مؤسساتية تحت مظلة حكومة الإنقاذ، وهو ما تأخر حتى مطلع العام 2023، عندما أعلن وزير الداخلية في خطة عمله عن عزمه تشكيل "شرطة الآداب العامة"، أيضاً لم يكن هناك رغبة جادة من قبل الجولاني لإطلاق ذلك الجهاز، وتأخر الإعلان الرسمي عنه حتى مطلع الحالي، عندما أعلنت وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ عن طرح شروط الانتساب لشرطة الآداب العامة، والذي ترافق مع تسريب نص مشروع "قانون الآداب العامة" المكون من 128 مادة، دون إعلانه رسمياً.
ما وراء هذه الخطوة؟
تقول مصادر لموقع تلفزيون سوريا إن سياسة هيئة تحرير الشام في إدلب بخصوص تجميد شرطة الآداب العامة هو بمثابة إعلان إنهاء العمل بها بصورة غير رسمية، كما سابقاتها من الأجهزة.
وبحسب المصادر فإن إنهاء العمل بالجهاز الوليد يمثل ولادة هوية جديدة لإدلب وسائر منطقة نفوذ الهيئة في شمال غربي سوريا، لا مكان لأجهزة الشرطة الدينية والرقابية فيها على حياة السكان، وهو ما يعكس صورة جديدة عن المنطقة بعيدة عن الصور السوداء التي صُدرت فيها إدلب إلى العالم على وسائل الإعلام وشاشات التلفزة.