تجميد الصراع السوري ومصالحة صامتة

2022.08.23 | 06:57 دمشق

تجميد الصراع السوري ومصالحة صامتة
+A
حجم الخط
-A

تُشير كل المعطيات الراهنة، سواء على الصعيد المحلي، أو الإقليمي، أو الدولي إلى أن الصراع السوري يتجه إلى اللا حل، ففي ظل تراجع أهمية هذا الصراع مقارنة بصراعات أخرى اشتعلت، أو تلوح بوادر اشتعالها، وفي ظل انشغال قوى أساسية وفاعلة في هذا الصراع بصراعات أكثر أهمية سواء داخلها أو خارجها، وفي ظل عجز أطراف الصراع عن حسم المعركة لهذا الطرف أو ذاك، فإن الاحتمال الأكثر توقعاً هو الذهاب إلى تجميد هذا الصراع، واستنقاعه، حتى تتبين معادلات جديدة.

لكن تجميد هذا الصراع، وإبقاء الجغرافيا السورية المقطّعة على حالها، يحتاج لمقدمات ضرورية، كي لا يكون هذا التجميد ضاراً بمصالح الأطراف، وكي يكون قابلاً للاستمرار، ومن الطبيعي أن تتباين هذه المقدمات بتباين مصالح الأطراف، لكن معطيات الأحداث في الفترة الأخيرة، تشير إلى تحقيق خطوات مهمة على صعيد ترتيب هذه المقدمات.

فروسيا التي تغرق حتى أذنيها في معركتها الأم، ليس في أوكرانيا فحسب، بل وفي اقتصادها، وتحالفاتها الكبرى، تريد أن تضمن مقومات بقاء بشار الأسد حتى مرحلة الحل النهائي، وهي من أجل ذلك يجب أن تضمن له مصادر الطاقة والغذاء، فالوضع المزري للسوريين الذين يعيشون في مناطق سيطرته يتفاقم كل يوم، وقد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه، وربما يقلب الطاولة على بوتين وربيبه بشار، وهذا المصدر هو منطقة الجزيرة السورية.

تركيا التي تسيطر على مناطق مهمة من سوريا، والقادمة إلى انتخابات جديدة، والتي بدأت تعاني من ملف اللاجئين السوريين على أراضها، والتي ترى أن خطها الأحمر الأهم هو صيغة الوجود الكردي على حدودها

وإيران الغارقة هي الأخرى بحصارها الاقتصادي واتفاقها النووي، ومشكلاتها الداخلية، تريد أيضا بقاء بشار الأسد كي تتفرغ لاتفاقها النووي، ولكي تواصل توطيد ركائزها داخل سوريا، وداخل المجتمع السوري، ومن مصلحتها أن يتجمّد هذا الصراع على نحو يتيح لها الإبقاء على ما حققته وتطويره.

تركيا التي تسيطر على مناطق مهمة من سوريا، والقادمة إلى انتخابات جديدة، والتي بدأت تعاني من ملف اللاجئين السوريين على أراضيها، والتي ترى أن خطها الأحمر الأهم هو صيغة الوجود الكردي على حدودها، وهي لن تمانع في بقاء بشار الأسد، شريطة أن يضمن لها إنهاء الوجود الكردي على حدودها، خصوصاً أنها شكلت منطقة آمنة لحدودها غرب الفرات، وبقي أن تضمن وجود منطقة آمنة شرقه.

تبدو مصالح الأطراف الثلاثة المذكورة أعلاه، قابلة للتحقق وفق الصيغة الآتية:

  1. لا تمانع تركيا تسلّم الجيش السوري لكامل حدود سوريا مع تركيا شرق الفرات، وهي باتفاقها هذا تصبح قادرة على سحب ورقة اللاجئين السوريين من يد المعارضة التركية، عبر برنامج إعادتهم عنوة إلى مناطق تخضع لسيطرتها وإدارتها.
  2. لا يمانع بشار الأسد بقاء القوات التركية غرب الفرات، وفي مناطق وجودها.
  3. روسيا تضمن بقاء بشار الأسد التابع لها في موقع القرار.
  4. تحاول الأطراف الثلاثة إقناع أميركا بصيغة الحل المؤقت هذا.

قد يرضي هذا الحل مؤقتاً كل الأطراف، لا سيما أن الظروف الخاصة لها كلها شديدة التعقيد، لكن ماذا يعني هذا بالنسبة للسوريين كلهم، سواء من يعيشون في مناطق سيطرة بشار الأسد، أو من يعيشون خارجها؟

إن تجميد الصراع السوري على الصورة التي ذكرت سابقاً، يعني أن مرحلة أخرى في معاناة السوريين واستمرار مأساتهم قد بدأت، وأن مصير سوريا كدولة واحدة يتراجع بشكل كبير لصالح تقسيمها، وعلى الرغم من احتمال حصول بعض الانفراجات على مستوى المعيشة، لكنها ستكون انفراجات عابرة هدفها تمرير صيغة الاتفاق، وتكريس مناطق نفوذ واضحة لكل طرف.

من المقدمات الضرورية أيضاً، لتجميد الصراع في سوريا هو إجراء "مصالحة صامتة"، لكنها علنية، بين طرف يدّعي تمثيله للمعارضة السورية وتحدد شخصياته تركيا وروسيا، وبين "النظام"، على أن يتم تسويقها دولياً كصيغة مؤقتة لإنهاء الصراع في سوريا، وعلى أنها أفضل الصيغ الممكنة ضمن معطيات الواقع الراهن، الأمر الذي يعني إبقاء بشار الأسد، وإبقاء النفوذ الإيراني والروسي كما هو، والإبقاء على الوجود التركي أيضاً كما هو.

مصلحة كل الأطراف – ما عدا الشعب السوري – تكمن في الذهاب إلى مصالحة صامتة، تبقي بشار الأسد في الحكم، وتحافظ على ماء وجهه، والأخطر أنها تجنّبه المحاسبة على كل الجرائم التي ارتكبها

لكن لماذا يختارون "المصالحة الصامتة"، وما ظروفها، وماذا تعني؟

المصالحة الصامتة يتم اللجوء لها عادة للخروج من الأزمات المستعصية في نزاعات غير قابلة للحسم، وتختار بناء على أمرين أساسيين: الأول أن أطراف النزاع ترى صعوبة بالغة، وربما استحالة، في إنهاء الصراع على المدى القصير أو المتوسط لصالحها، مع ما يعنيه هذا من استمرار استنزاف كل أطراف الصراع. أما الأمر الثاني فيتعلق بعجز أطراف النزاع عن دفع استحقاقات المصالحة التقليدية الشاملة، التي تؤسس لحل سياسي قابل للحياة، والتي تكون المحاسبة جزءا أساسيا فيها، وتتطلب أساساً وجود استعداد مجتمعي للقيام بها وقبولها.

مما سبق يتضح أن مصلحة كل الأطراف – ما عدا الشعب السوري – تكمن في الذهاب إلى مصالحة صامتة، تبقي بشار الأسد في الحكم، وتحافظ على ماء وجهه، والأخطر أنها تجنّبه المحاسبة على كل الجرائم التي ارتكبها،، كما أنها تحافظ على ماء وجه "مدّعي المعارضة"، وتجنبهم غضب الشارع السوري، والأهم من مصالح "النظام" ومدّعي المعارضة، أنها تضمن مصالح الأطراف الدولية الفاعلة، لكنها قبل كل شيء وفي الجوهر فإنها تعني بدقة، هدر حقوق السوريين، وترك الشعب السوري غارقاً في مأساته، وتهيئ لتفتيت سوريا.

إن استهتار الأطراف الخارجية الفاعلة في الصراع السوري بمصير السوريين وبحقوقهم، وبالتضحيات الكبيرة التي دفعوها، ولا يزالون، يضع السوريين جميعهم أمام السؤال الأهم في تاريخهم المعاصر، والذي يمكن تكثيفه بالقول: إلى أي مستقبل نحن وأجيالنا ذاهبون، وماذا يجب علينا فعله كي لا نخسر حاضرنا ومستقبلنا؟