بشكل مفاجئ وعلى نحو غير مسبوق لم يعهده السوريون، انتشرت خلال الفترة القليلة الماضية "تجارة المشاهدات" على منصات التواصل الاجتماعي في مناطق سيطرة النظام، عبر محتوى كله إغراء ودعوات جنسية بمشاهد تمثيلية لشبان وشابات غير معروفين، وعبر "تجارب اجتماعية" و"اعترافات جريئة". تتجرّأ هذه الصفحات التي تحصد مشاهدات كثيرة على معتقدات النسبة العظمى من المجتمع السوري دون أن تقدم عبرة أو درساً أو على أقل تقدير، فناً، رغم الرقابة والتشديد الأمني على الصفحات والعاملين في هذا المجال.
لم تأخذ عملية رصد هذا المحتوى وقتاً طويلاً، فما أن تتابع أول فيديو حتى يقترح عليك فيسبوك بخوارزميته الجديدة سيلاً من الفيديوهات والصفحات، لتنتقي بين العناوين: "الجار الوقح حل مشكلتو بغرفة نوم جارتو"، "فجأة عجبها الشب وصارت بدها تزبطو بأي طريقة"، "ضيف علبة حلو لجارتو ، ولكن طلبت منو شغلات غريبة"، "زوجها فات عالبيت وهي عم تخونه.. شو صار؟"، "ماعم تقرب على زوجها لانو عم تخونو مع اخوه وحماتها حاسة عليهم".
والمشترك بين هذه الفيديوهات ليس طريقة صياغة العنوان بأسلوب جنسي ومغر، إنما صورة الفيديو (thumbnail) أيضاً والتي تركز على مفاتن الشابة أو الشاب.
تختص كل من تلك المنصات بمجال معين، فمنها تقدم ما تسميه "تجارب اجتماعية"، وأخرى تنشر مقالب أو لوحات "كوميدية"، وبعضها يركز على فئة الشباب وواقعهم، بالإضافة إلى تلك التي تهتم ببث اعترافات أشخاص أخطؤوا بحق أناس مقربين منهم، وغيرها كثير، وهنا اختصاص صفحات "إيكو الواقع" و"ريالتي ميديا"و"محكمة الغلابة"
اللافت في أمر جميع تلك المنصات أنها تشترك بالتجرأ من خلال طرح مواضيع تعتبر محظورة في أدبيات وأخلاقيات النسبة العظمى من السوريين، والتركيز على قضايا تتعلق بالحياة الزوجية وتفاصيلها الدقيقة، والعلاقات غير الشرعية، إضافة إلى التطبيع مع المخدرات ومتعاطيها.
وأكثر ما يلفت الانتباه من بين تلك المنصات، هي المختصة بتقديم "اللوحات الكوميدية" ويشارك فيها شبان هواة في التمثيل، ممزوجة بمشاهد الإغراء في المظهر ونبرة الكلام، وطريقة التصوير التي تتعمد إظهار تفاصيل أجساد المشاركات، وتركيزها على قصص الخيانة الزوجية وتسويقها على أنها سهلة ومنتشرة في المجتمع وعلى العلن.
في السياق والمتابعة المستمرة لهذا المحتوى الذي يهدف للربح على حساب السمعة، يمكن القول إنه يخلق انطباعاً للمتابع بأن ما يشاهده هو الغالب في المجتمع، فتنعكس الحقيقة وتضطرب المفاهيم وتثار الشكوك.
ومن بين تلك المشاهد ما قدمته إحدى المنصات على أنه "تجربة اجتماعية"، تظهر قيام شاب بطرق باب أحد المنازل بقصد طلب الماء، لتخرج شابة شبه عارية، وسرعان ما بدأت تراوده وتقنعه بالدخول إلى منزلها.
يضاف إلى ذلك كثير كثير من قصص الخيانات من قبل الرجل والمرأة على حد سواء، إلا أن معظم التركيز كان على إقامة العلاقات مع الجيران أو الأصدقاء أو حتى مع أشخاص من العائلة ذاتها.
تبرز صفحة رشا رستم كمثال عن المحتوى الإغرائي، وتغيب المعلومات عن الـ "ممثلة من الدراما والمسرح السوري" كما تعرف نفسها، سوى من بعض المشاهد في مسلسلات سورية.
وكذلك صفحة "شاهد TV" التي تعرف نفسها بـ "منشئى محتوى فيديو كوميدي"، وتبث محتواها الإغرائي الجنسي القصصي بلهجة لبنانية، دون توفر معلومات عن القائمين عليها والمشاركين في "التمثيل".
لا استنثاءات من الاستهداف
في ظل انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة في مناطق سيطرة النظام، والتي بلغت في دمشق 8 ساعات قطع وساعة وصل، يجد الأهالي بالهاتف المحمول وشبكة الإنترنت، وسيلة وحيدة لمعرفة ما يجري في العالم الخارجي، والهرب قليلاً من الأزمات المعيشية والاقتصادية التي تعصف بهم.
ولأن تلك المنصات تمتلك إمكانيات مادية كبيرة تمكّنها من ترويج إنتاجها بشكل يصل إلى القسم الأكبر من رواد مواقع التواصل الاجتماعي في سوريا، فإن مسألة خروج المشاهد التي تبثها أمام المتصفحين عدة مرات في اليوم الواحد هو أمر شبه محتوم.
ويكمن الخطر الأكبر في أن هذه المشاهد متاحة أمام الجميع الصغار والكبار على حد سواء، وبالتالي فإن تكرار مشاهدتها قد يشكل صورة سلبية ويزرع أفكار سيئة في أذهانهم خاصة الأطفال الذين يعتريهم الفضول وحب التجربة والتقليد.
ما هدف هذه المنصات؟
يعلم المتابع للحياة السياسية والإعلامية والاجتماعية في سوريا أن أي حدث أو تصرف مهما كان صغيراً أو كبيراً من الصعب أن يمر دون موافقة وإشراف الفروع الأمنية، ودون أن يكون يخدم النظام بالدرجة الأولى.
وبناء على ذلك، فإنه من المستحيل أن تنتشر تلك المنصات أو تعمل بعيداً عن الفروع الأمنية التي كانت في بداية الثورة السورية تلاحق من يُشتبه بامتلاكه حساباً على موقع فيسبوك أو تويتر.
الكاتب والسيناريست السوري حافظ قرقوط: ما تقدمه تلك الصفحات ليست حالة إبداع فكري أو فني، إنما هي تعطي صورة عما آلت إليه الأوضاع في سوريا من غياب للنظام والمؤسسات
وحول أهداف النظام من هذه المنصات، يقول الكاتب والسيناريست السوري حافظ قرقوط إن ما تقدمه تلك الصفحات ليست حالة إبداع فكري أو فني، إنما هي تعطي صورة عما آلت إليه الأوضاع في سوريا من غياب للنظام والمؤسسات، وتولي أناس منتفعين من الفساد زمام الأمور في البلاد.
وأضاف قرقوط في حديث لموقع تلفزيون سوريا: "هذه المشاهد ليست حالة طارئة أو عفوية، وإنما مخطط لها من قبل هيئات عليا في النظام، وتحمل رسائل داخلية وخارجية".
في المقابل، يرى الكاتب والمنتج السوري مضر عدس أنه من المحتمل أن تكون هذه المنصات زادت لأسباب اقتصادية كونها تعود بمردود مالي جيد، وبهدف وصول القائمين عليها إلى الشهرة بشكل سريع وتحقيق انتشار واسع.
وأوضح عدس في حديث لموقع تلفزيون سوريا أن نشر الفيديوهات الجدلية أو المثيرة للمجتمع السوري تحدث ضجة وتفاعلاً كبيراً من قبل الجمهور، وبالتالي تحقيق مرابح أكبر لأصحاب تلك المنصات.
ويستدل عدس على ذلك بالقول إن معظم ما تسميه المنصات "تجارب اجتماعية" هي عبارة عن تمثيليات مدفوعة سيئة النص والإخراج ومشاهدها غير منطقية، هدفها تحقيق أكبر كم من التفاعل والوصول.
ورصد موقع تلفزيون سوريا 4 شابات فاتنات شاركن مع عدد من اليوتيوبرز بصفات مختلفة، مرة زوجة رجل عجوز ومرة معلمة ثانوي ومرة شابة عادية تحب اللهو والسهرات والمشي في شوارع دمشق، على حد قولهن.
الكاتب والمنتج السوري مضر عدس: طالما أن هذه اللوحات لا علاقة لها بالسياسية فإن النظام لن يعارضها
وحول سبب سماح النظام بوجود تلك المنصات، قال عدس إن الفروع الأمنية لم تعد قادرة على السيطرة على فضاء السوشيال ميديا في سوريا، لكن لديها القدرة على إيقاف المنصات والعاملين فيها، إلا أنه طالما أن هذه اللوحات لا علاقة لها بالسياسية فإن النظام لن يعارضها.
ما الذي تريد هذه المنصات إيصاله؟
يقول حافظ قرقوط: "هدم القيم وتهشيم المجتمع بهذا الشكل، رسائل بأن النظام مستمر بالحرب على الشعب ومصرّ على إنهاء سوريا كدولة، ويثبت أنه كما هدم المدن والبلدات البراميل والصواريخ، يهدم القيم والروابط الأسرية ويحاول القضاء على تماسك الأسر وعلاقاتها الاجتماعية".
ويشدد محدثنا على أنه باعتبار أن معظم رواد مواقع التواصل هم فئة الشباب، فإن ذلك يعني أن النظام بعد أن دمر حاضر سوريا وماضيها، بات يركز على تدمير مستقبلها، من خلال بناء مجتمع "يسوده الانحلال الأخلاقي والضياع وغياب التركيز على بناء العلاقات أو الأسر السليمة".
وأردف: "إن دخول الحالة الانحلالية إلى الأسرة يعني دخول المجتمع ككل بها، كون الأسرة هي التي تشكل المجتمع، والمجتمع هو الذي يشكل الدولة، وهذا يعني أن النظام يحضر لأن لا تكون هناك دولة سوريّة عقب سقوطه في المستقبل كون الأسرة والمجتمع في حالة ضياع".
للدعارة أوجه ومستويات عدة، أعلاها الدعارة السياسية التي يمارسها النظام السوري والتي دمرت المؤسسات وأخمدت الأصوات فكانت هذه المشكلة الاجتماعية التي تطرق إليها التقرير سبباً سهل الحدوث، وقد يتكاثر هذا المحتوى بصفحات جديدة بفعل التردي الاقتصادي والتدهور المستمر سعياً لحفنة دولارات من شركات التواصل الاجتماعي، وذلك بتسجيل الصفحات في دول خارج سوريا المشمولة بالعقوبات المتضمنة شركات التواصل الاجتماعي.