"بالعربي الفصيح جوعاااان".. هكذا برر رجلٌ يُدعى بدر الجسّاس، من بلدة الصور بريف دير الزور، السبب الذي دفعه لعرض كليته للبيع، وذلك عبر مقطع فيديو انتشر قبل أسبوعين على مواقع التواصل الاجتماعي، ليكون واحداً من مئات الأشخاص الذين دفعتهم الظروف المعيشية إلى بيع أعضاءٍ من جسدهم، أو التفكير، بذلك بحثاً عن لقمة العيش، ما أسهم في انتعاش تجارة الأعضاء البشرية في مناطق سيطرة النظام.
انتشرت في الآونة الأخيرة إعلاناتٌ على مواقع التواصل الاجتماعي، لأشخاصٍ يعرضون كلاهم للبيع، بينما تجد في شوارع العاصمة دمشق، ومدن أخرى، ملصقاتٍ يُطلب فيها متبرعون بكلى من زمرٍ دم معينة، وأرقام للتواصل مع طالب الكلية بشكلٍ علني.
ولا تقتصر تجارة الأعضاء على بيع وشراء الكلى، بل هناك من يبحث عن قرنية عين، أو جزءٍ من الكبد أو الطحال، أو خصية، أو أوردة، حيث يستطيع المتبرع إكمال حياته رغم تبرعه بتلك الأعضاء.
سوق على مواقع التواصل الاجتماعي
الفقر والغلاء الفاحش وندرة فرص العمل والرغبة في السفر، كانت أسباباً رئيسية دفعت كثيراً من الأشخاص إلى بيع أعضائهم، لكن أغلبهم لجأ للإعلان عن ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي بشكلٍ سري، ما جعلها سوقاً لتجارة الأعضاء البشرية، بينما بات آخرون يتاجرون بأعضائهم علناً بلا خوف لشدّة فقرهم رغم المساءلة القانونية كما فعل بدر الجسّاس.
ويعمد من يرغبون في بيع أعضائهم البشرية، إلى نشر إعلاناتٍ بأسماءٍ وهمية، بدلاً من التصريح باسمهم الحقيقي، كما أنهم يرفضون كتابة أرقام هواتفهم، ويطلبون التواصل معهم عبر تطبيق "الماسنجر"، خوفاً من الملاحقة الأمنية، إضافةً إلى إخفاء الـIP الذي يتصلون منه بالإنترنت، كي لا يتم تحديد موقعهم عبر "الجيش الإلكتروني".
من خلال البحث على موقع "فيس بوك"، الذي يعتبر أكثر منصات التواصل الاجتماعي التي تشهد إقبالاً للإعلان عن تجارة الأعضاء، رصدنا الكثير من الإعلانات لأشخاصٍ يرغبون في بيع كليتهم، ومنهم شخص يحمل حسابه اسم "مجهول مجهول"، حيث عرض منشوره على كروب اسمه "شباب وصبايا الساحل للبيع والشراء".
يقول "مجهول مجهول" في منشوره: "بدي بيع كليتي زمرة الدم +B، يلي بيعرف حدا بدو كلية يحكيني عالخاص. بعرف أنو صحتي أهم والناس رح تقلي حرام عليك. لاحدا يتمسخر لأنو ماحدا بيعرف ظروفي، ما بدي مساعدة ولاحدا يتحنن عليي. بدي بيع كليتي وبس".
تواصلنا مع صاحب الحساب، لمعرفة الأسباب التي دفعته للإقدام على بيع كليته، فقال إن "عمري 22 سنة وأقيم في دمشق، وكنت أدرس في كلية الآداب، لكن والدي توفي ووالدتي مريضة، ولم يعد هناك معيل لنا، فقررت ترك الجامعة والبحث عن عمل لكن لم أجد، فلم يكن أمامي خيار سوى بيع كليتي".
يضيف الشاب "استفسرت عن الأسعار، وعلمت أن سعر الكلية الواحدة اليوم يتراوح ما بين 150 - 200 مليون ليرة سورية، ويختلف السعر حسب عمر الشخص وخلوه من الأمراض، لذا قررت بيع كليتي بـ 160 مليوناً"، مشيراً إلى أنه "يعرف طبيباً جرّاحاً يعمل في مشفى خاص بدمشق، ويتكفّل بإجراء اختبار الأنسجة واستئصال الكلية وزرعها بشكلٍ سري، مقابل أربعة ملايين ليرة".
مافيات تتربّص بالفقراء
سبق أن اعترفت صحيفة "البعث" التابعة للنظام، في تحقيقٍ لها في العام 2020، بأن الإتجار بالأعضاء البشرية يُمارس بشكلٍ علني أو شبه علني، عبر مافيات ومنظماتٍ طبية وغير طبية، تستغل غياب الرقابة بشكلٍ تام، وتشتري الأعضاء من المواطن، مقابل نحو 15 ألف دولار ثمن الكلية الواحدة مثلاً، وتبيعها داخل البلاد أو خارجها بأسعارٍ مضاعفة، إلا أنها حذفت التقرير بعد يومين لأسباب مجهولة.
وقال مصدر خاص في القصر العدلي بدمشق، مطلع على تحقيقات بخصوص عصابات بيع الأعضاء، لموقع "تلفزيون سوريا"، طلب عدم كشف اسمه، إن "عمليات تجارة الأعضاء تقف خلفها عدة أطراف، فبعضهم سماسرة يعملون لكسب المال ولديهم شبكة علاقات، وفي الغالب يكونون محامين، حيث يتصيّدون أي شخص يبحث عن كلية أو يود عرضها للبيع".
وأشار المصدر إلى أن "بعض السماسرة يعمل في مكاتب خاصة تحت ستار المحاماة، ولاسيما في ساحة المرجة وشارع الثورة بدمشق، أو حي الحمدانية بحلب".
ويؤكد أن "هناك عصابات تعمل في تجارة الأعضاء مرتبطة بالأفرع الأمنية للنظام أو ميليشيات إيران، وتتم عمليات الإتجار عبر خطف أشخاص، أو سحب أعضاء من المعتقلين، أو ابتزاز شخص يود بيع أحد أعضائه، وتهديده بالتصفية أو الاعتقال".
وأشار المصدر إلى حادثة العثور على جثة شابة، مرمية إلى جانب الطريق قرب مدينة حماة، وكانت تلك الفتاة مخطوفة، وبعد تشريح جثتها، تبيّن أن كليتها وقرنيتيّ عينيها مأخوذتان منها.
"الفقر جعل أغلب السوريين ضحايا تجّار الأعضاء"، يقول شاب من مدينة حلب، فضّل عدم ذكر اسمه، "قررت اللجوء إلى أوروبا بسبب الوضع المعيشي المزري، ولم يكن أمامي خيار لتأمين تكاليف السفر سوى بيع كليتي، فنشرت إعلاناً على الفيس بوك. تواصل معي شخص على الماسنجر، وأخبرني أنه سمسار ويعمل في هذا المجال بشكلٍ سري".
يوضح الشاب "في البداية رفضت التعامل مع السمسار، لكن أخبرني أن لديه خبرة ويعرف الخطوات التي يجب اتباعها للحصول على موافقة اللجنة الطبية لإتمام عملية الزرع بلا أي مساءلة. وبعد التفكير وافقت على ذلك، ليبدأ السمسار بتأمين أشخاصٍ لشراء كليتي، حيث فشلت عملية تطابق الأنسجة مع ثلاثة مرضى، وفي المرة الرابعة نجح الاختبار، وقمت ببيع كليتي مقابل تسعين مليون ليرة سورية، بينما طلب السمسار عشرة ملايين له".
يؤكد المصدر في القصر العدلي أن عمليات تجارة الأعضاء التي تقوم بها المافيات، تتم بالتعاون مع أطباء يعملون في مشافٍ خاصة أو حكومية، بشكل سري في أغلب الحالات، مقابل تقاضي أجور معينة، والتكتم على ما يحصل في غرف العمليات.
جريمة بغطاءٍ قانوني
تنص المادة الأولى من القانون رقم 30 للعام 2003 على أنه "يجوز للاختصاصيين في المستشفيات، نقل عضو ما أو أحشاء أو جزءاً منها، كالقرنية أو الكلية أو غير ذلك من الأعضاء، وحفظه أو غرسه أو تصنيعه لمريض يحتاج إليه، بشرط ألا يكون ذلك مقابل بدل مادي أو بغاية الربح".
في حين يُعاقب القانون نفسه كل من يعمل في تجارة الأعضاء، بالأشغال الشاقّة المؤقتة، وبالغرامة من 50-100 ألف ليرة.
وقال المحامي جمعة الأحمد لموقع "تلفزيون سوريا" إن "القانون 30 الذي أصدره الأسد، شجّع على تجارة الأعضاء، ومنحها غطاءً قانونياً بدلاً من ضبطها"، مشيراً إلى أن النظام يعلم تماماً أن عملية التبرّع حين تتم لشخصٍ غريب، فلا شكّ أن المتبرع لم يعطِ قطعة من جسده ويُعرّض حياته للخطر لوجه الله، وبالتأكيد تقاضى منه مبلغاً من المال".
وأضاف المحامي أنه "يمكن التحايل على القانون 30 ببساطة، من خلال كتابة كلمة تبرع، وبالتالي لا يمكن إدانة المتبرع ومحاكمته بتهمة تجارة الأعضاء، طالما أنه لم يعترف بتقاضي مبلغ مادي، ما يعني أن المتبرع والشاري، لن يُعاقبا إلا إذا تم ضبطهما بالجُرم المشهود على هذا الفعل الذي يمكن أن نسميه جريمة صامتة".
وأكد الأحمد على أنه " قانونياً لن يكون بالإمكان تأكيد حدوث الجرم، إلا إذا قامت القوى الأمنية بعمل فخ لمن يود التبرع بأحد أعضائه، عبر ادعاء أحد عناصر الأمن أنه يود الشراء منه، وهذا أمر يستطيع أي محامٍ التملص منه في المحكمة".
ومع استمرار تدهور الواقع المعيشي في مناطق سيطرة النظام وغلاء الأسعار وغياب فرص العمل، وجد بعض السوريين أن الحل الوحيد للبقاء على قيد الحياة، هو بيع قطعةٍ من جسدهم، فهي بالنسبة لهم خيط الأمل الأخير لإطعام أطفالهم والهروب من هذا الواقع المرير الذي فرضه نظام الأسد عليهم.