بغض النظر عن المصطلح الذي استخدمته الوفود المشاركة في الجولة الأخيرة من مسار أستانا حول تثبيت خطوط التماس بين قوات النظام وفصائل المعارضة، فإن الواضح أن الدول الضامنة للمسار قررت إعلاناً شبه رسمي لنهاية العمليات العسكرية في سوريا.
لم يقدم البيان النهائي للجولة الخامسة عشرة من مفاوضات هذا المسار تفاصيل مهمة، واستغرق بالكلام الإنشائي عن الاتفاق على الحفاظ على الهدنة في إدلب، وكذلك أعمال اللجنة الدستورية، بالإضافة إلى غيرها من الملفات والتفاصيل الثانوية، لكن الأهم هو التوافق على استمرار وقف إطلاق النار شمال غربي سوريا.
نظرياً، لا تستطيع هذه الدول، ولا وفدا النظام والمعارضة بطبيعة الحال، استخدام مصطلح (تثبيت خطوط التماس) في اتفاقية رسمية، فهذا مصطلح له مدلولات سياسية وقانونية تفيد بالموافقة على/ أو التمهيد للتقسيم، الأمر الذي تصر كل الأطراف على رفضه له، وعليه كان اللجوء إلى مصطلح تجديد الهدنة والحفاظ عليها.
أما عملياً، فإن كل المؤشرات تؤكد أن ما توافقت عليه روسيا وتركيا، بالإضافة إلى إيران، هو الحفاظ على الوضع الميداني القائم حالياً، بحيث تحتفظ المعارضة بمناطق سيطرتها في كل من إدلب وريفي حلب واللاذقية، وإعادة وضع الطرق الدولية في الخدمة، مقابل عدم تعرض هذه المناطق لأي هجمات عسكرية أو عمليات قصف من قبل حلفاء النظام وقواته.
أما عملياً، فإن كل المؤشرات تؤكد أن ما توافقت عليه روسيا وتركيا، بالإضافة إلى إيران، هو الحفاظ على الوضع الميداني القائم حالياً
المؤشر الأول هو إنجاز الاتفاق خلال وقت قصير جداً في اليوم الأول من جلسات الجولة الخامسة عشرة التي عقدت في منتجع سوتشي الروسي، كتتويج لمحادثات ومفاوضات سابقة بين الجانبين الروسي والتركي سبقت انعقاد الجولة بوقت غير قصير، بحيث جاء اللقاء ليضع اللمسات الأخيرة على هذا الاتفاق.
المؤشر الثاني كان حديث رئيس وفد المعارضة إلى مؤتمر أستانا قبل بدء الجولة الأخيرة منه يوم الثلاثاء الماضي عن هذه النقطة، حين أكد أن جدول أعمال الجولة يتضمن، بالإضافة إلى مناقشة مفاوضات اللجنة الدستورية، العمل على تجديد الهدنة في إدلب وتثبيت خطوط التماس.
أما المؤشر الأهم فهو إطلاق حكومة الإنقاذ في إدلب مشاريع عمرانية واستثمارات عديدة في الأشهر الأخيرة الماضية، لعل أبرزها تمديد خطوط التيار الكهربائي من تركيا إلى إدلب، وهو أمر لم يكن ليحدث لولا وجود تطمينات سياسية من قبل أنقرة، إلى جانب التطمينات الميدانية التي يؤكد عليها الانتشار الكثيف للقوات التركية في المنطقة وإرسالها تعزيزات مستمرة إلى هناك.
لقد كان واضحاً منذ البداية أن الهدف من هذا المسار السياسي عسكري بامتيار، وهو أن يتم إدارة الحرب وتوجيه طرفي الاشتباك (النظام والمعارضة) نحو نقطة صفر جديدة لا يمكن لأي منهما تجاوزها، وتوقع الكثيرون منذ سنوات أن يكون طريقا حلب-دمشق وحلب-اللاذقية هما خطوط التماس الأساسية بين الجانبين، وعليه فقد كانت جميع المعارك وجولات القتال السابقة مجرد تحصيل حاصل، لكنه مكلف جداً وقاس على المدنيين ومقاتلي الفصائل الذين دفعوا أثماناً مؤلمة قبل الوصول إلى هذه النقطة.
ومع الوصول إليها، ربما يكون مسار أستانا بمجمله قد استنفد أغراضه ووصل إلى نهايته، ولن يكون مفاجئاً لو أعلنت الدول الراعية له عن اجتراح مسار سياسي جديد، خاصة مع البرود الشديد التي تعاملت به هذه الدول مع الجولة الأخيرة، حيث اقتصر الحضور على المساعد الثاني لوزير خارجية كل منها، في إشارة واضحة إلى تراجع اهتمام هذه الدول بالمسار الذي وجد الجميع نفسه مضطراً إليه حتى اليوم، بما في ذلك النظام والمعارضة.
أما فيما يتعلق باللجنة الدستورية التي هي من نتاج مسار أستانا، فهي الأخرى تكاد تستنفد الأغراض التي أوجدت من أجلها، ولعل بلوغ النظام موعد الانتخابات الرئيسية سيكون كل ما يريده، هو وروسيا، من الصبر على مفاوضات اللجنة التي جر إليها مكرهاً، وبالتالي فقد لا يكون غريباً أيضاً أن تعقد الجولة القادمة من أعمالها فقط من أجل كسب المزيد من الوقت بانتظار أن يخترع العالم مقاربة جديدة لإدارة الملف السوري أو إيجاد مخارج للاستعصاء الذي يعيشه.