أعلنت وزارة الزراعة في الحكومة السورية المؤقتة، في شهر تشرين الثاني الماضي، عن بدء توزيع بذور القمح على المزارعين بريف حلب الشمالي، في إطار مشروع خاص بدعم إنتاج القمح والخضراوات، إلا أن عدم كفاية كميات البذار المحلي فتح الباب لدخول أنواع تركية، في خطوة وصفها خبراء بأنها عملية "تتريك القمح السوري" لدوافع ربحية وشراكات تجارية، منتقدين جدواها الإنتاجية حيث إنها تتطلب معدلات ري كبيرة في منطقة تواجه الجفاف منذ 3 سنوات.
ويهدف مشروع الحكومة المؤقتة برعاية صندوق الائتمان لإعادة إعمار سوريا لدعم مزارعي القمح والخضر في شمالي حلب لزراعة 4000 هكتار من القمح، و500 هكتار من الخضر، وتشمل أنشطة المشروع توزيع بعض المدخلات على المزارعين المستفيدين، مثل بذور القمح من الإنتاج المحلي من المؤسسة العامة لإكثار البذار، وأسمدة مركبة، وبذار وشتول خضر من إنتاج البيوت البلاستيكية للمديرية، ومبيدات حشرية وفطرية.
وبينما أعلنت الحكومة المؤقتة أن بذور القمح الموزعة أُنتجت محلياً عام 2022، تحدثت عدة مصادر عن انتشار بذور تركية في شمال غربي سوريا تنافس البذور المحلية، تزامن هذا مع شكاوى من أن البذور التركية تحتاج إلى معدل ري أكثر من الأصناف السورية.
وتطرح هذه الشكاوى استفسارات عن الفروقات بين البذور المحلية السورية ونظيرتها التركية، وفيما إذا كان مشروع الحكومة المؤقتة لتوزيع البذور كافياً لتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، وخطط الحكومة لتفادي أي أزمة قد تنتج مستقبلاً بهذا الصدد.
خطة لتحقيق الاكتفاء الذاتي
قدّر رئيس قسم المشاريع في المؤسسة العامة لإكثار البذار المهندس عبد الحميد الكرج، احتياج مناطق شمالي حلب فقط، من بذور القمح، بنحو 6000 - 7500 طن، مضيفاً أن المؤسسة تسهم حالياً بتغطية نحو 40 - 50 بالمئة من الاحتياج، ولديها خطة للوصول إلى الاكتفاء الذاتي من خلال التواصل مع بعض المانحين لزيادة المساحات المخصصة لإنتاج البذار.
وعن احتياج المناطق الزراعية لبذور القمح في مناطق سيطرة الجيش الوطني بشكل عام، في "درع الفرات" و"غصن الزيتون" و"نبع السلام"، أفاد "الكرج" بأن الكمية تقدر بنحو 30000 طن.
وتبدأ زراعة القمح في كل عام مع موسم الأمطار في شهري تشرين الثاني وكانون الأول، ووفقاً لـ "الكرج"، يوجد لدى المؤسسة العامة لإكثار البذار 17 صنفاً من بذور القمح المحلية التي تعتبر ملائمة لكل المناطق والبيئات السورية، وذات مقاومة للممرضات ومتحملة لظروف الجفاف، حيث تم إنتاجها من قبل جهات بحثية محلية ودولية.
ما الفرق بين البذور المحلية والتركية؟
أكد "الكرج" في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، انتشار العديد من أصناف البذور التركية في الشمال السوري، معتبراً أن ذلك لم يكن مبنياً على أسس علمية، ولم يتم بالتنسيق مع المؤسسة العامة لإكثار البذار.
وعن مردود البذور التركية، قال "الكرج"، إنه في ظل ظروف الجفاف والصقيع التي ضربت مناطق شمالي حلب خلال المواسم الثلاثة السابقة، تأثرت أصناف القمح التركية ولم تعطِ إنتاجاً جيداً، ولوحظ أنها تحتاج إلى معدل ري أكثر من الأصناف المحلية السورية.
ولدى مؤسسة إكثار البذار، كثير من الأصناف المحلية المتأقلمة مع ظروف الجفاف والظروف الجوية ومتحملة لنقص الرطوبة، على عكس الأصناف التركية التي يتطلب نجاح زراعتها توافر مصادر الري في كل مراحل نمو النبات، إضافة إلى تأقلمها مع الظروف المناخية السائدة في شمالي حلب، حسب "الكرج".
وأُنتجت أصناف بذار القمح المحلية السورية، من قبل المؤسسة العامة لإكثار البذار بالتعاون مع "معهد غاب" للأحداث الزراعية في تركيا وتمتاز - وفق المسؤول - بالتأقلم مع الممرضات المحتملة كالأصداء والتفحمات وغيرها، ومع ظروف الجفاف، إضافة إلى أنها مرغوبة عالمياً لصناعة المعكرونة، ولذلك يفضلها المزارع السوري، ولإنتاجيتها العالية وتحقيقها أرباحاً اقتصادية مجزية.
مديرية زراعة كلس تميل للبذور التركية
تختلف وجهات النظر بين المؤسسة العامة لإكثار البذار، ومديرية زراعة ولاية كلس جنوبي تركيا، حول زراعة بذور القمح المحلية أو التركية، حيث تعتبر الولاية أن البذور التركية أفضل من السورية، بينما ترى مؤسسة إكثار البذار العكس.
وقال "الكرج"، إن أصناف القمح التركية جيدة وعالية الإنتاج، ولكنها بحاجة إلى كميات مياه أكثر، وبالتالي تصبح غير مناسبة لمناطق الشمال السوري، في ظل ظروف الجفاف وقلة الأمطار، وعليه، فإن المزارع السوري يفضّل الأصناف المحلية على الأصناف التركية.
ووفقاً لرئيس قسم المشاريع في المؤسسة العامة لإكثار البذار، ترى مديرية زراعة كلس، أن البذار التركي أفضل من البذار المحلي، بذريعة انخفاض نسبة الإنبات في الأصناف المحلية.
تعليقاً على ذلك، قال "الكرج": "هذا غير صحيح، بل نسبة الإنبات عالية في الأصناف المحلية، ويمكن التأكد من ذلك من خلال زيارة الحقول التي تم زراعتها بالأصناف المحلية، ومشاهدة قوة النمو وعدم وجود أي فراغات بالحقول ناتج عن عدم الإنبات".
ارتفاع نسبة "الخلط" في الأصناف المحلية يعد أحد أسباب تفضيل مديرية زراعة ولاية كلس للبذور التركية، لكن "الكرج" يرد بالقول: "الخلط في البذور المحلية كان خلال السنوات الماضية، ولكن حالياً، وخلال السنوات الثلاث الماضية، وبفضل البرنامج المشترك للحفاظ على الأصناف المحلية وإكثارها بالتعاون مع معهد غاب للأحداث الزراعية بأورفا التركية، يتم سنوياً الحصول على كميات نقية من البذار المحلي النقي، وبذلك أصبحت الأصناف المحلية ذات نقاوة عالية".
نقص في البذور والجودة ضعيفة
تعاني منطقة ريف حلب الشمالي من نقص في بذور القمح، وقال خبير في شؤون الزراعة والأمن الغذائي لموقع تلفزيون سوريا إن المؤسسة العامة لإكثار البذار لا تكفي حاجة المزارعين، ما يدفعهم لشراء الأصناف التركية، أو أصناف أخرى متوافرة لدى التجار.
ونفى الخبير وجود شكاوى من نوعية البذور التركية، لأن المزارع أمام خيارات متعددة وغير مجبر على شراء صنف محدد، فيمكن الاعتماد على البذور المحلية، أو نظيرتها التركية، كما نفى أن يكون القمح التركي بحاجة لمعدل أمطار أكثر، مضيفاً أن "إكثار البذار" تروج لهذه المعلومة في سبيل الحفاظ على الأصناف المحلية فقط.
في الوقت نفسه، هناك تباين بين البذور المحلية والتركية، حيث ذكر الخبير أن الأصناف المحلية لا تتمتع بالنقاوة الصنفية العالية، التي تسمح لها بالمنافسة كما كان الحال قبل سنوات، ما أفقدها ثقة المزارعين.
ويكمل الخبير: "كانت النقاوة الصنفية في القمح السوري تتجاوز 90 - 95 بالمئة قبل عام 2011، والآن أصبحت نسبة الخلط كبيرة، سواء في إدلب أو ريف حلب، وكان لدينا 24 صنفاً من القمح، وقررنا الحفاظ على 17 صنفاً منها بالحد الأدنى ولم نستطع".
ويضيف: "أنا كمزارع، لا أزرع بذور خليط، إما أن تكون طرية أو قاسية، مع معرفة اسم الصنف، مثل (دوما 2 - شام 4 - شام 12.. وغيرها)، والآن يوجد عدة أصناف خُلطت مع بعضها البعض، وهذا ينعكس سلباً على المزارع في أثناء بيع المحصول، ما جعله يحجم عن شراء البذور من المؤسسات الوطنية".
مشروع "قطر الخيرية" لتحسين أصناف القمح
كانت جمعية قطر الخيرية قد أنشأت بالتنسيق والتعاون مع المؤسسة العامة لإكثار البذار في الحكومة السورية المؤقتة، محطتين لإكثار أصناف بذور القمح المحلي وإنتاج مراتب عالية النقاوة منها، في منطقتي مارع واعزاز بمساحة 50 دونماً لكل منهما، تهدف إلى الحفاظ وتحسين أصناف القمح لإمداد المزارعين بها.
وأفاد المهندس الزراعي زكريا المطير، الذي يشرف على المشاريع الزراعية، ومسؤول برنامج الأمن الغذائي، في جمعية قطر الخيرية بأن محطات الإكثار تعتبر أساس استمرار إكثار بذار القمح للحفاظ على الأصناف ورفع نقاوتها وصولاً لإنتاج الكميات اللازمة من البذار الموثوق بها لسد حاجة المنطقة وتلبية رغبة المزارعين.
موسم القمح الماضي بالأرقام
بلغت مساحة الأراضي المزروعة بالقمح في مناطق عمليات "درع الفرات" و"غصن الزيتون" و"نبع السلام" خلال الموسم الماضي قرابة 454 ألف دونماً، تتوزع كالآتي (درع الفرات: 174 ألف دونم، غصن الزيتون: 70 ألف دونم، تل أبيض: 134 ألف دونم، رأس العين: 75 ألف دونم)، وذلك وفق إحصائيات حصل عليها موقع "تلفزيون سوريا" من الحكومة المؤقتة.
وتوقعت الحكومة في وقت سابق أن تُنتج منطقة "درع الفرات" 35611 طناً من القمح، و"غصن الزيتون" 14389 طناً، وتل أبيض 44349 طناً، ورأس العين 22500 طن، ليبلغ إجمالي الإنتاج المتوقع 116849 طناً.
تقدّر الحكومة احتياج منطقة ريف حلب الشمالي والشرقي للقمح بـ 185 ألف طن سنوياً، حيث تحتاج منطقة "درع الفرات" لـ 125 ألف طن، ومنطقة "غصن الزيتون" لـ 60 ألف طن، في حين يقدّر احتياج المنطقتين للدقيق (الطحين) بـ 150 ألف طن، فيما قُدّرت كميات القمح المتوقع تسويقها من قبل المؤسسة العامة للحبوب، والمؤسسة العامة لإكثار البذار للموسم الماضي بـ 20 ألف طن.
وشهدت مناطق سيطرة الجيش الوطني السوري خلال الموسم الماضي عمليات تهريب كبيرة للقمح نحو مناطق سيطرة النظام السوري وقسد، فيما أوضح وزير الاقتصاد في الحكومة المؤقتة أن إنتاج القمح في مناطق غرب الفرات ضعيف هذا العام، وهناك منظمات تشتري كميات من القمح وتستهلكها ضمن "المناطق المحررة" وهو أمر غير مؤثر طالماً أن القمح يبقى ضمن المنطقة.
وفي حال تم تهريب القمح، أو لم تكن الكميات كافية، فإن الحكومة المؤقتة ستلجأ في هذه الحالة لاستيراد القمح، ومما يخفف آثار العجز بين الإنتاج والاستهلاك، هو دخول كميات طحين إلى المجالس المحلية (نحو 50 ألف طن سنوياً من منظمة "آفاد" التركية)، إلى جانب استيراد الطحين من قبل الأفران الخاصة، حسب الوزير.