icon
التغطية الحية

تاريخ من الاستغلال.. حرب أوكرانيا تسقط ورقة التوت الأخيرة عن الرياضة

2022.03.10 | 05:25 دمشق

tlbtbla.jpg
لاعبو نابولي وبرشلونة يعرضون لافتة "أوقفوا الحرب" قبل مباراة في الدوري الأوروبي (رويترز)
+A
حجم الخط
-A

يشهد العالم أحداثاً كبرى في الأيام الماضية، منذ أن قررت روسيا اجتياح أوكرانيا بقوات برية لم تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وبقدر ما ستغير هذه الحرب خريطة العالم وتحالفاته، فقد غيرت نظرتنا لكثير من الأشياء وكشفت لنا أشياء أكثر، وفيها تم توظيف الإعلام والاقتصاد والسياسة وقيادة الرأي العام للتعاطف مع الضحايا الأوروبيين، وحتى الرياضة لم تسلم من ذلك.

سياسة ورياضة

لا يبدأ ارتباط الرياضة بالسياسة عند لحظة محددة، فمنذ اليوم الأول الذي عرفت فيه الرياضة شكلاً احترافياً، واكتسبت شعبية بين البشر، عرف السياسيون طريقهم إليها، ووظفوها لمصالحهم.

اختلفت هذه المصالح من سياسي لآخر، فأرادها بعضهم لإلهاء شعبه عن فساد نظامه وظلمه، وأرادها آخر لغسل سمعة دولته عن طريقها، واستخدمها أحدهم كقوة ناعمة في علاقته مع دول آخرى، والتاريخ مليء بالأمثلة.

استضافت إيطاليا نسختين من أول 3 نسخ لكأس العالم، حيث أراد موسوليني إلهاء شعبه بهذه البطولات، وكذلك التسويق لنظامه الفاشي أمام الجميع وإظهار الوجه المثالي له كما قال رئيس الاتحاد الإيطالي آنذاك، وقد نال موسوليني ما أراد، وعبر الرشاوى وإرهاب الحكم والتهديد بقتل اللاعبين إن خسروا، استطاع الفوز بالبطولتين.

كانت الأولمبياد كذلك ميداناً دائماً لنزاعات الدول، لم تشارك مصر والعراق ولبنان في دورة ملبورن 1956 احتجاجاً على العدوان الإسرائيلي على شبه جزيرة سيناء.

كما قاطعت الولايات المتحدة وألمانيا الغربية واليابان دورة موسكو 1980 بسبب الغزو السوفييتي لأفغانستان، والذي رد على ذلك وقرر رفقة 14 دولة حليفة مقاطعة دورة لوس أنجلوس 1984، وبذلك فإن صراعات السياسة كانت دائماً جزءاً أساسياً في منافسات الرياضة، ولم تنفصل عنها لحظة.

يتخطى الأمر ذلك في كثير من الأحيان، حيث يعتبر السياسيون الرياضة ميداناً لإثبات الأفضلية المطلقة وتحقيق انتصارات سياسية، استضاف هتلر أولمبياد 1936 واعتبر كل ميدالية يحققها الألمان دليلاً واضحاً على تفوق الجنس الآري.

وفي كتابه "لماذا تتحارب الأمم"، يرى ريتشارد نيد أستاذ العلاقات الدولية، أن الرياضة بمختلف أنواعها والميداليات الأولمبية ليست سوى ميداناً جديداً للحرب بين الدول، يقوم فيه الرياضي مقام الجندي بلا أي فارق.

طبقاً لشيلدون أندرسون، الباحث التاريخي المختص، فإن الحزب الاشتراكي الألماني الذي حكم ألمانيا الشرقية كان مقتنعاً بأن عدد الميداليات التي ستفوز بها البلاد في الأولمبياد هي الطريقة الأفضل لعرض نظامهم الاشتراكي وانتزاع الاعتراف الدبلوماسي بوجوده، وتحديداً مقارنة بألمانيا الغربية، حيث سيكون عدد الميداليات مقياساً لقوة النظامين.

وفي كرة القدم، فإن كثيرا من المباريات تحمل طابعاً سياسياً لا يخفى على أحد، ففي مونديال 1986 وحين واجهت الأرجنتين إنجلترا وسجل مارادونا هدفه الشهير بيده، صرح بعد المباراة أن ذلك كان انتقاماً من حرب الفوكلاند التى هٌزمت فيها الأرجنتين، وحين واجهت الجزائر فرنسا فإن سنوات الاحتلال ومليون شهيد كانا عنوان اللقاء بلا شك.

وبذلك فإن الرياضة لم تفترق عن السياسة يوماً، وكانت دائماً طرفاً في كثير من الأغراض السيئة، وإن كانت قد جمعت البشر حولها يوماً، فقد فرقتهم أياماً، وكانت شاهداً واضحاً على ممارسات عنصرية وظالمة واضحة.

الرياضة البريئة

يلقي الجمهور باللوم في كل ذلك على السياسيين لا على كرة القدم نفسها ومؤسساتها، لكن البعض يرى أن الرياضة لم تكن دائماً شريفة أو نزيهة، وكانت دائماً مرتعا للفساد والفاسدين وأداة لتضليل المجتمع.

وينظر هذا القسم من متابعي الرياضة السياسية أن مؤسسات الرياضة كالفيفا هي التي سمحت للسياسيين بفعل ذلك، وأقرت كل الأفعال ما دامت جيوبهم ستمتلئ، بل كان من الصدفة أنهم من سمحوا لبوتين نفسه أن يوظف الرياضة وكرة القدم تحديداً لمصلحته طوال سنوات.

منذ تقلد بوتين حكم روسيا، سعى لاستغلال شعبية كرة القدم حول العالم، وتوظيفها لتجميل صورته، وغسيل سمعته من كل ما ألحقه بها من جرائم.

وعبر الملياردير الموالي له إبراموفيتش، اشترى نادى تشيلسي الإنجليزي وأنفق خلال سنوات ما يربو على 1.5 مليار يورو دون أي عائد، وليس إبراموفيتش وحده، بل انطلق رجال الأعمال الروس ليسيطروا على الكرة الأوروبية بالكامل، فساهم "ليشر عثمانوف" في أرسنال وإيفرتون، و"ديمتري ريبولوفليف" في موناكو الفرنسي، وغيرهم في مختلف أندية أوروبا.

كما انطلق عبر شركاته الحكومية ليوقع عقود رعاية سخية مع أكبر مؤسسات أوروبا، كانت شركة الطيران الروسية "ايروفلوت" ترعى مانشستر يونايتد، وشركة "غازبروم" المسؤولة عن مد أنابيب الغاز الطبيعي والغنية عن التعريف بالطبع، كانت الراعي الرئيسي لنادي شالكة الألماني وهي من أنقذت النادي من الإفلاس، كما كانت أحد رعاة الاتحاد الأوروبي، وكان يحصل منها على 40 مليون يورو سنوياً كأغلى عقد رعاية حصله الاتحاد مؤخراً.

بالطبع لم يفعل بوتين ذلك لأنه يحب كرة القدم، بل فعل ذلك للسبب نفسه الذي جعله يستضيف كأس العالم 2018، ويستضيف قبله دورة الألعاب الشتوية في 2014، ويحرص على استضافة نهائي دوري الأبطال 2022 الذي كان مقرراً في منتصف العام الجاري.

وبينما كان يفعل كل ذلك، كانت المؤسسات الرياضية تتابع دون أن تحرك ساكناً، بل هي من سمحت له بمزيد من فرص الظهور واستعراض كاريزمته وحضوره، وتلقى المسؤولون الهدايا والأوسمة في فخر شديد، وعلى رأسهم إنفانتينو رئيس الفيفا الذي أهداه بوتين وسام الصداقة الأعلى في روسيا.

ازدواجية

لكن لعل السيد إنفانتينو لا يعلم، في 2018 حين وقف بجوار بوتين ليسلم كأس العالم، وبينما كان الثنائي يضحكان سوياً وتغمر الأجواء الاحتفالية الجميع، كانت طائرات بوتين تحصد أرواح الآلاف في سوريا، وأسلحته التي يستنكرها الجميع الآن كانت مصوبةً نحو ملايين المدنيين.

 

nmvbnm.jpg

 

ولعله لم يلحظ كذلك وقائع العمال الذين قدموا من كوريا الشمالية للعمل في ملاعب كأس العالم في ظروف أقرب للعبودية، ولعله لم يلحظ حين اجتاح بوتين شبه جزيرة القرم في أعقاب الألعاب الشتوية في 2014 مباشرةً.

لكن في 2022، وبعد أيام من غزو أوكرانيا، استيقظ المسؤولون هذه المرة، وقرروا إيقاف المنتخب الروسي من المشاركات الأوروبية، وكذلك إلغاء كل عقود الرعاية التي أبرمتها الشركات الروسية مع الكرة الأوروبية، وذلك ضمن ردود الفعل الرياضية الهادفة إلى عزل روسيا تماما في إطار الضغط على بوتين لوقف الحرب.

وفي إنجلترا، دخل اللاعبون المباريات على أنغام النشيد الأوكراني، وارتدى كباتن الفرق شارات عليها علم أوكرانيا، وأوصت لجنة الحكام بعدم إنذار أي لاعب يظهر التعاطف مع أوكرانيا.

 

 

وفي إيطاليا، رفع لاعب أتالانتا "روسلان مالينوفسكي" قميصه ليكشف عبارة مكتوباً فيها "لا حرب في أوكرانيا"، وفي إسبانيا كذلك، وُضعت كلمة "stop war" بجانب نتائج المباريات.

هي نفسها إسبانيا، التي كان يلعب بها "عمر كانوتيه" حين رفع قميصه داعماً فلسطين، فعاقبه الاتحاد الإسباني حينذاك، واعتبر ذلك مخالفة لللوائح التي تحظر توجيه أيّ رسائل سياسية أو دينية على أرض الملعب، وكذلك فعل الاتحاد الأفريقي مع "أبو تريكة" حين رفع شعار "تعاطفاً مع غزة" في 2008.

ولم يكن كانوتيه وتريكه وحدهما، بل تكرر ذلك المشهد مرات عديدة، وخرج الفيفا في كل مرة ليكرر أنه لا سياسة فى الرياضة، قبل أن ينسى الجميع في 2022 ما تنص عليه هذه اللوائح.

وكل ما تغير هو جانب المصلحة، والطرف الذي يوجه له التعاطف، وبتغييره، أصبح رفع الشعارات السياسية ممكناً، وبات إظهار التعاطف عملاً إنسانياً، وأفاق المسؤولون من غفلتهم ليصدروا القرارات ويوقعوا العقوبات، وكأن هذه أول حرب يشهدها العالم أو الجريمة الأولى لبوتين.

من الجيد بالطبع أن تتفاعل الرياضة مع الأحداث، ولا ينكر أحد بالطبع التعاطف مع المظلومين، لكن ما أثار الغضب وربما كان صادماً للبعض هو الازدواجية وتغير المواقف، والتباين الشديد بين المواقف رغم تشابه الجرائم.

في الحقيقة، لم يكن أي من ذلك صادماً، ولم يصدق أحد مزاعمهم من قبل ليفاجأ بالازدواجية الحاصلة الآن، لكن كل ما حدث، أن ورقة التوت التي حاولوا وضعها لسنوات سقطت في أيام معدودة، ورغم أن الكل كان يعلم بالعفن تحتها، لكن لم يتخيل أحد أن تسقط بهذه السهولة ودون محاولة للتظاهر ولو قليلاً.