منذ مطلع عام 2024، شهدت مناطق شمال غربي سوريا تصعيداً غير مسبوق في استخدام قوات النظام السوري للطائرات المسيّرة الانتحارية، والتي تحولت إلى أداة تدمير تقلب موازين الحياة في إدلب وما حولها من أرياف حماة وحلب واللاذقية، فلم تعد هذه المسيّرات، ذات الطابع التكنولوجي المتقدم والمرونة التشغيلية، مجرد سلاحٍ عسكريٍّ تقليدي، بل غدت معولاً يهدم الاقتصادات المحلية ويزعزع النسيج الاجتماعي، لتدفع السكان في مناطق المعارضة إلى حياة مليئة بالقلق والخوف من قصف قد يأتي في أيّة لحظة، وبأي هدف كان.
بدأت أولى ملامح هذا السلاح تظهر في استهدافات النظام خلال آب 2023، إلا أن استخدامه بقي محدوداً حتى شهر شباط من العام الجاري، عندما قرر النظام تكثيف الاعتماد على هذه الطائرات، لتصبح إحدى الأدوات الرئيسية في مواجهته للمناطق التي تقع خارج سيطرته.
باتت السماء محملة بالمسيرات الانتحارية التي تحلق على ارتفاعات منخفضة، مستهدفة كل ما يقف في طريقها، من منازل المدنيين إلى المزارع والطرقات والسيارات، لتزرع الرعب في كل زاوية وتجعل الحياة الطبيعية ضرباً من الخيال.
لم تقتصر آثار هذه الهجمات الجوية على الخسائر البشرية التي تزداد يوماً بعد يوم، بل تخطت ذلك لتلقي بثقلها على القطاعات الاقتصادية التي تشكل عماد الحياة في مناطق سيطرة المعارضة، فالزراعة، التي تمثل شريان الحياة الرئيسي لإدلب وريفها، تعاني الآن من تراجع حاد بسبب تهديد المسيّرات، إذ يخشى الفلاحون من الاقتراب من أراضيهم لجني محاصيلهم.
أما اجتماعياً، فقد انقلبت حياة السكان رأساً على عقب؛ فالنزوح يتزايد، والبلدات التي كانت نابضة بالحياة صارت تحمل همّ النزوح، ومدن أخرى تواجه تحديات التضخم في أعداد السكان، مما يفرض ضغطاً هائلاً على الخدمات الأساسية، من السكن إلى التعليم والصحة، ويجعل الحياة اليومية تحدياً مريراً للمدنيين الذين باتوا يفتقرون حتى لأبسط مقومات الأمان.
وفي هذا التقرير، نستعرض الآثار التي خلّفتها المسيرات الانتحارية، بين أضرار اقتصادية تهدد مصادر الرزق وانعكاسات اجتماعية تؤسس لجيل يرزح تحت وطأة القصف المستمر ويفتقر إلى الاستقرار.
الطائرات المسيّرة وآلية عملها
يعتمد النظام السوري في هجماته على مسيّرات انتحارية من نوع (FPV) تطير على ارتفاعات منخفضة لا تتجاوز 35 متراً فوق سطح الأرض، يتم استيرادها ثم تطويرها وتجهيزها بمساعدة خبراء روس في معامل الدفاع في حمص وحماة، حيث يتم استبدال منظومة الإرسال والاستقبال الخاصة بها للتحكم لمسافات أبعد تصل إلى 3.5 كم، بدلاً من منظومتها القديمة التي لا تتجاوز 1.5 كم، كما يتم تجهيزها بالحمولة المتفجرة التي يختلف نوعها بحسب استخدامها بين حمولات مضادة للدروع أو الأبنية أو الأفراد، ولا يتجاوز وزن الحمولة المتفجرة 2 كغ نظراً لعدم قدرة هذا النوع من المسيّرات على حمل أوزان أثقل.
وتواصل موقع تلفزيون سوريا مع المرصدين العسكريين في شمال غربي سوريا "أبو أمين 80" و"عمار أبو الحسن" للحصول على تفاصيل أوسع عن آلية عمل هذه الطائرات، ووفق المعلومات، يخضع إطلاق المسيّرات لآلية محددة، حيث يرتبط إطلاقها بوجود طائرات رصد لتحديد الأهداف، إذ تقوم طائرات الاستطلاع الروسية من طرازي Orlan-10 وOrlan-30 التي تتبع لغرفة العمليات الروسية وفروعها في كل محور قتالي بهذه المهمة، وبمجرد رصد هدف محدد، يتم إعطاء معلومات مفصلة عنه تشمل نوعه وإحداثياته ليتم التعامل معه بالحمولة المتفجرة المناسبة.
تتراوح مدة تحليق المسيّرات المستخدمة بين 9 و15 دقيقة حسب وزن الحمولة، وتقطع هذه المسيّرات مسافة 3.5 كم بين المشغل ونقطة الوصول، وهو الحد الأقصى لمنظومة الاستقبال والإرسال اللاسلكية الحالية للطائرة، ولكن في بعض الحالات تم تسجيل قصف أهداف أبعد، كما جرى عند استهداف تجهيزات شبكات الإنترنت على خزان مياه الصليب قرب قرية سرجة في جبل الزاوية على بعد 9 كم من خطوط التماس بتاريخ 2 آذار 2024، في هذه المسيّرات ذات المدى الأبعد، يتم تعديل حجم البطارية وتخفيض وزن الحمولة المتفجرة، وتعديل منظومة الاتصال لتكون الطائرة مرتبطة مع المشغل بجهاز مضخم للإشارة يتم تركيبه على إحدى التلال المرتفعة القريبة.
إحصائيات الهجمات بالطائرات المسيّرة
تختلف البيانات الصادرة حول أعداد الطائرات المسيّرة بين عدة جهات، ويعود هذا الاختلاف إلى تباين قدرة كل جهة على إحصاء جميع المسيّرات، خصوصاً تلك التي تستهدف خطوط التماس الأمامية أو التي يتم إسقاطها في تلك الخطوط، حيث لا يمكن رصدها إلا من قبل العسكريين.
ومنذ بداية عام 2024 وحتى تاريخ 25 تشرين الأول، بلغ عدد المسيّرات التي استهدفت المنطقة، وفقاً للمرصد العسكري "أبو أمين 80"، (382) مسيرة، بينما أشار فريق "منسقو استجابة سوريا" إلى 874 مسيرة.
من جهته، ذكر مصدر خاص في "الإعلام العسكري" التابع لغرفة عمليات "الفتح المبين" لموقع تلفزيون سوريا، أن إحصائية الهجمات تُقدر بـ591 مسيرة، انفجر قسم منها على خطوط التماس الأولى، فيما استهدف القسم الآخر مناطق خلف الخطوط بعمق متفاوت، معظمها باستخدام مسيّرات لا يتجاوز مداها 3.5 كم، وهي الأكثر استخداماً في الهجمات.
يُعتبر محور ريف حلب الغربي المحور الأكثر تعرضاً للهجمات بالمسيرات الانتحارية، خاصة في الأسابيع الأخيرة، نتيجة التوتر العسكري في المنطقة بعد الحديث عن معركة محتملة باتجاه مدينة حلب، كما تؤثر العوامل الجغرافية على منظومة الاتصال الخاصة بالمسيرات بين المشغّل ونقطة الوصول، حيث تستغل قوات النظام بعض التلال الحاكمة التي تسيطر عليها لإطلاق المسيّرات نحو نقاط خالية من العوائق الطبيعية بين نقطة الإطلاق ونقطة الاستهداف.
ووفقاً لـ "منسقو استجابة سوريا"، فإن الخسائر الناتجة عن استخدام المسيّرات بلغت 34 قتيلاً و88 جريحاً، منذ بداية العام الحالي.
ضرر مزدوج.. الآثار الاقتصادية
تركزت الأضرار الاقتصادية المباشرة في المناطق الأقرب إلى خطوط التماس، خاصة تلك التي تشهد تصعيداً عسكرياً مؤخراً، مثل ريف حلب الغربي، إذ تتعرض القرى هناك لعمليات قصف مكثفة.
شملت الأضرار الاقتصادية تدمير ممتلكات المدنيين، خاصة وسائل النقل التي تعد الهدف الأول للمسيّرات، كذلك رصد موقع تلفزيون سوريا، هجمات محدودة على منازل ومحلات المدنيين، كما حدث مع مثنى بركات من قرية كفرنوران غربي حلب، الذي أشار إلى استهداف محل الموبايلات الخاص به بمسيرة، مما تسبب بخسائر تجاوزت 1500 دولار أميركي.
وذكر أحمد الهاشم، منسق مشاريع اجتماعية في جمعية "عطاء الخيرية"، أن الاستهداف المتكرر لهذه القرى دفع العديد من التجار المحليين، كأصحاب محلات المواد الغذائية والملابس، إلى نقل نشاطاتهم إلى مناطق أكثر أماناً، مما أدى إلى انخفاض مستوى التبادل التجاري في هذه المناطق، وارتفاع التكاليف التي يتحملها السكان لتلبية احتياجاتهم الأساسية.
أما الأثر الاقتصادي الأكبر، والذي يمتد ضرره غير المباشر ليشمل المنطقة بأكملها، فيتجلى في التأثير على القطاع الزراعي الذي يعتبر من أهم مصادر الدخل في مناطق المعارضة، ويوفر فرص عمل لعدد كبير من الأيدي العاملة، فتضرر هذا القطاع سيؤدي إلى زيادة في معدلات الفقر والبطالة المرتفعة أصلاً.
وأشار مشهور الخلاصي، مزارع من كفر نوران، إلى أن القصف، وخاصة باستخدام المسيّرات، منعه لأول مرة منذ سنوات من زراعة الخضار الشتوية في أرضه القريبة من الفوج 46.
بينما ذكر علي إسماعيل، مدني من قرية كفر تعال، أنه لم يتمكن حتى الآن من جني محصول الزيتون في أرضه هذا العام بسبب القصف المستمر، حيث تُعتبر المسيّرات أخطر من غيرها من أدوات القصف.
بدوره، أوضح رامي الأحمد، ناشط مدني في قرية الأبزمو، أن بعض الشباب المخاطرين شكلوا مؤخراً ورشات مستعدة لجني محصول الزيتون في المناطق الخطرة مقابل الحصول على نسبة كبيرة من المحصول تصل في بعض المناطق إلى 50 في المئة.
ورغم أن الأضرار الاقتصادية الناجمة عن الهجمات بالطائرات المسيّرة لا تزال محدودة حتى الآن، إلا أن الخطر المحتمل لهذا السلاح على القطاع الزراعي قد يكون كبيراً إذا كثّف النظام هجماته.
يمكن تقدير الضرر المستقبلي عبر تحليل بعض البيانات الجغرافية الخاصة بالمنطقة، ووفقاً لمصدر قيادي في الجبهة الوطنية، يبلغ طول خطوط التماس مع قوات النظام حوالي 145 كم تقريباً، وإذا اعتمدنا الحد الأدنى لمدى المسيّرات، وهو 3.5 كم، مع خصم مسافة المنطقة العسكرية المحرمة الفاصلة بين نقاط التماس والتي تقدّر وسطياً بـ500 متر، فهذا يعني أن المسيّرات، في حال تكثيف استخدامها، يمكن أن تشل القطاع الزراعي بعمق 3 كم، وهو ما يمثل 13% من المساحة الكلية للمنطقة البالغة 3370 كم²، بالتالي، تشكل المسيّرات خطراً حقيقياً على القطاع الزراعي، إضافةً إلى الأضرار الاقتصادية الأخرى المذكورة سابقاً.
الأضرار الاجتماعية
يُعد النزوح أحد أهم الأضرار التي تترتب على حملات القصف بمختلف أنواع الأسلحة، ومنها الهجمات بالطائرات المسيّرة التي ساهمت في زيادة معدلات النزوح من المناطق المستهدفة باتجاه المدن والبلدات البعيدة عن خطوط التماس والمخيمات الحدودية.
يرتبط النزوح إلى المدن والبلدات البعيدة عن خطوط التماس بآثار اجتماعية سلبية، مثل زيادة التفكك الاجتماعي بين العائلات، وزيادة الضغط على المراكز السكانية الداخلية والحدودية التي تعاني أصلاً من اكتظاظ سكاني، مما يؤدي إلى ارتفاع إيجارات المنازل وضغط على الخدمات الأساسية في هذه المدن.
أما النزوح إلى المخيمات التي تعاني معظمها من تدني مستوى الخدمات، فينعكس سلباً على مستوى معيشة العائلات النازحة، بسبب التحديات التي تواجهها من نقص في الخدمات الأساسية مثل المياه النظيفة والصرف الصحي والصحة والتعليم.
أما بالنسبة للسكان المتبقين في المناطق المستهدفة، فقد تحدث أحمد الهاشم، منسق مشاريع اجتماعية في جمعية "عطاء الخيرية"، عن معاناة السكان، إذ يعاني السكان المتبقون في مناطق القصف من تراجع الخدمات المقدمة عبر المنظمات التي تقلل من نشاطها هناك لاعتبارات السلامة.
كما تضررت العملية التعليمية في هذه المناطق؛ ووفقاً لمثنى بركات، ناشط مدني من كفر نوران، فإنه اضطر وعدد من معارفه إلى عدم إرسال أبنائهم إلى المدرسة بشكل منتظم بسبب القصف المتكرر بالطائرات المسيّرة.
مواجهة التحدي عبر مسارين
تصاعدت هجمات الطائرات المسيّرة منذ بداية عام 2024، وأصبحت تمثل تحدياً كبيراً للمعارضة السورية ومناطق سيطرتها على مختلف المستويات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، فهي سلاحٌ رخيص التكلفة، دقيق الإصابة، شديد الفاعلية.
ورغم أن أضرارها الاقتصادية والاجتماعية لا تزال محدودة نسبياً، إلا أن استمرار الهجمات بمستواها النوعي الحالي دون تطوير، وفي حال زيادة وتيرتها، قد يكون هذا السلاح قادراً على تعطيل الحياة الاقتصادية والاجتماعية في 13% من مساحة المنطقة.
كل هذا يفرض على المعارضة مواجهة هذا التحدي عبر مسارين: الأول يشمل إيجاد آليات عسكرية أو سياسية لوقف الهجمات، والثاني يتضمن تقديم الدعم اللازم للمجتمعات المتضررة، وفي حال لم تتم مواجهة هذا التحدي ومعالجة آثاره، فمن المرجح أن يؤدي ذلك إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة.