في 16 تموز 2018، ضجت وسائل الإعلام العالمية بتغطية أخبار القمة التاريخية بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في العاصمة الفنلندية (هلنسكي)، كانت الأخبار والتحليلات صاخبة عن القمة، التي حملت عدة ملفات، لكنها كانت تصبو إلى كسر جليد العلاقات المتنافرة لسنوات طويلة، إذ تعود الخلافات بينهما إلى الحرب الباردة (1945-1989) متمثلة بالعداء بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي سابقا، وصحيح أن الطرفين لم يتحاربا مباشرة ولكن الخلافات بقيت حتى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتربع أميركا على عرش القوة العالمية الأولى.
وتدهورت العلاقات بين البلدين أكثر بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014 فأقرت واشنطن عقوبات اقتصادية على موسكو
بوتين الجامح الذي يريد الهيمنة على العالم
لا يُخفي بوتين طموحه قيادة روسيا لاستعادة قوتها بعد سنوات من الإهانة ولو كلف الأمر التصادم مع الولايات المتحدة. وقد قال في 2017، في مقابلة مع المخرج الأميركي، أوليفر ستون، معلقا على إطلاق لقب "القيصر" عليه، "لا يجوز السعي نحو السلطة المطلقة والتحول إلى قيصر".
لكن كلام بوتين يُخالف أفعاله فالرجل (68 عاما) أجرى تعديلات دستورية نهاية عام 2020، تتيح له البقاء في السلطة حتى عام 2036، هذه التعديلات التي وصفها مراقبون بأنها "محاولة بوتينية للتخليد في الحكم".
وكان "جيمس ستافريديس" وهو أميرال بحري متقاعد بالبحرية الأميركية وقائد عسكري سابق لحلف "الناتو" وعميد كلية "فليتشر" للحقوق والدبلوماسية بجامعة تافتس، علق على خطوة بوتين هذه بالقول " سوف يتمكن بوتين الآن، مثل الرئيس الصيني شي جينبينغ، من رسم الأحداث، والتخطيط لأجل غير مسمى. وسوف يعني ذلك استمرار توجيه السياسة الروسية على أساس كثير من أولوياته الشخصية. من تلك الأولويات ولعه بممارسة ضغط كبير على دول الجوار الضعيفة في محاولة إعادة إقامة مجموعة الدول، التي تعمل كمصدّ أو حاجز، أو ما يطلق عليه الروس الخارج القريب، والتي كان يتمتع بها الاتحاد السوفييتي في دول حلف وارسو".
ويضيف "ستافريديس" محذرا "سوف يتعين علينا نحن في الغرب الاعتراف بمواهب بوتين، ونقاط ضعفه عند التفكير في إستراتيجية عالمية. سيكون من الصعب أن يكون هو اختيارنا الأول كقائد روسي، لكن كما نقول في فلوريدا الشمالية أحياناً يجب على المرء الاستعداد لما سيحدث على أي حال".
أما الخبير السياسي "كونستانتين كالاتشيف" فيعتبر أن "بوتين يرى نفسه صاحب قضية، تتمثل بأن يعيد إلى روسيا عظمتها ويضع حدا للتأثيرات الأجنبية"، وكان بوتين قال في 2018، أثناء خطابه السنوي أمام البرلمان "لا أحد يريد التحدث إلينا. لم يرغب أحد في الاستماع إلينا. استمعوا إلينا الآن!".
وعليه بات بوتين يذكّر العالم بين الحين والآخر بـ "قدراته العسكرية" وبنفوذ قواته التي باتت تنتشر قرب دول الاتحاد الأوروبي وفي الشرق الأوسط، وإمساك موسكو بملفات معقدة في عدة دول.
انتصار بوتين في هلنسكي والتوقعات لأدائه بجنيف
يعلم بوتين أن أميركا هي الدولة الوحيدة في العالم التي يعكس حجم الصدام أو الاتفاق معها طبيعة نفوذ الدول.
وكي يُكمل طقوسه القيصرية يعمل بوتين على لقاء زعماء أميركا المتجددين -وهو الثابت- بمختلف مشاربهم الحزبية (جمهوريون وديمقراطيون)، فقبل أربع سنوات أتاح له ترامب فرصة ثمينة في الظهور إلى جانبه في ظل الاتهامات التي كانت تعصف بترامب بسبب التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016.
وفي 16 تموز 2018، شهدت العاصمة الفنلندية هلسنكي، قمة بين ترامب وبوتين ناقشا الأمور العالقة، وعلى رأسها الملف السوري وأمن إسرائيل ووقف الإرهاب والأسلحة النووية.
وعقب القمة أشار العديد من المشرّعين والمحللين الأميركيين إلى أنها تمثل انتكاسة في تاريخ الرئاسة الأميركية، حيث وصف ترامب بوتين بـ "القائد القوي"، وعارض خلاصة تقارير استخبارية أميركية، بأن الرئيس الروسي قد أمر بمهاجمة أسس الديمقراطية الأميركية، قائلا إنه لا يرى أي سبب لاتهام موسكو بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي فاز بها، كما هاجم ترامب في هلنسكي المؤسسات التي أقسم على الدفاع عنها، ومجتمع الاستخبارات الأميركي، ووزارة العدل، ومكتب التحقيقات الفيدرالي.
ومن بين المؤشرات على انتصار بوتين في قمة هلنسكي، هي تقليل ترامب قبيل القمة من قيمة حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، و"الناتو" ومجموعة الدول السبع، والاتحاد الأوروبي.
كما أحرز بوتين انتصارا رمزيا من خلال الظهور على قدم المساواة مع ترامب، وتأكيد النفوذ الروسي عالميا بعد سنوات من التراجع في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. وبهذه القمة أنهى بوتين العزلة الدولية المفروضة على دولته في أعقاب ضم شبه جزيرة القرم في آذار 2014.
بعد القمة قال ترامب "القمة مع روسيا نجحت نجاحا عظيما، وإني أتطلع إلى اجتماعنا الثاني حتى نتمكن من البدء في تنفيذ بعض الأشياء التي نوقشت". لكن لم يعقد الرئيسان أي قمة بعدها، لكن بوتين يخطط حاليا للاجتماع بالرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، وهذه المرة في جنيف، في 16 حزيران.
وبالنظر إلى الأجواء التي تسبق قمة جنيف، بين بوتين وبايدن، فإنه لا توقعات تشي بأن يكون اللقاء وديا أو أن تحمل مخرجاته انتصارا بوتينيا جديدا، فالرئيس الروسي يقول قبل أيام من عقد القمة إن "الولايات المتحدة تخطئ إذا ظنت أنها قوية بما يكفي للإفلات من عاقبة تهديد الدول الأخرى"، مضيفاً أن ذلك خطأ أدى إلى انهيار الاتحاد السوفييتي سابقاً.
وتأتي هذه القمة وسط توتر حاد بين واشنطن وموسكو على خلفية تبادل عقوبات واتهامات، وقد ظل بوتين مترددا على مدار فترة طويلة قبل أن يوافق على دعوة بايدن لحضور القمة.
وبقي أن نشير إلى أن بوتين ومسؤولين لا يتوقعون سقفا عاليا للقمة في جنيف، ويبدو أن ذلك محسوم بالنسبة لموسكو التي تحدث مسؤولوها على العلن وقالوا: إن نتائج القمة المقبلة محصور بمستوى الحوار فقط باعتباره الفعل الإيجابي شبه الوحيد الذي يمكن أن يصدر عنها، وهذا ما حضر في كلام المسؤولين الروس وعلى لسان المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بسكوف، الذي قال إن "حجم الخلافات بل وحتى مظاهر النزاع في علاقاتنا الثنائية كبيرة جدا، لدرجة أنه لا مبرر لتوقع تحقيق أي تقدم نحو التوصل إلى تفاهم، لكن في بعض الأحيان يكون من المفيد أيضا الاتفاق على أننا لا نتفق".