لعلها باتت من الظواهر المألوفة أن يتعقّب السوريون موتاهم، مدحاً أو قدحاً، بل وربما راحوا ينبشون ماضيهم وحاضرهم ووقائع سلوكهم اليومي، ليس بحثاً عمّا هو موجود بالفعل، بل بحثاً عمّا يرغبون أو يتخيّلون أن يكون موجوداً، وهكذا يتحول من غادر الحياة إلى مادّة للمناكفات والشجار وتقاذف الاتهامات، وغالباً ما ينسى المتعاركون الفكرة التي اشتجروا لأجلها، وتأخذهم سخونة الجدال إلى حقول خلافية أخرى لا حدود لها.
ولعله ليس عسيراً على المرء أن يجد تفسيرات عديدة، وليس تبريرات، لمثل تلك الظاهرة، ربما يكون أقربها إلى الذهن حالة الإحباط واليأس التي يعيشها السوريون من جرّاء استمرار مأساتهم المتجدّدة، سواء في أماكن لجوئهم أو مخيماتهم أو في مدنهم وبلداتهم التي لم تعد أقلّ شقاءً عما سواها، ولعل ما يعزّز هذا الشعور المُحبِط هو انسداد الأفق، وغياب أي حراك محلّي أو دولي يوحي باقتراب انفراجة ولو نسبية، لواقعهم المظلم، الأمر الذي يسهم في تغييب روح المبادرة، والرؤية التفاؤلية إلى المستقبل، وفي الوقت ذاته يسهم في إيقاظ ثقافة التشكيك، وتصيّد الزلّات، والتنقيب في الماورائيات للبرهنة على الظنون والتخرّصات.
لم تفقد سوريا شخصية من شخصياتها العامة، سواء أكانت سياسية أم فكرية أم فنية أم دينية، إلّا وأعقبتها هذه الزوبعة التي تثور عنيفة، ثم لا تلبث أن تهدأ رويداً رويداً، مُجسّدةً ظاهرة نفسية تعكس كثيرا من النزق وردود الفعل والرغبة في إفراغ الحنق المتراكم في النفوس، أكثر مما تعكس خلافاً أو جدلاً معرفياً يفضي بالنتيجة إلى ثراء في الوعي والثقافة.
ربما لم يكن بوارد اعتقاد أيٍّ من السوريين أن يكون رحيل الفنان صباح فخري ( 1933 – 2021 ) الذي وافته المنية يوم الثلاثاء الماضي، موضع جدل بين مترحّم عليه وشامت أو ساخط عليه، لو كانت أحوال السوريين على غير ما هي عليه الآن، ولكن سوء الحال، قد يقلب المعايير في معظم الأحيان، ويجعل من الصفاء عكراً، ومن الوضاعة نباهةً، حقاً إنها لمفارقة تثير الاستغراب، ذلك أن الراحل صباح فخري ( كفنان كبير) لم يكن مُنتَجاً سلطوياً، بل كان مبدعاً أصيلاً، أثبت كفاءة فنية وإبداعية قبل ظهور الطغيان الأسدي على مسرح السياسة السورية، كما تفرّد هذا الفنان الراحل بعدم سماحه للسلطة –على مدى عقود من الزمن– باستثمار فنه وصوته في التمجيد والتصفيق للحاكم، إذ لم يغنّ لحاكم ولا لحزب، ولا حاز منصباً لم يكن أهلاً له، ولم يسبق له أن وظّف قدراته الفنية للتسلّق إلى مناصب تخدم السلطة وتسيء لأبناء بلده، فضلاً عن أن صباح فخري يجسّد ظاهرة فنية ثقافية باتت جزءاً من الهوية الثقافية السورية، وله جانب كبير من الفضل في الحفاظ على هذه الهوية.
استطاع صباح فخري أن يحافظ على موقف متوازن حيال السلطة في فترة عجز فيها كثيرون عن تحقيق ذلك، بل ربما كان الحياد موضع ريبة وشك من جانب الكيانات المخابراتية والأمنية
لقد استطاع صباح فخري أن يحافظ على موقف متوازن حيال السلطة في فترة عجز فيها كثيرون عن تحقيق ذلك، بل ربما كان الحياد موضع ريبة وشك من جانب الكيانات المخابراتية والأمنية، إلّا أن صلابة الموقف والقدرة على التماسك والاحتفاظ بموقف متوازن من شأنه أن يوفّر للمرء حدّاً أدنى من الحصانة الذاتية، بات يخذلها تهاوي الجسد الذي رعته السنون، وبات تقدّم العمر عامل انزياح نحو الهشاشة شيئاً فشيئاً، فما الذي يمكن أن يفعله امرؤٌ تجاوز الثمانين أمام جبروت طاغية نالتْ وسائل إجرامه من صلابة مئات الآلاف ممن هم في ريعان الشباب، لعل ما هو غريب ومريب، أن يُؤخذ على صباح فخري أنه انتخب بشار الأسد عام 2014، وهو مخذول الجسد والعقل معاً، في حين يُغَضُّ النظر عمّن أمضى عمره في خدمة السلطة الأسدية وكسى جسده من لحمها، وتقلّد أرفع المناصب السياسية، وظل أميناً في ولائه لها، ثم قفز فجأة إلى الضفة الأخرى عام 2011، ليكون في الصفوف الأولى ممن تصدّروا مشهد الثورة؟
ربما وُجِد العديد من المبدعين السوريين الراحلين ممّن شاطروا الراحل صباح فخري مأساة رحيله، ولكن ربما كان أكثرهم تماهياً مع ظاهرة رحيله هو الشاعر الكبير ( نديم محمد 1908 – 1994 ) ولعل نقطة التماهي الأبرز بينهما، هي قدرة كليهما على الصمود وعدم الوقوع في حبائل السلطة، إلا أن هرم الجسد، وباتت الروح تحت رحمة الزمن.
يُعدّ الشاعر نديم محمد من أبرز شعراء الكلاسيكية الجديدة الذين نهضوا بالقصيدة العربية منذ نهاية الثلث الأول من القرن الماضي، بل هو واحد ممّن تجلّت في قصائده الفلسفة الرومانسية الغربية، إذ يمكن الذهاب إلى أن ديوانه (آلام) الذي نشره في ثلاثة أجزاء، هو أحد الدواوين التي تحمل مجمل السمات الفنية للمدرسة الرومانسية، فضلاً عن ثقافة واسعة ووعي منفتح، وثراء كبير في اللغة وخيال خصيب مكّنه من الولوج إلى آفاق إبداعية لم تكن مطروقة في عصره. لقد عاصر نديم محمد معظم حكومات ما بعد الاستقلال، وكان فاعلاً ومنخرطاً في الحياة السياسية، ولكنه كان المتمرّد الدائم عليها جميعها، لا يُسلم قياده لحاكم، ولا يتيح لسلطة أن تستثمر شعره لغاياتها، وهو يقول في ذلك:
عفّتي والفقرُ، لا وصلُ يدي بالصدقــــــــــــــاتِ
لن أبيع الشعر في سوق النـــــــــواهي والعِظاتِ
لن يقول الدهرُ: كانت في الرعـــــــــــايا قافياتي
لقد كان المرض ظهيراً لضغط السلطات السياسية على نديم محمد منذ وقت مبكر، إذ كان يعاني من تدرّن في الرئة (السل)، ثم أُصيب فيما بعد بمرض في عينيه، فضلاً عن حالة من الفقر والفاقة لم تفارقه حتى مماته، الأمر الذي كان له كبير الأثر على بنيته النفسية، من حيث انطوائه وابتعاده عن الناس، وشعور عميق بالألم يكاد لا يفارق أي قصيدة من قصائده.
إلّا أن ذروة مأساة الشاعر نديم محمد كانت في بداية الثمانينيات، حين بدأ رفعت الأسد، الرجل الثاني في الدولة الأسدية آنذاك، يمارس ضغوطاً مباشرة على الشاعر نديم محمد، طالباً منه أن يكون شاعر بلاط أو سلطة أو طائفة، وحين وجد أن تهديده ووعيده اللفظي لم يجد نفعاً، أرسل إليه عدداً من زعرانه، ممن كان يطلق عليهم (سرايا الدفاع) فاقتحموا خلوة الشاعر في بيته المُستأجر الذي كان يقيم فيه مع زوجته وحيدين بلا أولاد، فحملوه وقذفوا به خارج المنزل، ليجد نفسه يفترش الشارع.
عام 1990 كان نديم محمد قد تجاوز الثمانين، وقد ساءت أحواله الصحية، وفقد بصره، وبات لا يميّز بين جلسائه ومحدّثيه، ولم تعد تسعفه قواه العقلية على إدراك ما يقول بدقة، فأرسل إليه حافظ الأسد فريقاً إعلامياً تلفزيونياً، وسجلوا له كلاماً يمدح فيه رأس النظام، إضافة إلى بضعة أبيات هي أقرب للكلام المنظوم منها للشعر، يدعوا فيها حافظ الأسد باسم ( فارس العرب). وبعد وفاة الشاعر أصدر حافظ الأسد مرسوماً يمنح بموجبه الشاعر نديم محمد وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة، وهكذا يكون الرئيس قد كرّم الشاعر بعد أن سدّد الشاعر ما عليه من مستحقات.