في بعض مراثي متمم بن نويرة السائرة في أخيه مالك: "... إنّ الشَّجا يَبعثُ الشَّجا"؛ فكان كلما رأى قبراً تذكّر موت أخيه وقبره فعاد وبكَى!
وجدتُني أستحضر هذا البيت وأنا أعيش للمرة الثانية مرارة اتصالي بأهلي واتصالهم بي للسؤال بين تركيا والشمال السوري: طمنونا عنكم؛ كيف الوضع عندكم؟ عسى أموركم بخير؟ لا تتحركوا من عندكم.. نحن بخير وعافية؛ ولكن لا خروج ولا نت ولا استقرار!
فالمرة الأولى عشناها في زلزال 6 شباط 2023، والثانية عشناها بعد زلزال 30 حزيران 2024؛ ولكنه كان زلزالاً من نوع آخر.
في زلزال شباط لم يكن أحد يتوقعه؛ لكنّ الانهيار والخراب لم يكن واحداً، فاستحضار الأسباب الشرعية يُلزمنا استحضار الأسباب الأرضية كذلك؛ فما أُسّس على قواعد سليمة صحيحة شديدة ليس كما أُسّس على شفا جرف هارٍ. وبالنظر فيما حدث في قيصري وما تلاها ظهرت المباني المؤسسة على أرض صلبة من الثقة والأخوّة، وما أُسّس على شفا الانهيار المجتمعي بعد كثرة الحفر والتحريض والاستسلام للماكينات الدعائية التي تنقض أسس الإخاء والانسجام بين السوريين والأتراك.
لا يجادل مُنصف في كثرة عوامل الالتقاء بين السوريين والأتراك؛ ولكن لا يخالف عاقل كذلك في كثرة عوامل الاحتقان الشعبي بين السوريين والمجتمع المضيف في تركيا، وسبقت دراسات لمراكز بحثية سورية وتركية كمركز الحوار السوري والرابطة الدولية لحقوق اللاجئين ومركز إنسامر عن الاحتقان الشعبي بين السوريين والأتراك وعن مهددات الانسجام المجتمعي بين السوريين والمجتمع التركي، وغيرها؛ ولكن يبدو أن المراكز ما زالت في عالَم والجهات المعنية في عالَم آخر بخلاف المأمول في دول محسوبة على التقدّم والاهتمام بالأبحاث والدراسات الرصينة وباستطلاعات الرأي المحايدة!
عاشَ الأتراك عقوداً قبل السوريين يستقبلون اللاجئين من دول شتى، ولم يقابلوهم بغير ما قابلوا به السوريين في سنوات اللجوء الأولى؛ بخلاف ما كان في السنوات الأخيرة من الاعتداء على النفس والمال وتخريب الممتلكات والأرزاق والترحيل الجائر.
لم ينتهِ خوف الناس بعد زلزال شباط في يوم ولا في شهر، وبعضهم ما زال يعيش الرعب والكوابيس منه حتى اليوم؛ ومثل ذلك بعد زلزال قيصري؛ فالهزّات الارتدادية التخريبية التي ضربت تركيا والشمال السوري وأصابت السوريين ثم أصابت بعض الأتراك ما زالت تضرب تركيا والشمال السوري، وما زال الخوف يعطّل كثيراً من حياة الناس هنا وهناك. يظهر للناظر بسذاجة أن خطر هذه الهزّات يتهدّد السوريين اللاجئين في تركيا بسبب لعنة اللجوء التي حملتهم إليها؛ ولكن لا نعدم عقلاء يستشعرون خطر هزّات العنصرية والبغضاء على المجتمع التركي كذلك، وإن كانت الضحية الأبرز اليوم هم من اللاجئين السوريين. ولعل فيما حصل من ردّات عنصرية في الشمال ضد السائقين الأتراك ناقوساً أكبر يُسمع مَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد!
عاشَ الأتراك عقوداً قبل السوريين يستقبلون اللاجئين من دول شتى، ولم يقابلوهم بغير ما قابلوا به السوريين في سنوات اللجوء الأولى؛ بخلاف ما كان في السنوات الأخيرة من الاعتداء على النفس والمال وتخريب الممتلكات والأرزاق والترحيل الجائر. وكذلك السوريون استقبلوا اللاجئين الفلسطينيين منذ بداية نكبة فلسطين، واستقبلوا اللاجئين العراقيين بعد غزو العراق، ثم استقبلوا اللبنانيين بعد حرب تموز في بيوتهم؛ ولم يُعهد عليهم اعتداء على غريب يأتي إليهم، ولم يُسمع من سوريّ قط تسمية غير السوري "أجنبيّ" إلا إن كان سائحاً أوروبياً أو أميركياً لا يعرفونه فهو أجنبي عنهم. فكيف يعتدي سوريون على سائقي حافلات أتراك أبرياء؟ في تركيا حيث الدولة والحكومة وأجهزة الأمن عاثَ العنصريون فساداً وروّعوا السوريين الآمنين عندهم، بل وقعت جرائم اغتصاب وقتل في عدة ولايات؛ والحكومة تتابع الجناة بعد الجرائم، وتحدثنا عن خيوط تارة وعن مؤامرات تارة أخرى.
مع أنهم في زلزال شباط اعتقلوا المقاولين وأصحاب الشركات الذين لم يتخذوا أسباب السلامة عند حدوث الزلزال؛ فلماذا يأخذون بعض الجناة في زلزال قيصري ويتركون مَن عبثوا في سلامة البناء المجتمعي؟ أم أن الأمر يمضي حيث الكاميرا تعمل بفلاش أقوى؟! والمضحك المبكي تفاعل ممثلي الشعب السوري _وهم في تركيا_ مع ما حصل بعد زلزال قيصري والهزّات الارتدادية المجتمعية؛ حتى صار كل كلام على الحكومة التركية ثقيلاً إن كان "أولياء الدم" ممثّلو الشعب السوري بهذه الفاعلية والجرأة!
أيها العقلاء: لا تبحوا عمَن أحرق العلَم؛ بل ابحثوا عن الذين حفروا تحت السارية حتى مالت فهم الجُناة الحقيقيّون.
وفي الشمال السوري حيث سلطات الأمر الواقع لم يتحدث أحد عن السائقين الأتراك الأبرياء الذي رُوّعوا وحُرقت ناقلاتُهم وأرزاقٌ فيها لهم ولتجار سوريين، وظهر مَن يهدّد الذين أهانوا العلَم التركي فقط؛ أليس الأَولى البحث عن الذين تسبّبوا بظاهرة لم تشهدها سوريا من قبل مع غير السوريين على أرضهم؟ لعل الجواب المُخجل أن البحث عمَن أحرق العلَم أسهل وأقرب ممن حفر تحت السارية!
وكما كان أكثر التركيز على الأسى في زلزال شباط، والنحيب على محاسن الأموات؛ فأبيت إلا الحديث في محاسن الأحياء؛ فكذا اليوم ونحن نعيش موجة جنون من العصبية والحماقة في ارتدادات زلزالية شديدة أتت على ما أتت حتى الآن، ولا يُعرف بعدُ أين تنتهي وفي أي قاع ستستقرّ! ظهرت مبادرات عديدة بعد أحداث قيصري وعينتاب والريحانية لأتراك واجهوا العنصرية التي تطول السوريين، ودافعوا عن إخوانهم، وإن تأخرت أياماً بعد الزلزال نحتملها أثراً من آثار الصدمة ممن لم يكونوا يتوقعون وصول الارتدادات إلى ما وصلت إليه؛ وكم كان جميلاً عتاب جيراننا الأتراك لنا حينما تخلّفنا عن فتح مكتبتنا في الريحانية: "من المعيب ألا تفتحوا؛ مَن يجرؤ عليكم ونحن أهلكم وجيرانكم؟" وقالوها باللغة العربية التي يحكونها معنا.
ولكن عاد سؤال مزعج من شجا زلزال شباط ينكز في خاطري: شهدنا آنذاك سوريين يهرعون لنجدة الأتراك، وأتراكاً يتجاوزون العنصرية ويساعدون سوريين متضررين، مهما شهدنا فيها من أذى وحوادث لا نجعلها الأصل في تلك النكبة؛ فلماذا لم نشهد في الشمال مَن يُدافع عن العلَم التركي والمراكز التي هُوجمت، بل وعن السائقين الذين اعتُدي عليهم رغم أن أكثرهم من المناطق الحدودية التي تربطها مع الشمال السوري بعوائله وعشائره روابط دم فوق روابط الجوار؟!
سيكون من تسطيح المشكلة واستغباء الناس اختصار الأمر بإجابة واحدة عن مثل هذا التساؤل، ومثله الرد على كل ذلك بالوعيد لمن أهان العلم ومتابعته، وبفتح تحقيق بحقّ مَن فعلوا؛ فالعقلاء يدركون خطورة وصول الأمر حيث وصل هنا، ويدركون أنّ مَن تجاوزَ وارتكبَ ذلك لا يهمّه تحقيق ولا تهديد بعقاب وقد فعلَ ما فعل في وضح النهار لأنه ليس عنده ما يخسره.
ثارت المواجع وتحفّزت خواطر الأسى عند إغلاق المعابر وقطع النت عن الشمال السوري بعد ارتدادات زلزال قيصري وعينتاب، واستحضرنا تخاذل الأمم المتحدة وغيرها عن إغاثة السوريين المتضررين، فلماذا يكون حلّ مشكلة هزّات ارتدادية حصلت في الشمال بعقاب جماعيّ لنحو 3 ملايين سوريّ بخطأ عارض من بضعة أفراد، وبأخطاء عميقة من بضعة آخرين محسوبين على تركيا ذاتها؟
إذا تألّم عاقلٌ من يده لم يفكّر يوماً بقطعها، وإن تعكّرت عينُه لم يحاول قلعها؛ فلعل عقلاء قومنا وقومهم يعقلون هذا قبل أن تشتد الهزّات الارتدادية، فتقلب الأمور كلها رأساً على عقب؛ لأنها حينما تخبط فإنما تخبط خبط عشواء.
أيها العقلاء: لا تبحوا عمَن أحرق العلَم؛ بل ابحثوا عن الذين حفروا تحت السارية حتى مالت فهم الجُناة الحقيقيّون.