لو اكتفى بدور المترجم والوسيط بالبيع لما قتل.. ولو لم تخذل تلك السيدة السورية قدرتها الشرائية لما كانت ضحية للزعران في السوق، حمزة العجان الفتى الشهم الشهيد الذي قتل بعد تعرّضه للضرب المبرح من قبل أربعة شبّان أتراك وسط بازار لبيع الخضار في منطقة غورصوا التابعة لولاية بورصة التركية.
قضى حمزة دفاعاً عن كرامة المرأة السورية التي أهينت على مرأى الناس في السوق وطالتها والسوريين من خلفها أجمعين أقذع الألفاظ والشتائم، قضى الفتى يدافع عن إنسانيته أولاً وكرامته كسوري، وهو يسمع ويرى الهجوم على السيدة التي لم يكن ذنبها إلا أنها كانت ترغب في شراء كمية من الطماطم بغرض إعدادها للمونة.
وحين تم تأمين الكمية من الباعة تراجعت فطلبت من حمزة تقديم اعتذارها عن عدم شراء الكمية لعجزها عن توفّر المبلغ المطلوب، وما كان ذنب الفتى سوى أنَّ سلوك الباعة الزعران الشائن مع المرأة دفعه للرد عليهم ومحاولة ثَنْيِهم عن ذلك، فدفع حياته ثمناً لموقفه.
قصة حمزة تأتي في سياق طويل من الظلم والخذلان الذي يَطُوله وأمثاله، وهو اللاجئ ابن اللاجئ الذي لم يدرك من الثورة سوى انطلاقتها واسمها، لكنه بدا شرساً في الدفاع عن قيمة أعلتها تلك الثورة وهي رفض الذل والهوان فأولى الصرخات كانت في الشام يوماً "الشعب السوري ما بينذل" وعلى ذاك المذبح - مذبح الكرامة- أريق دم كثير كي لا يُذلّ الشعب السوري، وفي سبيل ذلك قتل أول حمزة - حمزة الخطيب- الفتى الحوراني الذي قتله نظام الأسد ومثّل عناصره بجثته قبل أن تعود الجثة لأهله ليقولوا مرغمين إنه "قضاء وقدر" وليشعل دمه في مكان آخر ثورة مستمرة حتى تاريخه، قضى كثر نحبهم في سبيلها وهجّر كثر وكبر فيها حمزة العجان ليقتل بعيداً عن دياره في سبيل الكرامة ورفضاً للذل.
بين مقتل حمزة الخطيب وحمزة العجان تسع سنوات هي عمر الثورة المستمرة وعمر القهر المستمر الذي أجبر عائلة العجان على الرحيل عن ديارهم في الشمال لينتهي عمره في أول الصبا دفاعاً عن كرامة السوريين
بين مقتل حمزة الخطيب وحمزة العجان تسع سنوات هي عمر الثورة المستمرة وعمر القهر المستمر الذي أجبر عائلة العجان على الرحيل عن ديارهم في الشمال لينتهي عمره في أول الصبا دفاعاً عن كرامة السوريين، لا يمكن القول إن "جينات" أولئك الفتية فيها ما يميزهم عن أقرانهم فكانوا كذلك وكان مصيرهم واحداً، بل يمكن أن يقال إن اللحظة التاريخية التي جعلت حمزة الخطيب ينتفض مع أهله ثائرا فيعتقل ويعذب ويقتل ويصير أيقونة للثورة ولحوران هي ذاتها اللحظة اليوم تعيد نفسها والثورة في تيه وضياع وحاضر مرّ ومستقبل ضبابي، لتذكرنا بأن لدينا جيلا قويا متقدا لا يقبل الهوان ولن يقبل وسيحمل الشعلة وأفضل استثمار هو الاستثمار بهؤلاء والتعويل عليهم ليكونوا بناة المستقبل، فلنلتفت لهم ولا نتركهم ضحايا القهر واللجوء والبؤس وغياب الأمل فلتلتفت لهم كل المؤسسات المهتمة وكل القوى حتى لا تضيع حياتهم وموتهم، وهنا يمكن الاقتباس من تعليق وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون على مقتل حمزة الخطيب في تموز 2011 إذ قالت "لا يسعني إلا الأمل ألا يكون هذا الصبي قد مات سدى".
مقتل حمزة الخطيب أشعل ثورة حوّلها الأسد حربا على الشعب استخدم فيها كل ما أوتي من سلاح فتاك وقوة مفرطة غاشمة وكانت النتيجة كارثية جعلت سوريا توصف بأنها "مأساة القرن" ووصلت الحال إلى ما هي عليه الآن، ومع ذلك لا يريد أحد اعتبار موت الخطيب قد راح سدى رغم مأساوية المشهد بل اعتباره دماً على طريق الحرية والكرامة الطويل، وكذلك لا يريد أحد أن يضيع دم حمزة العجان سدى بل أن يكون ضوءا كثيفا في عيون من لا يريد أن يرى كيف يتسكّر مستقبل سوريا المتمثل في شبابها، عَلَّ ذلك يخلق طريقا لعودة كريمة إلى البلاد أو حلولا تضمن لهم حياة كريمة، وعَلَّ ذلك يرفع الهمم ويقوي النفوس الضعفية اليائسة المنهزمة.