بين تطهير الجسد والفكر من البعث.. نوار بلبل في "إيغاليتيه" يبعث ميشيل سورا حياً

2024.09.04 | 15:02 دمشق

652666666+
+A
حجم الخط
-A

أُطفئت الأضواء وساد العتم وانسلّت موسيقا نشرة أخبار إذاعة دمشق في ثمانينات القرن الماضي والملطوشة من أوبريت "القَسَم" لمحمد عبد الوهاب، ثم تحرّكت إبرة مؤشر الراديو مترافقة مع تشويش الموجات ليدخل صوت فريال أحمد صداحاً: "مرحبا يا صباح" تتبعه موسيقا "بقطفلك بس هالمرة" لفيروز ليمرّ المؤشر الصوتي على جملة من الموسيقا المكتنزة بذاكرة السوريين.. ثم انطلق صوت نوار بلبل يصدح بالفرنسية في عراك مع موظف اللجوء الفرنسي.

بهذه المقدمة ابتدأ عرض مونودراما "إيغاليتيه" من تأليف وإخراج وتمثيل نوار بلبل والذي عرض على مدار يومين متتاليين في مدينة إسطنبول التركية برعاية منتدى حرمون الثقافي، المسرحية التي عرّفها بروشور العمل على أنها "تتحدث عن رحلة لجوء عمر أبو ميشيل الشخصية الأساسية في العرض وما تعرّض له في طريقه من أحداث ومخاطر"، وذلك برفقة شريكته التي لا تفارقه دراجته الهوائية التي سماها إيغاليتيه وتعني المساواة بالفرنسية، في إشارة إلى واحدة من أهم قيم الثورة الفرنسية (العدالة، المساواة، الإخاء ) وذلك ضمن حدوتة صداقة افتراضية بين عمر أبو ميشيل، والباحث الفرنسي الشهير ميشيل سورا الذي وضع يده على وجع سوريا عبر فضحه للنظام السوري والذي اعتقل وعذّب على يده ويد وحزب الله في منتصف الثمانيات، في تجليه الأول "منظمة الجهاد الإسلامي".

599999999999

يسردُ عُمر أبو ميشيل مشكلته العويصة مع موظّف اللجوء الذي يرفض منح اللجوء للدراجة الهوائية (إيغاليتيه) وذلك لأنها جماد "مو بشر متلي ومتلك" كما يقول الأمر الذي يُحزن عمر والذي يفرد لها مساحة لتنال حماماً مثالياً، ليدخل بعدها إلى قصّة "ألما" التي تعرّضت للاغتصاب في المعتقل، وعن عائلتها التي ترفضها بسبب هذا الاغتصاب، وشقيقها (الشيخ) الذي يتكشّف لاحقاً أنه يعمل مع المخابرات، ومن ثم يلِجُ إلى تجرته الشخصية مع الاعتقال وما عاناه من أهوال، يقاطعه صوت ميشيل سورا بين الحين والآخر الذي استغرب عمر من موظف اللجوء الفرنسي لأنه لا يعرف من يكون، يتحدث معه مراراً إذ سيكون لاحقاً وجهته النهائية "انتظرني يا ميشيل أنا جاي لعندك"، في إشارة إلى السير على خطاه فالموت.

حظيَ العرض بإشادة كبيرة من جمهوره رغم كمّ القسوة الكبيرة التي تصدمك قبل أن تنتزع منك ابتسامة أو ضحكة عالية، إنها الكوميديا السوداء كما سمّاها بروشور العرض، ورغم أن العرض كان يضج بالرموز مع كلّ تفصيلة، إلا أن الجزء الأخير منه حمل معه شكلاً مُغرقاً في المباشرة.

وتُطالعك الرمزية منذ اللحظة الأولى.. بَحْرة ماءٍ صغيرة تُصدر خريراً لم يتوقف طوال العرض كأنما تستمع إلى صوت ميشيل سورا طوال الوقت، وأكّد الإخراج عليه في نهاية العرض عندما يسحب عمر أبو ميشيل شريط الكاسيت الكربوني من فم البحرة ليلتف على جسده، في إشارة إلى تسجيلات ميشيل سورا التي وثق فيها عمله عن سوريا "الدولة المتوحشة" وهو كتاب سورا الشهير الذي جمع وطبع في العام 2017.

ويستمر مسلسل الرمز مروراً باسم عمر الشخصية الرئيسية، والتي تحيلك إلى المخرج السوري عمر أميرالاي صاحب (طوفان في بلاد البعث) المعروف بعلاقته الوطيدة بميشيل سورا والذي كان أنجز فيملاً تسجيلاً عن الأخير بعنوان "في يوم من أيام العنف العادي، مات صديقي ميشيل سورا".

وربما لم ينصف أحد ميشيل سورا، في فترة مبكرة، سوى المخرج السوري عمر أميرالاي الذي عاجل إلى تحقيق وسد دين السوريين واللبنانيين لهذا السوسيولوغ الكبير الذي دفع حياته ثمنا للذود عن الحقيقة في سوريا ولبنان، مُعلياً شأن حرية الإنسان المسحوق في عهد حافظ الأسد.

5777777777

فالفيلم الذي أنجزه أميرالاي في العام 1996 أي بعد عشر سنوات كاملة على قيام منظمة "الجهاد الإسلامي" التي كانت أحد الأوجه المستترة لحزب الله قبل أن يتشكّل رسمياً، بالإعلان عن "مقتل الجاسوس والباحث الفرنسي ميشيل سورا" حسب تعبيرهم، يعتبر شهادة نادرة من زميل زنزانة سورا في سجن الاختطاف جان بول كوفمان، واستذكاراً كبيراً من مثقف سوري لذلك الرجل الذي أًريد له أن يغوص في غياهب النسيان.

جُزئية الماء كانت حاضرة بقوّة في العرض، فهو أداة التنظيف الوحيدة التي عجزت حتى وقت طويل عن تنظيف عمر من خلالها، ففي مشهد البداية وعندما تحزن "إيغاليتيه" الدراجة، يبدأ عمر بعملية غسيل حثيثة لها فينصب في مشهد بديع ستارة حمام ويبدأ بتنظيفها ويستمر بتنظيفها طوال العرض، إذ تشكل مشاهد التنظيف لدى عمر نمطاً متكرراً طوال العرض، كأنه يريد تنظيف كل ما علق فيه من أفكار "البعث" من دون جدوى فهو يغتسل بعد الاعتقال ولا ينظف، ويغتسل بعد مشهد الاغتصاب لألما ويغتسل بعد ترديده شعارات البعث ولا ينظف ويغتسل بعد تجربة الجيش ولا ينظف، إلى أن يقرر أن يخلع ملابسه بشكل كامل إلا من سرواله الداخلي ويتوجه إلى حيث ميشيل سورا.. هناك في الأعلى حيث يهدر صوتُه كإله.

وكما لم يكن اختيار اسم الشخصية الرئيسية عشوائياً (عمر) فأيضاً اختيار اسم المعتقلة "ألما" كان مقصوداً، فهو يشير إلى المعتقلة الشهيرة "ألما شحود" ابنة حي الميدان التي واجهت قوات الأمن وكانت في الصفوف الأولى من المظاهرات، وتنقّلت على الجبهات، وصفعت ضابطاً لأنه كانه يضرب طفلاً، حيث اعتقلت واغتصبت ونُكل بها، قبل أن يتم تهريبها من المشفى إلى الغوطة ومنها إلى الأردن حيث فارقت الحياة بعد أن طُويت في غياهب النسيان.

ركّز عرض "إيغاليتيه" بشدّة على الموروث البعثي العالق في الذهنية السورية في ثنائية (الخوف، والعيب) التي تجّلت في علاقة عمر مع دراجته حيث يحاول تقبيلها فلا ترضى خجلاً وعيباً، في الوقت الذي يتغير موقفها بعد الحصول على اللجوء لتصبح هي من تريد تقبيل عمر في مشهد زفاف بديع أداه نوار بنجاح باهر، ضمن ما يمكن تسميته "أنسنة" الأشياء، ليقنعك بلحظة ما أن الدراجة كائن حي بالفعل.

يُجيب العرض عن سؤال وجودي لطالما أنهك الباحثين لفهم جدلية العلاقة بين المواطن السوري وإيديولوجيا البعث، إذ إن الموروث البعثي العالق وغير القابل للمسح (التنظيف) والمتمثل بشكلٍ فاعل في العقلية السورية ضمن ثنائية الخوف والعيب ما هو إلا مقبض السكين التي أمسك بها البعث وحمّلها شعاراته لكنه أخفى تحتها إيديولوجيا خفيّة، ففي كتاب ميشيل سورا (سوريا الدولة المتوحشة) يتحدث سورا عن النظرية الخلدونية في بناء الدولة والتي يكون قوامها "الملك" كما سمّاها حيث "تقوم في مكان معيّن ما عصبيةٌ ما، تدعمها روابط الدم أو ببساطة تشابه المصير فقط، باستغلال دعوة دينية أو سياسية وسيلة للوصول إلى السلطة المطلقة أو المُلك".

ليتحوّل البعث بكل مبادئه الاشتراكية والقومية العربية، إلى واجهة مدنية لسلطة طائفية تُعزّز بالإعلام والفن والثقافة ورجال الدين، والتي أشار لها عمر بلحية شقيق ألما الذي يظهر لاحقاً أنه من المخابرات، فيدوس عمر اللحية ويبصق عليها قائلاً "هدول كتيبة التقارير عند الله على الأرض، ومتلن القساوسة والرهبان".

إخراجياً، تفوّق العرض بشدة في رسم التشكيل الحركي (ميزانسين) وأبدع في خلق لوحات تشكيلية باهرة، قوامها الجسد والدراجة، والتشكيلات الضوئية لـ باسو أوشيخ أضفت بعداً إضافياً لإيصال الرسالة، كما في مشهد التحقيق، حيث يبرم عمر عجلة الدراجة الأمامية المقلوبة بقوّة لتدور مع بقاء بقعة ضوء مسلّطة عليها، وعلى الجانب الآخر يُعذَّب عمر بغمر وجهه بالماء مع الإظلام الكامل ليبدو المشهد كأنما هو كاميرا عمر أميرالاي السينمائية تدور لتعرض المشهد على الجهة الأخرى في لوحة بديعة تحسب للإخراج.

وهنا لا بدّ من الإشادة ببراعة استخدام "الغرض المسرحي" حيث استغنى نوار عن كلّ ما لا لزوم له على الخشبة، لنغدو أمام مسألة الشرط المسرحي عراةً من الانقياد نحو أي اتجاه، ليستخدم الغرض الوحيد (الدراجة) على أنه بشر، ويستعمله لاحقاً ككاميرا، ومرة كمولد كهرباء.. ومرة يختبئ خلف قضبان عجلاتها لتكون سجناً.. الخ وكذلك الأمر مع البحرة الصغيرة التي يخرّ الماء منها طوال العرض، والتي استخدمت كأداة تعذيب في مشهد التحقيق، والأمر ينسحب أيضاً على ليفة التنظيف التي استخدمها نوار كلحية وغيرها من الاستخدامات البارعة للأغراض القليلة على الخشبة.

555555557

لم يوفّر نوار بلبل (نصاً وإخراجاً) مفردة من زمن البعث إلا وزجّ بها على لسان شخصيته الرئيسية عمر ليقول إن "الوحدة والحرية والاشتراكية، ومرحباً يا صباح، ونشرة الأخبار، واستاعد واستارح، ونمشي الحيط الحيط، والحيطان إلها آذان، وإني أرى في الرياضة حياة، والوطن عزيز والوطن غال...الخ) ما هي إلا واجهة البعث التي يغطي فيها وجه النظام الطائفي القبيح والتي عبّر عنها ميشيل سورا بالقول: إن "حافظ الأسد هو البطل عند هيغل الذي يتسامى عن التوترات الصغيرة لذلك فمن الممكن أن يسحق في طريقه بعض الزهور البريئة" متسائلاً ما هي الزهور البريئة التي سحقها حافظ الأسد في طريقه؟ إنها حرية وكرامة المواطن السوري المهزوم الخائف والمتوجس من كلّ شيء حتى من صيحة موظف لجوء فرنسي.

إنها تسعة وثلاثون عاماً (سن شخصية عمر في المسرحية) وهي عدد السنوات التي انقضت منذ أن قتل ميشيل سورا على يد تجلي حزب الله الأول (الجهاد الإسلامي) حتى اليوم وهي دعوة لمواجهة كل هذا الخوف أو تنظيفه "بليفة وسيفة" على رأي عمر، وإلا فسنصمت للأبد كما المشهد الأخير من العمل الذي يلف عمر الشريط اللاصق على فمه وجسمه ويده مغلولة إلى فمه.