لعلّها من المرات النادرة التي يظهر فيها رأس النظام في سوريا بشار الأسد بهذه الشفافية المُمعنة في التوثّب والهجوم بمزيج فاقع من التعنّت والإنكار، وإذا أضفنا أن القناة المستضيفة هي سكاي نيوز الإمارتية، فذلك يعني إضافة مسحة درامية إضافية على المشهد الغائم أصلاً.
ثمة سلسلة غير منتهية من التطورات التي من الممكن أن توصف بأنها درامية منذ آخر إطلالة للأسد بلقاء تلفزيوني (روسيا اليوم 16 مارس/آذار) ربما يكون عنوانها الأبرز "المسار العربي" والذي رافقته جملة من الدعاية العالية كانت تشي بمجملها بما أطلق عليه "تعويم الأسد"، وكان سبقها عدة مسارات على رأسها المسار التركي والذي تكلّل بخطوات ملموسة على صعيد لقاء وزراء الدفاع، ووزراء الخارجية، بالرغم من الإصرار المستمر على اشتراط انسحاب تركيا من الأراضي السورية.
وفي السادس من شباط/ فبراير هزّ الزلزال المدمر تركيا وسوريا، ليستحيل قشّة جديدة عرف بشار الأسد كيف يتعلّق بها جيداً على صعيد إدخال المساعدات وإعادة العلاقات مع عدد من الدول وعلى رأسهم الإمارات ومصر، كُللت كل تلك الجهود في النهاية على شكلِ إلغاء تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية في قمّة جدة الأخيرة، فضلاً عن تجميد عقوبات الولايات المتحدة المفروضة مسبقاً بما فيها "قيصر" لمهلة ستة أشهر (انتهت قبل أيام).
أفرزت كلّ تلك التطورات جبلاً من الأسئلة عن مدى حقيقة تعويم الأسد عربياً ودولياً، إلا أنه في الأروقة الداخلية للمبادرة العربية ثمة كلام آخر كان يحاك، فبالنظر للمشهد من الخارج سنجد أن المبادرة العربية كانت المسار الوحيد المرسوم للأسد بعد انغلاق كل السبل من أمامه، فمع تعثّر المسار التركي، وانشغال الروس في المستنقع الأوكراني وطعنةِ الظهر المفاجئة التي وجهتها "فاغنر" للرئيس فلاديمير بوتين، وانهيار المنظومة الاقتصادية في سوريا وهبوط سعر صرف الليرة إلى مستويات قياسية، بدت المبادرة العربية الفرصة الأخيرة لإيجاد حلّ سياسي في سوريا وذلك عبر مبدأ الخطوة بخطوة كما أعلن بيان عمّان وقوامه الرئيس القرار الأممي 2254، وما قبول الأسد بالقدوم للجامعة العربية إلا مواقفة صريحة على ما ورد في بيان عمان وبيان جدّة من قبله لتنطلق الزيارات المكوكية لفيصل المقداد من بعدها إلى كل من مصر والسعودية والوعود ببدء افتتاح السفارة السعودية في دمشق والسورية في الرياض.
ضاقت الدول العربية ذرعاً فبدأت بتسريب بنود الاتفاق الداخلية عبر مجلّة "المجلّة" الممولة سعودياً تحت عنوان "مسودة قرار عودة سوريا للجامعة" للإشارة إلى أن الأسد هو من يعرقل أي جهود لإيجاد حلّ سياسي للأزمة السورية
عُقدت القمّة، وانتهت المُدد المُحددة لافتتاح السفارات ولم يحدث شيء، أين الاستثمارات؟ وأين دعم الليرة؟ وأين مبدأ الخطوة بخطوة؟ وأين وأين..؟ ضاقت الدول العربية ذرعاً فبدأت بتسريب بنود الاتفاق الداخلية عبر مجلّة "المجلّة" الممولة سعودياً تحت عنوان "مسودة قرار عودة سوريا للجامعة" للإشارة إلى أن الأسد هو من يعرقل أي جهود لإيجاد حلّ سياسي للأزمة السورية.
وأخيراً أطلّ الأسد بعد كل هذا الأكشن وكأنه "غودو" في تحفة رائد العبث "صموئيل بيكت" وهل من عبثٍ أكثر من الذي يحدث؟
أطلّ الأسد ليقول إن كل تلك الجهود العربية لحلّ الأزمة وعلاقاته بها إنما هي مجرد علاقات شكلية لأنها وفق تعبيره لم تُبن على أسس وقيم مؤسساتية.
وعلى طريقة "أزعر الحارة" صفع الأسد العرب جميعاً في هذ االلقاء رامياً لهم الكرة، إن أردتم عودة اللاجئين فادفعوا الأموال لبناء ما دمره الإرهاب، فأنتم من مولتم الفوضى في سوريا فلتتحملوا إذن، وكيف يعود اللاجئون دون بنية تحتية ودون كهرباء ودون ماء؟
وأما بالنسبة لتركيا، فالصفعة أيضاً كانت من نصيبها، فهي من صنعت ومولت الإرهاب فلتتحمل هي الأخرى من صنعت يداها بحسب تعبيره.
أما إيران وروسيا فهما أفضل أصدقاء الشعب السوري، ولو عاد بنا الزمان إلى العام 2011 لفعلنا نفس ما فعلناه.
قد يحار المرء حيال تلك التصريحات، هل يفرح السوريون بها لأنها تعجل في هلاكه، أم يجب أن يحزنوا لأن الوقت اللازم لهلاكه يعني حتمياً تضرر السوريين بشكل مضاعف عن ما هم عليه الآن
هذه هي أبرز العناوين التي أدلى بها الأسد في لقائه المتلفز، هي عناوين صادمة وغير صادمة في الوقت نفسه، فهي صادمة قياساً بالتطورات الأخيرة والتي كان من المنتظر أن يبدي الأسد من بعدها ليناً ما، وهي غير صادمة قياساً بما يعرف عن الأسد ونظامه وتعنّته.
قد يحار المرء حيال تلك التصريحات، هل يفرح السوريون بها لأنها تعجل في هلاكه، أم يجب أن يحزنوا لأن الوقت اللازم لهلاكه يعني حتمياً تضرر السوريين بشكل مضاعف عن ما هم عليه الآن، خاصة على من هم في الداخل والذين بات العجز عنواناً لحياتهم بعد وصول سعر صرف الدولار إلى 13 ألف ليرة.
هل ينتظر السوريون تدخلاً عسكرياً يقضي على المنظومة، ماذا ستكون ردة الفعل وقتذاك؟ هل ينتفضون داخلياً –وربما قد بدؤوا بالفعل- أم ينتظرون ما ستقرره الأيام بما تحمل..
أياً يكن من الخيارات، سيبقى إذن لسان حال الأسد الآن يقول: هو ذا أنا، في قصري لن تتوقف المخدرات، ولن أعيد اللاجئين، ولا معتقلين لدي، ولا أعترف إلا بالمعارضة المصنّعة في الداخل، ولن أشرب المرطبات مع أردوغان، ولن أعترف بما تم الاتفاق عليه عربياً فهو شكلي ولا يستند إلى المؤسسات، ولن ولن ولن ولن.. أريد منكم محو ذاكرة سكان الكرة الأرضية والعودة بها إلى عام 2010 وكل شيء سيغدو على ما يرام.