هل بات لبنان في صدّد خسارة آخر ما تبقى له من حيّز الحريّات المتضائل، لصالح غلبة العنف والتّشدد واستحكام الخارجين على القانون بالمشهد العام ومفاصل السّلطة؟ هل يُمهد هذا الواقع لمزيد من الانقسامات الداخليّة والفدراليّة المُقنعة؟ هذه الأسئلة وغيرها تُراود سواد المُطلعين على المشهد اللبناني في الآونة الأخيرة وتحديدا المؤيدين لمبدأ المواطنة وما يختزنه من حقوق وحريّات مُثبتة دستوريا لكنّها منتهكة ومهمشة على أرض الواقع. ولعلّ الشرخ العظيم بين مفهوم القانون وواقع تطبيقه، كان ولا يزال في طليعة الأزمات الممهدة لمأزق لبنان الحاليّ وانهياره المزمن.
اعتداء على ناشطة لبنانية بسبب "مايوه"
فمنذ نحو الأسبوع والشارع اللبناني يشهد انقساما حادا وصل إلى حدّ التدخل الرسميّ والتظاهر في السّاحات العامة وتقاذف التُهم والإساءات افتراضيا. ذلك بُعيد انتشار خبر اعتداء شيخين من مدينة صيدا السّاحلية جنوب لبنان، على ميساء حانوني مع زوجها سامر يعفوري في أثناء وجودهما على شاطئ مدينة صيدا العام نهار الأحد 14 من أيّار الجاري، وقد اشتمل الاعتداء على التهديد والتعنيف اللفظيّ بُغية إجبارهما على المغادرة بسبب لباس البحر (المايوه) الذي كان ترتديه ميساء ووصفه "بغير المُحتشم", ومن ثمّ إمهالهما عشر دقائق للمغادرة بلهجة تهديديّة كما أشارت حانوني لعدد من وسائل الإعلام. وفي حين رفض الزوجان المُغادرة قام نحو 15 شخصا وبإيعاز من الشيخين بمضايقتهما والتحلق حوليهما ورشقهما بعبوات المياه والرمال. كل ذلك تحت ذريعة "الأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر".
اللبنانيون منقسمون
هذا الحدث أشعل أوار إشكالية واسعة تفاعل معها اللبنانيون وانقسموا بين مؤيد لمنع الشابة الصيداوية من ارتياد الشاطئ بملابس البحر بحجة أنها غير محتشمة ولا تَليق بصورة المدينة "المحافظة" ولا تُناسب طبيعة المكان العائلي. ومُعارض لانتهاك الشيخين حقّ الناشطة وحريتها في ارتياد المساحات العامة وتحديدًا شاطئ بلدتها بالملبس الذي تُريد والذي يكفله لها الدستور والقوانين المرعية الإجراء. وهذه الحركة المُعارضة قد دفعت برهطٍ من اللبنانيات لنشر صورهن على منصات التواصل الاجتماعي ودعوة عدد من الجمعيات النسويّة والحقوقيّة لتنظيم رحلة إلى الشاطئ العام في مدينة صيدا يتخللها مؤتمر صحفي لـ "استنكار التضييق على الحريات الفردية والرفض للقمع والترهيب"، وهو ما جرى الرّد عليه سريعاً بالدعوة إلى وقفة مناهضة في ذات الزمان والمكان من قبل مجموعات إسلاميّة محافظة. ذلك نهار الأحد الفائت 21 من أيّار الجاريّ بعد أسبوع بالتمام على حادثة الاعتداء على الناشطة.
وفي خضم الاحتقان الحاصل قامت بلدية صيدا برفع لافتة كبيرة عند مدخل شاطئ مسبح صيدا الشعبي وقبيل افتتاح الموسم، ذكرت فيها رواد الشاطئ بمجموعة من الشروط والإرشادات، من بينها التقيد باللباس المحتشم ومنع إدخال المشروبات الروحية. هذه اللافتة التّي حملت توقيع بلدية صيدا ووزارة الأشغال العامة والنقل. ودعت رواد المسبح إلى التقيد بهذه الضوابط والإرشادات العامة المتبعة سنويا في المسبح الشعبي، مشيرة إلى أن البلدية وشرطتها وإدارة المسبح والجمعية ستسهر على تطبيقها.
وبالفعل شهد الكورنيش البحري في صيدا، نهار الأحد الفائت المواجهة بين الفريقين اللذين سعرا حملات افتراضية وإعلامية طيلة الأسبوع الماضي. بالرغم من القرار الصادر عن بلدية صيدا بمنع إقامة التظاهرتين قبل أيام. وفي حين ادعى المتشددون والمحافظون أن غايتهم هي المحافظة على صورة المدينة "المُسلمة والمحافظة" ومنع مظاهر "العُري والتفلت الأخلاقي" و"الالتزام بالعادات والتقاليد", أصرّت المجموعات الحقوقيّة والمدنيّة مدعومةً بجهات رسميّة وبرلمانية على موقفها إزاء الاعتداء الذي طال حانوني مستنكرة الانتهاك الفاضح لحقها في الملبس وارتياد المساحات العامة والتعبير فضلاً عن محاولة البعض تشويه سمعتها بسبب هذا الموقف. وسرعان ما تطورت المواجهة التّي واكبتها تعزيزات أمنيّة مشدّدة إلى اشتباكٍ بالأيدي وتنازع لفظي بين الفريقين أمام كاميرات الإعلام والمتفرجين. أدى لتعرض الباحث في مركز الدولية للمعلومات والناشط الحقوقي محمد شمس الدين لإصابة في العين، وتوقيف ثلاثة أشخاص.
أزمة "المايوه والاحتشام" في لبنان
واقع رفع اللافتة الرسميّة فضلاً عن المواجهة التّي حصلت في المدينة، أسهما في تسعير الانقسام الحاصل، الذي فتح باب النقاش القديم حول الحريّات في لبنان، وقانونيّة اللافتة المرفوعة ومدى مواءمتها للنُظم الدستوريّة التّي تُفيد بأن لبنان دولة مدنيّة تحترم التنوع والاختلاف. والانبثاق المُباغت لمطلب بثّه مؤيدو قمع الشابة مفاده "المحافظة على خصوصية المناطق" مستحضرين حوادث مشابهة حصلت سابقًا، مثل منع فتيات محجبات من السباحة بلباس البحر المُحتشم (البوركيني) في مناطق مثل جونية وجبيل (شمالي لبنان) ومنع بعض المؤسسات توظيف المحجبات. هذا في حين أكدّت الجهات الحقوقية والمدنيّة الداعمة احترامها ودفاعها عن جميع اللبنانيين باختلاف معتقداتهم على منوال احترام الدستور اللبناني لهم سواء أكانوا "بالبكيني" أم "بالبوركيني". ومع توالي الأحداث وما سببته من تشرذم وتنافر شعبيّ، تصاعدت بعض المخاوف من عودة التيار المتشدد في لبنان عمومًا وصيدا على وجه التخصيص، هذا التشدد دفعت هذه المدينة أثماناً باهظة بسببه في السّابق. وقد انفلت الصراع الحاصل ليستجد طرح البعض لحلّ الفيدراليّة كمخرج من هذه الانقسامات المتكررة.
ومما لا شكّ فيه أن هذه الإشكاليّة التّي وصفها بعض المطلعين بالأزمة ليست الأولى من نوعها وحتما ليست بالأخيرة، وهي محصلة سنوات من إذعان السّلطات اللبنانيّة وتقاعسها الممنهج في ردع المخالفين والخارجين عن القانون والمتطاولين على أحكامه طمعا بفرض أحكامهم الخاصة، الأمر الذي يُعبر دوريا عن رفضه شطر لا يُستهان به من المواطنين في حين تآلف معه قسرا الشطر الآخر. وفي أوج الصراع المستحدث وأزمة "المايوه والاحتشام" المستجدّة، لم تُحرك السّلطات الرسميّة ساكنا، واكتفى ممثلوها بالاستنكار والشجب دون أي موقف رسميّ واضح أو إجراء يُصوب دفة الحديث إلى مسارٍ واضح.