تشكل إفريقيا اليوم ساحة صراع ونفوذ دولي متقدم بين القوى الكبرى، الباحثة عن تمدد جيوسياسي واستراتيجي واقتصادي جديد. بعد انحسار النفوذ الاستعماري الكلاسيكي الأوروبي والغربي عن القارة السمراء منذ مئات السنين، عقب الانقلابات العسكرية وتفشِّي ظواهر الفساد والفقر والإرهاب في دول وسط وغرب إفريقيا، آخرها كان في جمهورية النيجر، تلك الدولة التي لا تمتلك أية منافذ بحرية تُوْصلها بالعالم الخارجي. بينما تتقدم روسيا في هذه الساحات سواء عبر تقديم الأسلحة بكميات كبيرة "لمواجهة الإرهاب"، أو من أجل العمل على "تحلُّل" سلطات الدول المركزية الخاضعة منها لعقوبات أميركية، أو عبر شركة "فاغنر" العسكرية، والتي بدأ امتدادها يكتسح بلداناً صار من الصعب التخلص منها ومما فرضته بحكم الأمر الواقع التسليحي والعسكري ووضع اليد على مقدَّرات الدول من ذهب ويورانيوم.. فهل هناك فعلاً أنكفاء أوروبي_غربي عن إفريقيا؟ أم أن الحاجة الروسية باتت أقوى لتنويع الاستثمارات العسكرية والاقتصادية بعد أن أقْفل الغرب وأَحْكم كلَّ أنواع العقوبات بوجه موسكو؟ وهل يمكن أن تشكل إفريقيا ساحة صراع لنفوذ مستقبلي أم بيئة مفخَّخة تُغري اللاعبين الدوليين على غرار أوكرانيا وما يجري على ساحة هذه الدولة من عمليات تصفية واستدراج واستنزاف لكلِّ أطراف الصراع...؟
لكن اللافت أنَّ شعوب بلدان القارة الإفريقية وبعض قادتها العسكريين ونُخبها، الذين أغْرتهم التحولات الدولية الجارية، وممَّن يعتبرون أن فرصة التخلص من الاستعمار الأوروبي القديم لدولهم بعد امتصاص خيراتها ومعادنها وذهبها هي متوفرة بقوة اليوم، ولم يدركوا أنهم اليوم أمام منظومة استعمارية روسية جديدة، إذا ما كُتب لها النجاح، فستكون أشد وطأة وصعوبة وانتهاكاً، لأنها تدار بعقلية وبأدوات حكم استعماري عبر شركات ومافيات وميليشيات عسكرية على غرار "بلاك ووتر"..
ما يعني أنه سيتم استبدال العصا الاستعمارية الغربية بأخرى شرقية ميليشياوية أشد قساوة وعنجهية وعنصرية، لأنها لا تقيم وزناً بالأصل للعلاقات الإنسانية وحقوق الإنسان واحترام مبادئ المنظمات الدولية..
ترغب موسكو اليوم عبر المؤتمرات المتكررة التي عقدتها بحضور إفريقي وازن في سانت بطرسبرغ، في مد يد العون عبر المساعدات الغذائية، بعد أن خرجت وضربت اتفاقية تصدير الحبوب والغذاء الأممية مع أوكرانيا
وككل قوى الاستعمار التقليدي، تسعى روسيا عبر القوة الناعمة، وكما كان يفعل الغرب في تمجيده لقوى الحرية والتمدُّن وتوسيع مساحات ملاعبها، وطرح الديمقراطية كشرط ومعْبر أساسي في بناء المجتمعات وتنميتها، حيث ترغب موسكو اليوم عبر المؤتمرات المتكررة التي عقدتها بحضور إفريقي وازن في سانت بطرسبرغ، في مد يد العون عبر المساعدات الغذائية، بعد أن خرجت وضربت اتفاقية تصدير الحبوب والغذاء الأممية مع أوكرانيا، كما عمدت حليفتها إيران إلى توظيف خطاب المقاومة وشعارات الاستغلال الإمبريالي في نسج علاقات خارج منطقة الشرق الأوسط، عبر خطاب مزيَّف لبنى فوقية ثقافية ولنشر الكتب الدينية المنسوبة لمؤسس النظام الإيراني، وتعمل على تعزيز التعاون الاقتصادي والعسكري مع دول عديدة، وتسعى إلى الترويج لوجود تكتل دولي معاد للولايات المتحدة والهيمنة الغربية. وذلك لفك عزلتها الدولية وإيجاد منافذ أخرى بعيدة من الغرب مع الدول المفترقة عن واشنطن تحديداً، عبر مزيج من الشعارات الثورية والإيديولوجية وتوظيفها على الواقع في اتفاقات تعاون عسكري واقتصادي.
وروسيا دخلت الحوض الإفريقي كذلك عبر توريدات السلاح التي شكَّلت 40% من صادرات موسكو إليها. ولأن منطق الاقتصاد الربحي ورأسمالية الدولة ومجمَّعات الصناعات الحربية والعسكرية تتطلَّب المزيد، صار تفعيل هذه المجمعات التي تدرُّ أرباحاً كبيرة ضرورة، في بناء هذا التوسُع المدروس بين الأمن والغذاء والتسليح، من ضغط العقوبات الغربية، وتوسيع مروحة علاقات الكرملين وتنويعها، وذلك حتماً سيفتح العالم على حروب واستقطابات جديدة، بسبب الأطماع والاستحواذ على ثروات وخيرات ومقدرات إفريقيا، الغارقة في جهل النظم السياسية وتداول السلطة، وبالفقر وسوء التغذية والتنمية..
وعلى رغم الانقلابات المتتالية في مالي وبوركينا فاسو والسودان وتشاد وغينيا، وما يحمله كل انقلاب من صفات معقَّدة وحوامل محلية وإقليمية ودولية، تبقى عناصر الفقر وعدم المساواة والفساد ورداءة الحكم وضعف المؤسسات، عوامل مشتركة أسهمت في زيادة الانقلابات العسكرية غرب إفريقيا، وكذلك بسبب مزاج الشعوب الموافق للتدخل الروسي على حساب النفوذ الغربي، بحيث أنَّ هذا التقلُّص الكبير لنفوذ فرنسا، قابله تمدد صيني - روسي، ففي حين تسيطر بكين على الأسواق تسعى موسكو إلى سدِّ فراغات القوى الاستعمارية السابقة. ولذا، سيكون على الغرب إعادة تقييم استراتيجيته في غرب إفريقيا، بالتركيز على معالجة أسباب عدم الاستقرار، وعدم المساواة الاقتصادية والحكم الضعيف، إضافة إلى الجهود العسكرية لمكافحة الإرهاب.
ستشكل شعوب هذه الدول ومساحاتها الجغرافية الكبيرة نقطة جذب استعماري وإمبريالي غربي وشرقي جديد، بسبب افتقاد عنصر الولاء الوطني والعودة إلى الولاءات القبلية والمناطقية
فالعالم اليوم وشعوب ودول إفريقيا المُنهكة، ستكون أمام موجات حروب جديدة، بدأت مشهديتها باقتتال الجنرالين في السودان بسبب الأطماع الاقتصادية للاستحواذ على ثروات ومقدرات إفريقيا البِكر، حيث ستشكل شعوب هذه الدول ومساحاتها الجغرافية الكبيرة نقطة جذب استعماري وإمبريالي غربي وشرقي جديد، بسبب افتقاد عنصر الولاء الوطني والعودة إلى الولاءات القبلية والمناطقية، بعد ضعف سلطة الدولة المركزية التنموي، والتفلت الأمني وفقدان التنمية وشروطها، وتعزيز النزعات الدينية بسبب الفقر المدقع والبطالة، كحوامل أساسية للصراع والتغيير. فتكون هذه المجتمعات البائسة أمام موجات جديدة من الصراع والوقود البشري، ومحرقة حروب في سبيل الأطماع الاقتصادية وتحسين شروط بناء نظام دولي جديد، يفْرز موازين قوى اقتصادية جديدة، عبر تغيير خرائط جيوسياسية، طالما أن ذلك يلقى القبول الشعبي عبر الحكم الريعي في تفتيت المجتمعات وتقسيمها وفق الحاجات الاقتصادية لعلاقات الإنتاج الدولية. وهي بعيدة كل البعد عن أية تنمية حقيقية لشعوب القارة السمراء، وإعادة وصل حلقة المتروبول الاستعماري القديم بعلاقات كولونيالية جديدة داخل هذه الدول، تستنزف مقدراتها وتنشئ بيئة استعمارية لا فرق فيها إن كانت شرقية روسية صينية أو غربية أوروبية أميركية.. فالنتيجة ستكون واحدة حكماً..