تدخل الجار وأخمد النار. الحكاية لم تنتهِ والبائن أن ديمومة الصراع ستكون طويلة الأمد، بحيث تبقى متوهجةً تؤجج التنافس بين الدولة واللا دولة ليس في بلاد الروس فقط بل في عموم المعمورة.
فاغنر وُجدت لتغطي على تجاوزات الدولة. العاقل يُدرك أن الدب إذا دخل الكرم انقلب على صاحبه ولو بعد حين؛ فالعشوائي لا يتناغم مع المُنتظم.
بداية الصراع بين الجيش الروسي وفاغنر تعود إلى شباط/فبراير المنصرم. في ذاك الوقت، امتعض الجيش الروسي بعد خروج رئيس فاغنر، يفغيني بريغوجين، بأكثر من فيديو دعائي يروج لذاته بأنه حامي الحمى. لم يقف بريغوجين عند ذلك، اتهم الجيش مراراً بالتقصير، وسار إلى تأسيس مقر إعداد خطط تطوير للقدرات الاستخبارية والعسكرية لفاغنر في مدينة سان بطرسبرغ.
انتفض الجيش الروسي أمام تصرفات بريغوجين. الجيش الروسي تدعمه المخابرات الروسية وجدا بخطوات بريغوجين ناقوس خطر يوحي ببزوغ مؤسسة موازية لهما. هنا دار صراع بين الدولة واللا دولة.
أسباب اعتراض الجيش الروسي على مأسسة فاغنر تكمن بصورةٍ أساسية في تخوّف مؤسسات الدولة من التحوّل إلى صفر على الشمال أمام عشوائيات وميليشيات اللا دولة.
مخاوف الجيش الروسي وكذلك جهاز المخابرات من توسع نفوذ فاغنر نبعت من النقاط التالية:
- الخشية من ظهور قوات حرس ثوري أو باسيج كما الحال في إيران. والمُتابع للشأن العام يُدرك حجم تحكم هاتين المؤسستين بمقاليد الدولة الإيرانية السيادية من خارجية ودفاع. لو عاد أحدنا وبحث عبر الإنترنت بعبارة: "الصراع بين ظريف وقاسم"؛ ستُرسم في ذهنه قصة كاملة الأركان عن الصراع بين ظريف الدولة وقاسم اللا دولة.
اهتزت هيبة موسكو في نظر كثيرين بعد أن شاعت دعاية انتصارها في باخموت بفضل شركة تضم ثلة من اللصوص والمغتصبين والقتلة
- التخوّف من حدوث انزياح مؤسسي من قبل أفراد الجيش والمخابرات نحو قوات فاغنر باعتبار أن رواتب قوات فاغنر أعلى ومسؤوليتها المهنية أقل.
- التخوّف أيضاً من تسيّب أجهزة الدولة الروسية وانضباطها. التسيّب مرض معدٍ سريع الانتشار شديد التأثير السلبي.
- عدم الرغبة في منح فاغنر فرصة التحرك باسم موسكو، حيث ذلك يُفقد موسكو الهيبة الدبلوماسية. فعلاً اهتزت هيبة موسكو في نظر كثيرين بعد أن شاعت دعاية انتصارها في باخموت بفضل شركة تضم ثلة من اللصوص والمغتصبين والقتلة تُعرف باسم "فاغنر"؛ سمعة كسمعة فتاة تخرج الساعة الثالثة بأمان.
جنت على نفسها موسكو؛ استعانت بغطاءٍ يجنبها وحْل الخسائر والاتهامات بالتدخل في شؤون الدول الأخرى فسقطت في مستنقع كاد يودي بها في غياهب دول العالم الثالث؛ حيث التفكك والعشوائية. وهذا ما دفع قادة الجيش والاستخبارات للتحرك قبل فوات الأوان.
الدولة الروسية تتحرك بعقلية المهندسين القُدامى للعلاقات الدولية. يُسَمَى هؤلاء المهندسون بواقعيين كلاسيكيين. هذه الفئة من المهندسين ترى أن تحرك الدولة الأساسي خارج إطارها السيادي يجب أن يكون بمنطلق أمني لأنه ليس هناك صديق صدوق دائم. ولتحقيق هذا التحرك ينظر هؤلاء المهندسون إلى الدولة كوحدة هندسية تُهيمن مؤسستا الجيش والمخابرات عليها.
يبدو أن موسكو تخلّصت نسبياً من أتون الصراع بين الدولة واللا دولة، لكن زعيم روسيا البيضاء، ألكسندر لوكاشينكو، يرى فيها فرصة لتحقيق نفوذ سياسي ودخل اقتصادي
هذه العقلية المُسيطرة على روسيا لا تشبه الدول الأخرى التي ربما يُسيطر عليها توجه التحالفات الاقتصادية مثلاً. تخيّل هذه العقيلة اصطدمت بطرفٍ يُريد أن يوازيها بالنفوذ والهيمنة! مستحيل أن يحدث ذلك بالطبع، لذلك كان رد هذه العقلية خشناً جداً، إذ لم يكترثوا بموت عددٍ من قوات فاغنر، لعل ذلك يكون درساً يفهمه بريغوجين، لكن يبدو بريغوجين سميك الدماغ، وهذا ما أودى به إلى بيلاروسيا التي ترى أن فاغنر فرصة لإعادة تأهيلها لخدمة أي دولة تطلب خدماتها.
يبدو أن موسكو تخلّصت نسبياً من أتون الصراع بين الدولة واللا دولة، لكن زعيم روسيا البيضاء، ألكسندر لوكاشينكو، يرى فيها فرصة لتحقيق نفوذ سياسي ودخل اقتصادي. العالم كله مقبل على صراع دائم بين الدولة واللا دولة، لم يعد هناك أي معيارٍ للأخلاق وتعدد القطبية مُسيطر؛ أي ليس هناك رأس أو رأسان ليصبح هناك توازن في إدارة الأمر، بل هناك عدة روس، وكثرة الطابخين تُفسد الطبخة.
خلاصة القول؛ ما حدث في موسكو كان صدام مصالح وتنافساً مهنياً بين مؤسسي بين الدولة واللا دولة. الطرف الموازي للدولة؛ بمعنى الطرف القائم بحد ذاتها خارج إطار الدولة ولوائحها، خطره الأكبر على الدولة التي أوجدته أو تغاضت عن تمدده. الأمثلة واضحة في إيران والعراق ولبنان.