ربما بات مألوفاً منذ اليوم الأول للعدوان على غزة وحتى يومنا هذا؛ إشارة وسائل إعلام عربية وأجنبية في أكثر من مرةٍ وكرة إلى وجود خلافٍ محتدمٍ كالرمضاء بين دولة الاحتلال وإدارة بايدن. وبحسب ما تذكره تقارير وسائل الإعلام، فإن نقطة الخلاف تدور حول غموض خطة الاحتلال حيال قطاع غزة لما بعد انتهاء الحرب.
ثمة رأي يقول لعل ذلك تكتيك هدفه التضليل باعتبار أن دولة الاحتلال وواشنطن وجهان للدور ذاته القائم على ترسيخ احتلال فلسطين وحرمان أهلها الحرية والاستقلال. لكن الخلاف داخل دولة الاحتلال نفسها أصبح ملء السمع والبصر؛ فلا يخفى على متابعٍ طيف انتقادات بعض أحزاب المعارضة والصحفيين بل وتصريحات لأعضاء مجلس الحرب تُفيد بأن نتنياهو لم يقدم حتى الآن خطةً واضحةً لواقع غزة ما بعد الحرب.
الواقع فعلاً غامض، ويكاد يكون ذلك مقصوداً بفعل رغبة الاحتلال في إطالة أمد وجوده داخل غزة، فطرحه لخطة واضحة تشمل مكوثه في غزة حتى ولو ليومٍ واحد بعد الحرب، يعني أنه يقول للعالم: أنا محتل! وكيان الاحتلال مراوغ ولا تفوته فائتة.
في ضوء التباس موقف الاحتلال حيال واقع غزة، المسار يصبح مستنداً إلى استقراء مؤشرات بعينها للخروج بسيناريو يخاطب جادة الواقع قدر الإمكان.
السيناريو الأول ولنسمّه "التضفيف"؛ يعني تحويل قطاع غزة إلى ما يشبه الضفة الغربية، لا سيّما في نقطة سهولة تحرك آليات الاحتلال داخل القطاع والوصول لهدفها براً على نحوٍ يُبقي حالة الإرباك الأمني حائلةً دون أي حراك مقاوم.
رفض غالبية عشائر وعائلات غزة عودة السلطة بعد الحرب؛ باعتبار ذلك خيانة وعودة على ظهر دبابة.
شاع الحديث حول هذا السيناريو عقب وصول آليات الاحتلال بسرعة إلى مستشفى الشفاء في محافظة غزة والأمر ذاته وقع بوصول آليات الاحتلال إلى مدينة حمد السكنية في خان يونس، فضلاً عن دخول الاحتلال السريع لحي الزيتون مع انطباق ذلك على اقتحام الاحتلال بيت لاهيا وبيت حانون بين الفينة والأخرى بمفارقة أن المقاومة لم تعد تتصدى بالقوة ذاتها التي كانت عليها مطلع الحرب.
وما يعزز هذا السيناريو بالنسبة لبعض من يتبناه حديث متداول عن استعداد السلطة الفلسطينية للعودة إلى غزة، بل وتحرك جهاز المخابرات التابع لها فعلاً في إجراء بعض الترتيبات لتنسيق استلام المساعدات في بداية الأمر على أن تتسع سيطرتها تدريجياً وتحول قطاع غزة إلى ضفة غربية مهيمن عليها من فلسطيني مهادن واحتلال مستبيح لها وقتما يشاء.
شواهد تدعيم السيناريو المذكور موجودة بالفعل، لكن وقوعه أو حدوثه على المدى الطويل يشوبه اللاواقعية لعدة عوامل:
- تكشير الحواضن الشعبية لحماس وفصائل المقاومة الأخرى الشعبية عن أنيابها وتكاتفها مع بعض رجال الأمن التابعة لداخلية غزة في التصدي بحزم لمحاولات السلطة في العودة لحكم غزة. وحماس ليس كتائب القسام فقط، بل هناك أجهزة أمن داخلي وأخرى جماهيرية ودعوية تستطيع تحشيد حاضنة مناهضة لذلك.
- رفض غالبية عشائر وعائلات غزة عودة السلطة بعد الحرب؛ باعتبار ذلك خيانة وعودة على ظهر دبابة.
- تخوف السلطة الفلسطينية ذاتها من العودة إلى قطاع في ظل وجود غموض قاتم حول مستقبل عملية إعادة الإعمار.
- ربما كتخمين لم يصدر إحصاء دقيق في هذا الصدد، لكن حجم الخسائر في الأرواح والبيوت التي مُني بها الغزيون، ستبقى محركاً لهم رغبةً في الأخذ بالثأر، ودخول السلطة على الخط قد يكلفها الكثير في مواجهة طيف ملموس من الشعب.
- حالة الفوضى والعوز توفر لدولٍ وحركاتٍ ذات هدف فرصة استقطاب لعددٍ من الشباب لتحشيدهم في إطار مقاومة مسلحة إما تبث روح مقاومة جديدة أو تنخرط في أعمال تؤثر سلباً في أي دورٍ للسلطة الفلسطينية أو أي إدارة ينبتها الاحتلال داخل القطاع.
- وجود نفس مقاوم مع بقاء مناطق لم يدخلها العدو حتى الآن، ويعني ذلك أنه بعد 6 شهور من الحرب لم تُكسر شوكة المقاومة في غزة بالكامل كما حدث إبان عملية "السور الواقي" ضد الضفة عام 2002، وبالتالي أن الاحتلال بعد هذه الفترة سيُبقي جيشه منشغلاً بجبهة غزة مع جبهات ثانوية أخرى، والغالب لا يرغب جيش الاحتلال في ذلك بل يبدو من تصريحاته قادته أكثر ميلاً لتثبيت مناطق سيطرة حول القطاع بحيث يكون له قدرة أفضل على التصدي لأي حدث طارئ قد تأتي به المقاومة.
نقل المعارك من داخل حدود الكيان إلى قطاع غزة من خلال تحقيق السيطرة الجزئية المحصنة دون الدخول في معارك محتدمة كما في مستهل الحرب وأيضاً دون تحمل مسؤولية إدارة القطاع.
السيناريو الثاني ولنسمّه "اللبننة"، وهو مقتبس تحديداً من واقع جنوب لبنان ما بعد عملية "السلام للجليل" عام 1982. كمقاربة لا تحمل التطابق التام لكن تعكس تشابهاً، يبدو أن الاحتلال في غزة يسعى لإبقاء قواته منتشرة وسط غزة التي تفصل شماله عن جنوبه، على أن يبقى أقصى شمال غزة؛ بيت حانون وبيت لاهيا بمثابة منطقة عازلة يناور جيش الاحتلال فيها سواء بوجوده المباشر أو عبر الاقتحام الخاطف بما يشبه ما حدث من سيطرة للاحتلال على جنوب لبنان حتى عام 2000، مع نشر قوات للاحتلال في محيط شرق غزة وصولاً إلى الاستيلاء على الحدود بين غزة ومصر.
الهدف من ذلك تحقيق الدفاع الهجومي؛ بمعنى نقل المعارك من داخل حدود الكيان إلى قطاع غزة من خلال تحقيق السيطرة الجزئية المحصنة دون الدخول في معارك محتدمة كما في مستهل الحرب وأيضاً دون تحمل مسؤولية إدارة القطاع.
فعلاً؛ النقطة غير الواضحة في إطار هذا السيناريو هو نقطة من سيُدير الخدمات المدنية في قطاع غزة؛ هل سيكون هناك انتشار لقوة عربية أو أجنبية يترك الاحتلال إدارة خدمات القطاع لها كما كان هناك انتشار لجيش النظام السوري وقوة حفظ نظام دولية في لبنان أم سيستحدث جيش الاحتلال قوة أشبه بجيش لحد؟
انطلاقاً مما ذكر أعلاه من عوامل تقويض جهود الاحتلال بإدخال السلطة أو أي جسم خدماتي آخر، ولكن مع واقع سيطرة الاحتلال على محيط القطاع ووسطه في الوقت الحالي يتضح أن لبننة الاحتلال للقطاع هو السيناريو الأقرب لمزاج الاحتلال مع مفارقتين:
الأولى؛ تحديد الاحتلال لشركات ومكاتب معينة توفر السلع وتقدم الخدمات لسكان قطاع غزة مع القبول بجهود دولية؛ تحديداً جهود الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة، لرعاية عملية تقديم مساعدات وربما رعاية الخدمات التعليمية والصحية بالاعتماد على منظمات دولية، وكل ذلك بتنسيقٍ كامل مع الاحتلال. أما الأمن وشؤون القضاء فتصبح عرفية تقودها العشائر والعائلات حتى لو لم تنسق مع الاحتلال. وفي ضوء هذه النقطة، سيمضي الاحتلال على الأرجح لاستهداف جهود المقاومة في استعادة
ضبط الأمور. والأفضل لحماس عدم التكفل بالمهام الإدارية والخدماتية المذكورة كي يشعر الاحتلال بتحمله المسؤولية الكاملة عن خدمات وشؤون قطاع غزة في حال استمر احتلاله.
الثانية؛ بقاء جذوة المقاومة مشتعلةً نسبياً، وتنبع هذه المفارقة من كون المقاومة فلسطينية على أرضها وليس كما كانت في لبنان، حيث كان هناك عدة فصائل وأحزاب لبنانية لا تريد للمقاومة الفلسطينية البقاء على أرضها، وهذا ما شكّل ورقة ضغط في حينها على فصائل المقاومة للخروج مرغمةً من لبنان.
غزة ليست تحت وقع حرب أهلية، وفصائل المقاومة الفلسطينية متراصة خلف هدف مقاومة الاحتلال، والاحتلال ذاته بعقلية الحكومة المتطرفة ينظر بعين الريبة إلى كل من هو فلسطيني بما فيه السلطة الفلسطينية.
في ضوء هذا السيناريو، يُشار إلى مقاربة نسميها "الأفغنة"؛ بمعنى عزل فصائل المقاومة في منطقة جغرافية معينة كما حدث بعد الاحتلال الأميركي لأفغانستان عام 2001، حيث تم عزل القاعدة والفصائل الأخرى هناك في جبال "تورا بورا" وبذلك عُزلت المناوشات عن سائر أفغانستان إلى حدٍ ما، لكن مساحة القطاع وطبيعته الجغرافية لا تتطابق مع حدوث ذلك الأمر.
وأيضاً يُشار إلى "الصوملة" التي تعني أيضاً عزل المقاومة الفلسطينية في منطقة جغرافية معينة مع شق صفوفها مثلما حدث بانخراط قيادات من اتحاد المحاكم الإسلامية في عملية حل سياسي سلمي.
لكن ببساطة غزة ليست تحت وقع حرب أهلية، وفصائل المقاومة الفلسطينية متراصة خلف هدف مقاومة الاحتلال، والاحتلال ذاته بعقلية الحكومة المتطرفة ينظر بعين الريبة إلى كل من هو فلسطيني بما فيه السلطة الفلسطينية، لذلك سيناريو الصوملة في التعامل مع فصائل المقاومة يبدو أيضاً أنه غير مواتٍ لطبيعة القطاع.
خلاصة القول؛ ربما الواقع في غزة سيكون أقرب لما حدث في لبنان بعد عام 1982، على أن تكفل جذوة المقاومة المستمرة في الالتهاب تغيير الوضع بعد بضع سنوات.