تأخذ مظاهر العيد في دمشق شكلاً أقرب إلى "المداراة" بما هو ضمن المستطاع وبالحد الأدنى من الفرح، أو القبول بالأمر الواقع بتجاهل قدوم العيد من أصله؛ ولا سيما مع عجز حكومة النظام السوري عن ضبط الأسواق أو مراقبة الأسعار "الخيالية" أو حتى تحسين دخل المواطن في ظل اقتصاد متهالك.
في هذا التقرير، سنناقش كيف يتحايل الأهالي لانتزاع فرحة العيد في دمشق بدءا من معاناة الحصول على الحوالات المالية التي تصلهم من الخارج، والصعوبات التي يواجهها الأهالي في تأمين ملابس العيد لأطفالهم، واضطرارهم للجوء إلى ألبسة البالة أو إصلاح الملابس القديمة.
"لا عيد بلا حوالات"
لم يعد خافياً على السوريين في الداخل أو الخارج أن الحوالات المالية الواردة من اللاجئين والمغتربين إلى أهلهم هي محرك الاقتصاد الأشد تأثيراً في مناطق سيطرة النظام، وهي المعيل والمعوّل عليه للإبقاء على رمق الحياة.
وكما في بداية رمضان، تسند الحوالات السوريين في تحضيراتهم للعيد من أجل شراء الملابس الجديدة وحلويات العيد والترفيه عن النفس خلال أيام العيد.
وقد أدى ازدياد الحوالات الواردة إلى الأهالي في مناطق سيطرة النظام ولا سيما في الأسبوع الأخير من رمضان، إلى ضغط كبير على قنوات التحويل سواء عبر مراكز الهرم وشركات الحوالات المرخصة، أو عبر مكاتب التحويل بالسوق السوداء؛ الأمر الذي تسبب بتأخير تسلم الحوالات.
في حديثها لموقع تلفزيون سوريا، تخبرنا (مرام) عن تأخر تسلم حوالاتها "العيدية" من أخيها في ألمانيا، بسبب الضغط على مكتب التحويل، وتعرضها لمشكلة مع الوسيط لكونها ظنت أن الحوالة قد ألغيت دون إخبارها.
تقول (مرام): "ظننت أن الحوالة ملغاة أو أنهم سرقوها!، فقد تأخروا ثلاثة أيام دون أن يرسلوا لي رسالة عبر واتساب بوجود "أمانة" كما يسمونها عادةً، وحينما حاول أخي التواصل مع المكتب الأساسي لم يجيبوه... لاحقاً اعتذروا منّا وأخبرونا أن الأمر بسبب كثرة المبالغ المحوّلة عبر مكتبهم قبيل العيد".
كيف نُرضي الأطفال؟
لا تتساوى جميع العائلات في استعدادها للعيد وقدرتها على إسعاد أطفالها، ولا سيما بعد أن انقسم السوريون إلى طبقتين: الأغنياء والأشد فقراً، مع اضمحلال الطبقة الوسطى بينهما.
ولا مفرّ من رغبات الأطفال وإلحاحهم على شراء ملابس جديدة أسوةً برفاقهم في الحي والمدرسة. وقد أوضحت (سوسن) في حديثها لموقع تلفزيون سوريا عن اضطرارها إلى طلب بعض المال من أخيها من أجل شراء بعض الملابس الجديدة لابنتها الوحيدة من زوجها المتوفّى في سجون النظام.
تقول سوسن: "لقد غاب العيد عن بيتنا منذ 6 سنوات، عندما تسلّمنا شهادة وفاة زوجي بأزمة قلبية بعد أن كان معتقلاً في أحد الفروع الأمنية دون أن نعرف حتى رقم الفرع أو يسمحوا لنا برؤية جثته. لقد كبرت ابنتي في غيابه ولم أستطع هذا العام حرمانها من فرح العيد ولا سيما بالمقارنات الدائمة مع أصدقائها، وقد تكفّل أخي بشراء الملابس الجديدة لها بمبلغ 360 ألف ليرة سورية".
وقد سلط تقرير سابق الضوء على غلاء الأسعار الفاحش ولا سيما بالنسبة لملابس الأطفال، إذ لا يقل سعر أي قطعة عن مئة ألف ليرة للنوعيات الرديئة أو في أسواق المناطق الشعبية، في الوقت الذي ارتفعت فيه الأسعار بمقدار 50% مقارنةً بالعام الماضي.
دلالات الفجوة بين "الماركات" والبالة
لم يعد صعباً التمييز بين طبقة الفقراء وطبقة الأغنياء في سوريا، حسب نوعية ملابسهم أو حتى جِدَّتِها؛ إذ يمكنك معرفة إذا ما كان الشخص فقيراً من ثيابه القديمة باهتة الألوان، أو مُعدماً مادياً من ثيابه المهترئة أو المُرقَّعة، أو من كونه ينتمي إلى فئة "الأكابر" من ثيابه الجديدة والمكوية.
وفي جولة لموقع تلفزيون سوريا على الأسواق في مدينة دمشق، شملت سوق الحمراء والحميدية والإطفائية، تبيّن أن معظم السوريين لجؤوا إلى الاستدانة أو اعتمدوا على الحوالات الخارجية من أجل تحضيرات العيد، ويتوجه السوريون إلى عدة أسواق وفق الآتي:
رواد أسواق البالة:
وهم الفئة الأكبر من الأهالي الذين وجدوا في سوق الثياب المستعملة طريقهم لتجاوز الغلاء الفاحش والفرح بارتداء قطعة جديدة ومختلفة.
تتوزع أسواق البالة في دمشق، في منطقة الإطفائية وهو السوق الأكبر، وفي مناطق جرمانا وكشكول ومساكن برزة. وفي الوقت الذي لا يقل فيه سعر الكنزة النسائية عن 85 ألف ليرة في سوق الحمراء، يمكن أخذ كنزة مستعملة من بالة الإطفائية بسعر 20 ألف ليرة سورية.
في حديثها لموقع تلفزيون سوريا، تتحدث (مجدولين) وهي طالبة جامعية في كلية الهندسة الزراعية عن شرائها معظم ثيابها من البالة في شارع مساكن برزة، تقول: "أحتاج إلى تبديل ملابس بشكل شبه يومي ولا سيما مع التزامي بالدوام الجامعي، ويمكنني شراء عدد كبير من القطع من سوق البالة بسعر قطعة واحدة من أي سوق آخر.. أغسل القطع المستعملة بعد شرائها فتعود جديدة... وحتى مع اقتراب العيد كانت البالة هي المنقذ لشراء ملابس جديدة أخرج بها مع أصدقائي".
لا جديد: أصلحوا الملابس القديمة
في الوقت الذي استطاع فيه بعض الناس شراء الملابس، سواء الجديدة أو المستعملة، لإدخال الفرح إلى قلوب أطفالهم بقدوم العيد، فإنَّ عدداً كبيراً من الناس لم يتجرؤوا حتى على التفكير في الأمر.
فقد أصبح تأمين مستلزمات "الطبخة" اليومية، أو شراء علبة الدواء لمرضٍ مزمن أولوية بالنسبة لكثير من العائلات على شراء الملابس الجديدة أو ألعاب الأطفال أو حتى علبة من المعمول وحلويات العيد.
وقد لجأ عدد كبير من الناس إلى الخياطين من أجل إصلاح قطعة ثياب قديمة، أو ترقيع أخرى أو حتى تضييق وتوسيع ملابس ورثوها عن الأخ أو القريب لجعلها ملائمة لقياسهم.
وقد أوضح الخياط (التيناوي)، أن عدداً كبيراً من الزبائن قد طلبوا منه تضييق قطع من الملابس الواسعة، أو حتى توسيع بعض البناطيل بإضافة قطعة من المطاط عند منطقة الخصر، أو حتى تفصيل كنزة أو فستان من قطعة قماش بالية في شكل من أشكال "إعادة التدوير" والعودة إلى الحلول البدائية التوفيرية.
يقول (التيناوي) في حديثه لموقع تلفزيون سوريا: "لا تملك كثير من العائلات رفاهية التخلص من القطع القديمة، بل اعتادوا على توزيعها على الأقارب والجيران أو إصلاحها بعد مداورتها بين أفراد العائلة الواحدة، كما يقوم عدد كبير منهم بشراء قطع من القماش المستعمل لتفصيل ملابس جديدة. لقد فصّلت فستاناً لفتاة في الخامسة من عمرها من قطعة مخمل كانت سابقاً كنزة لوالدتها بعد قصّ الجزء المهترئ منها وكانت فرحة الفتاة كبيرة بالفستان الجديد".
رواد "الماركات" الفخمة
أما المقتدرون مادياً من سكان المناطق الراقية فهم الوحيدون الذين يستطيعون شراء ملابس جديدة من أسواق الحمراء والشعلان والجسر الأبيض؛ المعروفة بغلاء أسعارها في دمشق.
وقد يصل سعر قطعة واحدة إلى ما يعادل مرتّب موظف حكومي أو يزيد، ولا يُشكّل هذا المبلغ ضرراً أو عبئاً بالنسبة إليهم؛ كما يصفه بعض السوريين "من طرف الجيبة".
وفي جولة على سوق الحمراء، تبين أن سعر البنطال الرجالي لا يقل عن 200 ألف ليرة سورية للنوعيات الرديئة وقد يصل سعر النوعية الجيدة إلى 400 ألف ليرة.
وقد التقطت كاميرا موقع تلفزيون سوريا، سعر إحدى المشّايات "الشبشب" بعد التخفيض بقيمة 80 ألف ليرة سورية لكونها من "الجلد الطبيعي"، وهو رقم يعادل تقريباً ثلث راتب الموظف الحكومي.
فرحة مؤجلة للعيد "الكبير"
أقنع عدد كبير من الأهالي أطفالهم بشراء الملابس الجديدة في عيد الأضحى، أملاً منهم بتحسن وضعهم المعيشي حتى ذاك الوقت. وقد تحايلوا عليهم بكون عيد الأضحى هو "العيد الكبير" حسب وصفهم وأنّ عدد أيامه أكثر لذا سيرتدون الملابس الجديدة لوقت أطول حتى "يشبعوا منها".
أوضح (علاء الدين. ش) وهو مُدرِّس فيزياء في إحدى المدارس الثانوية بدمشق، في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، بأنّه أقنع ابنتيه بشراء الملابس الجديدة في عيد الأضحى "على مضض" مع محاولته مداراة الوضع حتى "لا تزعلن منه".
يقول (علاء الدين): "أخبرتهن بشراء فساتين جديدة على العيد الكبير لأنّ الشتاء قارب على الانتهاء ولم يعد "محرزاً " شراء ملابس، بينما على العيد الكبير سأشتري لهن ملابس صيفية ليفرحوا بها خلال الصيف كله... لقد تضايقن في بداية الأمر، لكن والدتهن أقنعتهن بالأمر حتى لا يزعلن".
تحوّل العيد في بيوت السوريين إلى عبء جديد يضاف إلى أعبائهم المعيشية اليومية، يضطرون مع قدومه إلى الاستدانة أو طلب المال من قريب أو صديق، أو حتى القبول بالأمر الواقع بغياب الفرح وعدم وجود الجديد من الملابس أو اللذيذ من الحلويات؛ إذ إنّ الهموم المعيشية قد رتّبت نفسها في أولويات حياتهم لتجعل من تحضيرات العيد أمراً ليس في الحسبان تلزمه ميزانية خاصة.
يقول (علاء الدين) بشيء من الغصّة: "الراتب وحتى الدروس الخصوصية لم تعد تكفي لدفع الإيجارات وتأمين لقمة العيش اليومي... لكنني لن أحرمهم في العيد القادم مهما كانت الظروف".