يتذكر صالح نجود أيام شبابه في بورتسودان حيث كانت النوادي الليلية تصدح بالإيقاعات، وكان الكحول مسموحاً، وأغنياء شركات الشحن من اليونان وتركيا يتفاوضون ويتحادثون مع تجار الهند واليمن ومصر.
نظراً لموقعها على ساحل البحر الأحمر، ازدهرت تلك المدينة الواقعة في شمالي أفريقيا عقب السنوات التي تلت استقلال السودان عن المملكة المتحدة في عام 1956، إذ كانت شوارعها تعج بمشاريع البناء والإنشاءات والتجار الذين ينقلون بذور الزيوت وأكياس القطن، والطحين، وإطارات السيارات، حسبما يتذكر نجود، وهو أحد المقيمين في تلك المدينة وعامل سابق في مجال تكرير النفط أصبح اليوم في السيتينات من عمره، ويتابع بالقول: "في الستينات والسبعينيات كانت هذه المدينة مركزاً للنوادي الليلية والحانات العصرية، وكانت هنالك طبقة وسطى وأشخاص يزورونها من السودان ومن الدول الأجنبية".
أما اليوم، فقد تغيرت بورتسودان كثيراً، إذ تحولت إلى مقر للجوء أمام آلاف الهاربين من الحرب التي اشتعلت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التي تطورت من ميليشيا خيالة تعود أصولها لمنطقة دارفور الجنوبية.
وصل ما لا يقل عن 22 ألفاً إلى المدينة منذ 15 نيسان الماضي، بحسب أرقام الأمم المتحدة، إلا أن معظمهم ينامون اليوم في مراكز إيواء مؤقتة أقيمت داخل مدينة ملاه، وفي المدارس والمساجد وعلى قارعة الطريق أيضاً. بل حتى مسجد جامعة القرآن الشهير قد تحول هو أيضاً إلى مخيم للنازحين، وبينهم رجال ونساء وأطفال من سوريا واليمن وإثيوبيا ونيجيريا، غالبيتهم فروا من النزاع الذي طال وامتد للمرة الثانية في حياتهم بعد الاضطرابات التي قامت في بلدانهم الأم. في الوقت الذي غادر فيه الآلاف غيرهم إلى تشاد وجنوب السودان ومصر.
أصبحت طوابير طويلة تقف أمام محطات الوقود، كما بدأت الأسعار ترتفع بعد نفاد السلع الأساسية، وصارت الرحلات الجوية والسفن تصل إلى المدينة في معظم أيام الأسبوع حاملة معها مساعدات إنسانية وكذلك لتخلي القلة القليلة المحظوظة التي لديها أوراق نظامية وبوسعها تجشم تكاليف الرحيل عن البلد، أما انقطاع الكهرباء فقد تحول إلى ظاهرة شائعة بعدما كان أمراً نادر الحدوث في بورتسودان.
عاصمة بحكم الأمر الواقع
مع استمرار النزاع في البلد، تحولت بورتسودان إلى قاعدة نشطة لوزارات الدولة ولوكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية ولمجتمع المشاريع التجارية، وهذا ما حولها إلى عاصمة للدولة بحكم الأمر الواقع، بما أن العاصمة الحقيقية تعيش حالة تفجر للعنف.
بالنسبة للسكان، وعلى الأخص قبيلة بيجا الشرقية التي أهملتها الدولة لفترة طويلة، أتت الأهمية الجديدة لمدينتهم حاملة معها نكهة ساخرة بعد سنوات طويلة من إهمال عرب وسط السودان لها، بما أن هذه الفئة تهيمن على السياسة الداخلية للعاصمة الخرطوم، وأذكت عقوداً طويلة من الصراع والفتنة.
رجال قبيلة بيجا ومؤيدو الجيش السوداني في مظاهرة ضد محادثات الهدنة التي جرت في 17 ايار ببورتسودان
إلا أن قلة قليلة من أبناء هذه المدينة يعتقدون بأن هذه المدينة بوسعها أن تقدم حلاً دائماً للنزاع في السودان، إذ يقول هاشم طاهر شيخ طه، الذي شغل منصب وزير النقل والبنية التحتية في السودان حتى عام 2020، أي قبل فترة قصيرة من تطهير الجنرالين المتحاربين حالياً للحكومة المدنية، عقب طرد الديكتاتور عمر البشير: "تتسم بورتسودان بضعف شديد فيما يتصل بالبنية التحتية كما أن الأوضاع فيها هشة، لذا فإن فكرة تغييرها لتصبح عاصمة إدارية بشكل دائم بعيد كل البعد عن الواقع".
من أصعب وضع إلى أحسنه
شيدت مدينة بورتسودان في مطلع القرن العشرين لتصبح أهم من مدينة سواكن القديمة التي أقيمت على البحر الأحمر، والتي تبعد عنها مسافة 60 كم جنوباً، وكانت في الماضي نقطة عبور للحجاج وهم في طريقهم إلى مكة.
اعتبر موقع بورتسودان ملائماً أكثر لكونها تقع في البر الرئيسي ولوجود أعماق أكبر فيها لمياه البحر مع عدد أقل من الأرصفة المرجانية، مما يتيح لها استقبال سفن أكبر. وخلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كبرت المدينة وتحولت إلى مركز تجاري مهم في الوقت الذي أعطى فيه الرئيس السابق جعفر النميري، الذي استولى على السلطة بانقلاب في عام 1969، الأولوية لصادرات المواد الخام ولإنشاء خطوط نفط قادمة من الخرطوم.
منذ استقلال السودان، شهد سكان بورتسودان ثلاثة انقلابات عسكرية، وثورة وحربين أهليتين. كما تعرضت لهجمات إسرائيلية استهدفت شحنات أسلحة كان من المقرر أن تصل إلى قطاع غزة حيث تسيطر حماس. ولقد استعان عملاء المخابرات الإسرائيلية بمنتجع قريب للغطس حتى يهرب اليهود الإثيوبيين خارج السودان خلال الحرب الأهلية التي قامت في عام 1984، وذلك ضمن عملية سرية أطلق عليها اسم عملية موسى.
غير أن محنتها الأكبر ظهرت في عام 1989، وذلك عندما استولى البشير على السلطة، ليبدأ حكمه الإسلاموي المتشدد الذي امتد 30 عاماً وفقاً لقوانين الشريعة التي أجهزت على سنوات الازدهار في تلك المدينة.
وفي عام 1997، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على السودان بسبب الإرهاب الذي تموله الدولة، فتراجعت التجارة، وانقطعت البلد عن العالم الخارجي. ولكن منذ فترة قريبة، لفتت هذه المدينة والساحل المحيط بها أنظار دولة الإمارات والصين وروسيا فاستثمروا في موانئها وفي السكك الحديدية وأقاموا قاعدة بحرية فيها.
وحول ذلك يحدثنا أمين عثمان الذي يدير مشروعاً للوساطة الجمركية في المدينة منذ سنين طويلة، فيقول: "عاشت بورتسودان أطواراً عديدة في حياتها، ابتداء من كونها محوراً لخطوط الشحن الدولية، مروراً بحياتها الاجتماعية المعاصرة، وصولاً إلى أحلك أيام العزلة التي عاشتها".
بسبب الحرب الأهلية المستمرة، قد تشهد بورتسودان أصعب لحظة من لحظات الاضطراب بحياتها، إذ يرى البعض بأن موجة القادمين هي السبب في انقطاع الكهرباء وشح المياه وعدم توافر السكن. كما انتقل مسؤولون من وزارات المالية والتجارة والاقتصاد لهذه المدينة حتى يسيروا الأعمال من هناك.
بيد أن الموظفين في المصرف المركزي يقومون بتسيير أوامر الدفع يدوياً بسبب انهيار نظم الحواسيب في السودان، كما أخبرنا موسى عواد، وهو الأمين العام لغرفة الشحن في بورتسودان، ويتابع بالقول: "هنالك كثير من المشكلات التقنية المرتبطة بقطاع المصارف، فضلاً عن صعوبة الاتصالات والاتصال بشبكة الإنترنت، مع وجود عدد محدود من المقرات المخصصة لتخزين البضائع"، وأضاف بأن الميناء قد يغلق أبوابه في غضون أسابيع.
محطة للحافات في بورتسودان بتاريخ 23 أيار 2023
يرى البعض في خطوة الانتقال إلى بورتسودان محاولة لمواصلة الحياة بوتيرة طبيعية، إذ يقوم علي عيسى، وهو مدير قطاع التعليم في ولاية البحر الأحمر، بمساعدة 250 طفلاً لعائلات فرت من الخرطوم على الخضوع لامتحانات الدراسة الابتدائية، وعن ذلك يقول: "يزداد عدد العائلات القادمة من الخرطوم كل يوم، ولكن لدينا خطط مسبقة حتى تؤمن المدارس المعدات الأساسية لهم".
مراكز إيواء مؤقتة
أقام أهالي بورتسودان مراكز إيواء مؤقتة للنازحين على عجل، ففي مركز تدريب قديم للقابلات يقع ضمن منطقة هدل السكنية، يحاول ما لا يقل عن مئتي شخص العثور على ما يكفيهم من طعام ومأوى وماء، لأن المساعدات الوحيدة التي يتلقونها تصل إليهم من خلال الهلال الأحمر السوداني، كما أخبرنا مجدي إبراهيم الذي يساهم في إدارة المخيم.
ومن بين من وجدناهم في مركز الإيواء، فاطمة عبد الله محمد، التي تركت بيتها بمدينة أم درمان المجاورة للخرطوم، بعد اندلاع القتال في مبنى الإذاعة والتلفزيون الحكومي، وعن ذلك تقول: "دخل الطرفان في حرب عدوانية للسيطرة على المباني وهكذا أخذ الرصاص والمواد المتفجرة تتساقط علينا"، وأضافت بأنها كانت تختبئ تحت السرير مع أولادها الثلاثة عند سماع أصوات القصف.
وبعد مرور ثلاثة أيام من القصف المتواصل، قررت الأسرة أن تقوم بأولى وأخطر خطوات الهرب سيراً على الأقدام لتخرج من الباب الأمامي للبيت، وبمساعدة لجان المقاومة المحلية، استطاعت الأسرة أن تتوجه إلى نهر النيل لتبحث هناك عن وسيلة نقل، وتصف لنا فاطمة ما جرى بعد ذلك فتقول: "من هناك استقلينا حافلة نقلتنا إلى بورتسودان، بما أن الوضع آمن هنا".
المصدر: Bloomberg