بدأت قصة تلك المدن قبل آلاف السنين، إذ مع تقدم البشرية بدءاً من مرحلتي الصيد والجمع والالتقاط مروراً بمرحلة الزراعة التي عمل خلالها المزارعون على تدجين أنواع من النباتات والحيوانات بغرض تأمين الغذاء، شرع الإنسان ببناء القرى ليعيش فيها، بما أن تطور الزراعة سمح بتأمين قوت عدد أكبر من الناس، وهكذا أخذت تلك القرى تكبر وتتوسع لتتحول إلى تجمعات بشرية دائمة كثيفة السكان ومنظمة، ثم تحولت إلى مراكز تجارية وثقافية وصارت تخضع لحكومات تدير شؤونها.
تقع معظم المدن القديمة بالقرب من الأراضي الزراعية الخصبة والأنهار التي تؤمن مصادر المياه لري الأراضي الزراعية، والتي كانت تستخدم أيضاً كوسيلة للتنقل وتصدير المحاصيل إلى أسواق أخرى. وأحد أهم تلك المواقع وأقدمها بلاد ما بين النهرين التي تحولت إلى العراق اليوم، والتي قامت بين نهري دجلة والفرات، في حين قامت مدن أخرى قديمة على ضفاف الأنهار، وهذا ما حدث في مصر والهند والصين. ومع تطور التجارة، استقطبت منطقة الساحل المطلة على البحر المتوسط السكان للعيش فيها.
غير أن بعض مدن العالم القديم، مثل مدينة إريدو السومرية القديمة التي بنيت في موقع مميز وأصبحت مأهولة بالبشر للمرة الأولى قبل نحو سبعة آلاف عام، قد اختفت عن الوجود نهائياً، فلم يعد يبقى منها أي شيء سوى أطلال أثرية تحولت إلى مصدر اهتمام من قبل علماء الآثار.
إلا أن مدناً أثرية أخرى بقيت مأهولة على الدوام، حتى بعد فترات ازدهار تبعتها مراحل انحطاط وتدهور.
وبما أنه من الصعب تحديد تاريخ تطور أصغر تجمع بشري وتحوّله إلى ما يعرف بالمدينة على وجه الدقة، أصبحت مهمة تصنيف أقدم مدن العالم دقيقة وحساسة، إلا أن هنالك عشر مدن يتم تحديدها على أنها أقدم المدن المأهولة على مر التاريخ، طبعاً وما تزال مأهولة إلى يومنا هذا.
المرتبة الأولى: دمشق - سوريا
جامع بني أمية الكبير في نحو 1880 ميلادية
بنيت في عام 3000 قبل الميلاد، وتعتبر أقدم مدينة مأهولة في العالم وموقعاً للتراث العالمي بحسب تصنيف اليونسكو. تحوّلت هذه المدينة إلى مركز ثقافي مهمّ ومدينة تجارية أساسية نظراً لموقعها الواقع عند تقاطع الطرق بين آسيا وأفريقيا، كما غدت جزءاً من الحضارة الهيلينستية والرومانية والبيزنطية والإسلامية، إذ أثرت بها كل تلك الحضارات. أما مخطط المدينة فيعود للحقبة اليونانية والرومانية، حيث يحتل جامع بني أمية الكبير قلب هذه المدينة بحسب الطراز المتبع في المدن العربية والإسلامية، وذلك وفقاً لما أوردته منظمة اليونسكو. يعيش في دمشق اليوم قرابة 2.6 مليون نسمة.
المرتبة الثانية: أريحا - الضفة الغربية - فلسطين
موقع أثري في منطقة تل السلطان بمدينة أريحا
وهي مدينة يعتبرها كثيرون من أقدم المدن المأهولة في العالم، إذ يعود تاريخها لأحد عشر ألف عام تقريباً، وتقع في وادي نهر الأردن ضمن الضفة الغربية المحتلة، وهنالك أدلة أثرية وثقت وجود 23 طبقة من المواقع الأثرية التي تعود لحضارات ترجع للألف العاشر قبل الميلاد. وخلال عمليات الحفر في تلك المدينة، تم العثور على آثار متفحمة تظهر وجود صيادين من العصر الحجري الوسيط فيها وذلك في عام 9000 قبل الميلاد، إلى جانب الآثار القديمة لجدار حجري ضخم، وهذا ما يؤكد أن أريحا كانت من أوائل المدن المحصنة المعروفة في العالم. يبلغ تعداد سكان أريحا اليوم أقل من 20 ألف نسمة.
المرتبة الثالثة: الفيوم - مصر
لوحة رسمها الفنان جان-ليون جيروم في عام 1868 تظهر مدينة الفيوم المصرية
تقع على نهر النيل بمصر جنوب غربي مدينة ممفيس، أُسِّست في عام 4000 قبل الميلاد، وأطلق عليها المصريون القدماء اسم شيديت، في حين سمّاها الإغريقيون باسم كروكوديلوبوليس، بما أنهم كانوا يعبدون وقتئذ تمساحاً يُعرف باسم بيتسوتشوس وكانوا يعتبرونه ممثلاً للإله سوبيك الذي يشبه التمساح. تعود الآثار القديمة في هذه المدينة للسلالة المصرية الثانية عشرة على الأقل، أي إلى الفترة الواقعة ما بين عامي 1938 و1756 قبل الميلاد، كما عثر علماء الآثار على آثار تعود لحقبة بطليموس والحقبة الرومانية وللعصور الوسطى أيضاً.
تحولت الفيوم في عصرنا هذا إلى مركز للتجارة بفضل سكة الحديد والطرقات السريعة التي تربطها بمختلف أرجاء مصر، وتؤوي حالياً نحو 433 ألف نسمة.
المرتبة الرابعة: بيروت - لبنان
بيروت في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين
عثر علماء الآثار على أدلة تثبت بأن بيروت مدينة مأهولة بالبشر منذ عام 3000 قبل الميلاد، فقد ورد اسم هذه المدينة في السجلات المصرية، على الرغم من أنها لم تصبح مدينة معروفة إلى أن أصبحت مستعمرة رومانية في عام 14 قبل الميلاد. لم تنج بيروت الرومانية من تعاقب الزلازل عليها، إذ عندما وصل إليها الفتح الإسلامي في عام 635 للميلاد كان معظمها قد تحول إلى خرائب.
خلال العصور الوسطى أصبحت بيروت مرفأ مزدهراً بفضل تجار التوابل القادمين من مدينة البندقية الإيطالية، ثم تحولت إلى مركز صناعي في القرن التاسع عشر. ولقد تطورت هذه المدينة وكبرت بسرعة تحت الحكم الفرنسي في مطلع القرن العشرين، ولكن خلال النصف الثاني من هذا القرن تعرضت لحالات توتر عرقية وعنصرية ثم دمرت الحرب تلك المدينة، إلا أنها ما لبثت أن انتعشت من جديد. واليوم، تؤوي بيروت 2.4 مليون نسمة.
المرتبة الخامسة: جبيل - لبنان
آثار جبيل
وهي نفسها مدينة بيبلوس القديمة، تقع على جرف رملي يمتد على طول ساحل المتوسط مسافة 40 كيلومتراً شمالي مدينة بيروت. بنيت مدينة جبيل في موقع استقر فيه صيادون في بداية الأمر وذلك في عام 6000 قبل الميلاد بحسب ما أوردته منظمة اليونسكو. إلا أن جبيل لم تتطور لتصبح مدينة كبرى إلا بعد ألفي عام تقريباً على ذلك، وذلك عندما تحولت إلى مرفأ مهم أمام تجارة خشب الأرز وغيره من الأخشاب التي كانت تصدّر لمصر. وبحلول عام 1100 قبل الميلاد، أصبحت جبيل مدينة مهمة لدى الإمبراطورية الفينيقية، وخلال القرون التي أعقبت ذلك، أصبحت تلك المدينة تابعة للحكم الروماني فالبيزنطي فالصليبي ثم العثماني. واليوم، تعتبر جبيل واحدة من أقدم مدن العالم، ويقيم فيها نحو 100 ألف نسمة، بينهم كثير من اللاجئين الذين قدموا من سوريا.
المرتبة السادسة: حلب – سوريا
قلعة حلب
لم يُعرف تاريخ محدد لهذه المدينة التي تقع في الشمال السوري، إلا أن معبداً ضخماً اكتشف فيها تبين بأن تاريخه يعود لأوائل العصر البرونزي، أي خلال الفترة الواقعة ما بين عامي 3300 و2200 قبل الميلاد. ويعتقد أن أوائل من سكنوها بنوا مساكنهم على تلة تقع وسط المدينة الحالية، ما أكسبها موقعاً مناسباً للدفاع عند قدوم أي غاز، إلى جانب قربها من الأراضي الزراعية الخصبة ونهر قويق. تحولت حلب في 1800 قبل الميلاد إلى عاصمة لمملكة يامخد العمورية، وخلال القرون التي أعقبت ذلك، أصبحت حلب تابعة للإمبراطورية الحثية والمصرية والميتانية والفارسية، وتؤوي مدينة حلب اليوم نحو 2.2 مليون نسمة.
المرتبة السابعة: أثينا - اليونان
الأكروبوليس في اليونان
بقيت مدينة أثينا اليونانية القديمة مأهولة بالبشر بشكل متواصل منذ العصر الحجري، إلا أن هذه المدينة أقيمت للمرة الأولى خلال الفترة الواقعة ما بين عامي 1200-1300 قبل الميلاد في ظل الحضارة الموكيانية، وذلك بحسب ما ورد في كتاب مايكل ليويلين سميث: "أثينا: تاريخ ثقافي وأدبي". تطورت أثينا لتصبح إحدى الحواضر الفكرية والسياسية في اليونان القديمة، فصار البارثينون رمزاً لها، وهو معبد للإلهة أثينا. نجت أثينا من محاولة لإحراقها من أساسها على يد الغزاة الفرس في عام 480 قبل الميلاد، ثمّ استولت عليها إسبارطة خلال الحرب البيلوبونيسية الثانية في عام 400 قبل الميلاد، ومن ثم حكمها فيليب الثاني المقدوني في عام 338 قبل الميلاد.
أصبحت أثينا مدينة كبيرة تحت حكم الإمبراطورية الرومانية وكذلك أيام حكمها من قبل الإمبراطورية العثمانية، قبل أن تنال اليونان استقلالها في عام 1821. واليوم، ما تزال أوابد أثرية قديمة مثل البارثينون الذي بني في موقع الأكروبوليس الأثري نحو عام 400 قبل الميلاد تستقطب السياح وتدفعهم لزيارة هذه المدينة. تعدّ أثينا أقدم عاصمة أوروبية ويبلغ تعداد سكانها 3.15 مليون نسمة.
المرتبة الثامنة: بلوفدف - بلغاريا
مدرج روماني أثري في بلوفدف
ثاني أكبر مدينة في بلغاريا وواحدة من أقدم مدن أوروبا، فقد أصبح موقعها مأهولاً بالبشر خلال الفترة الواقعة ما بين 5000 و6000 قبل الميلاد، إلا أنها لم تتطور وتتحول إلى مستوطنة إلا بعد مرور ألفي عام على ذلك، في ظل الحضارة التراقية. تتمتع المدينة القديمة بتاريخ عظيم كونها تعرضت للغزو على مدى قرون من قبل الفرس والإغريق والسلتيين والرومان والقوطيين والهان والفايكينغ والصليبيين والترك العثمانيين، بحسب ما أعلنه قسم الدراسات الروسية والشرق أوروبية التابع لجامعة بنسلفانيا. تؤوي بلوفدف اليوم قرابة 350 ألف نسمة وهي من المراكز الثقافية المهمة في أوروبا.
المرتبة التاسعة: غازي عنتاب - تركيا
قلعة غازي عنتاب
تقع هذه المدينة جنوب وسط تركيا حيث أقيمت في موقع بقي مأهولاً منذ الفترة الواقعة ما بين 3000 - 4000 قبل الميلاد، ولقد تطورت هذه المدينة نظراً لقربها من طرق التجارة القديمة في ذلك الزمان. ثم أقام الإمبراطور البيزنطي جوستنيان الأول قلعة في موقع هذه المدينة في 500 قبل الميلاد، ثم استولى عليها الأتراك في عام 1183 ميلادية. وبمرور العصور والقرون، تعاقب من حكموا هذه المدينة مرات ومرات، فقد خضعت لحكم المغول والغزاة التيموريين قبل أن تتبع للإمبراطورية العثمانية في أوائل 1500 للميلاد. واليوم تؤوي هذه المدينة قرابة 2.1 مليون نسمة.
المرتبة العاشرة: سوس/شوش - إيران
مخططات لمدن وأوابد أثرية في مدينة شوش الإيرانية
تقع عند سفوح جبال زاغروس جنوب غربي إيران، ولقد بقيت مأهولة بالبشر طوال قرون فتحولت إلى إحدى أقدم المدن في منطقة الشرق الأوسط. تطورت هذه المدينة لتصبح مدينة كبرى خلال الفترة الواقعة ما بين عامي 4000-5000 قبل الميلاد، إذ يحتوي موقع أثري عثر عليه بالقرب من مدينة شوش الحالية على العديد من الطبقات لمخططات المدن التي تعود للحضارة العيلامية والفرثية والفارسية، ولهذا صنفتها اليونسكو ضمن مواقع التراث العالمي. استولى الإسكندر الأكبر على هذه المدينة عام 331 قبل الميلاد، وبعد مرور بضع سنين على ذلك، أقيمت حفلات أعراس جماعية في هذه المدينة تزوج فيها الإسكندر ورفاقه المقدونيون من فتيات تعود أصولهن لطبقة النبلاء الفارسية في محاولة رمزية للتوحيد بين الشعبين. يبلغ عدد سكان شوش اليوم أكثر من 52 ألف نسمة.
المصدر: How Stuff Works