icon
التغطية الحية

بلومبرغ: لماذا ينبغي على الولايات المتحدة الخروج من الشرق الأوسط عاجلاً غير آجل؟

2024.02.14 | 06:33 دمشق

مركبة عسكرية أميركية في دولة شرق أوسطية
مركبة عسكرية أميركية في دولة شرق أوسطية
Bloomberg- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

لدى الولايات المتحدة نحو 46 ألف جندي برفقة عتادهم والدعم المخصص لهم، موزعين على 11 دولة في أرجاء الشرق الأوسط، وهذه القوات لا توجد في مناطق أخرى سواء في أوروبا أو شرق آسيا، حيث يوجد أخطر أعداء أميركا الذين لا مفر من ردعهم إلى جانب السعي لتطمين أعز حلفاء أميركا هناك.

أما أكبر الأسئلة الاستراتيجية الموجهة للرئيس الأميركي جو بايدن أو لدونالد ترامب في حال فوزه في انتخابات تشرين الثاني فهو: هل سيقوم الرئيس الأميركي بالاحتفاظ بالوجود العسكري الأميركي الكبير في الشرق الأوسط أم أنه سينسحب من هناك؟

قد يكون الآن توقيتاً خاطئاً للقيام بهذا التغيير الهائل، وذلك لأن أميركا غارقة في الانتقادات الحادة بين الحزبين خلال الفترة التي تسبق الانتخابات، في حين تشن إسرائيل حربها على قطاع غزة، وتوجه إليها اتهامات بارتكاب إبادة جماعية، في حين تستهدف الميليشيات المدعومة إيرانياً من اليمن وحتى الشام ليس فقط الإسرائيليين بل أيضاً القوات الأميركية، وقد قتلت إحدى تلك الجماعات ثلاثة جنود أميركيين بهجوم نفذته مسيرة استهدفت قاعدة أميركية في الأردن قبل بضعة أيام. لذا، إن تحتم على الولايات المتحدة الانسحاب الآن، فإنها ستسلم طهران انتصاراً دعائياً وستخاطر بنشر حالة من الفوضى تشبه تلك التي حدثت في عام 2021، وذلك عندما تخلى بايدن عن أفغانستان من دون أن يكون له أي هدف من وراء ذلك.

هل ستترك أميركا العالم فريسة للفوضى؟

ولكن ماذا عن الانتخابات التمهيدية؟ خلال فترة معينة من هذا العام، لابد أن تنتهي الفترة الساخنة من الحملة الإسرائيلية على حماس، وقد تحجم إيران ووكلاؤها عن تصعيد الأمور بشكل كبير ضد القوات الأميركية، بعدما انتقم بايدن لمقتل ثلاثة جنود أميركيين خلال هذا الشهر. وبنهاية العام بإذن الله، سيعرف الأميركيون من سينتقل للعيش في البيت البيض خلال السنوات الأربع المقبلة.

بيد أن ما يجعل الوجود الأميركي في الشرق الأوسط وثيق الصلة بكل تلك الأمور هو أنه يمثل في الوقت ذاته أهم موضوع قيد الدراسة وهذا الموضوع يخضع لجدل كبير حول الدور الذي تلعبه أميركا عالمياً، إذن، هل ستبقى الولايات المتحدة قوة مهيمنة تستعين بسيادتها وزعامتها لتحافظ على الحد الأدنى من النظام العالمي؟ أم هل يجب عليها أن تخفض نفقاتها لتتعامل مع مشكلاتها، تاركة وراءها عالماً متعدد الأقطاب تسوده الفوضى وأضحى فريسة لسياسة القوة التي لا يلجمها شيء؟

 

ثمة جاذبية آسرة في المعسكر السابق الذي يعرف في واشنطن باسم المعسكر الأممي وهو نقيض معسكر الانعزال، وذلك لأن التاريخ يكشف عن فترات كانت فيها الهيمنة غائبة أو غامضة (كما حدث خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين) أو أميل لتنتهي بمصيبة (كما هي الحال في الحرب العالمية الثانية)، وحتى بالنسبة للقوة المهيمنة، فإنه من الأرخص على المدى البعيد أن تدفع مقابل الحفاظ على النظام من أن تكنس الفوضى التي تسببت بها مصيبة على مستوى العالم.

ولكن حتى الأمميين يجب أن يتقبلوا الفكرة القائلة بأن الهيمنة لا تعني أنه يجب على الولايات المتحدة أن تنشط في كل مكان طوال الوقت، إذ يرى كريستوفر بريبل من مركز ستيمسون البحثي بواشنطن بأن الولايات المتحدة خسرت منذ زمن موقع الصدارة عالمياً، ولم تتمكن من استعادته. إذ مثلاً خلال العقدين الأخيرين من الحرب الباردة، وصل متوسط الدين العام في الولايات المتحدة إلى 38% من الناتج الاقتصادي، وفي العام الماضي تضاعفت النسبة ثلاثة أضعاف، ولذلك أصبح الأميركيون يريدون لبلدهم أن يستثمر في حل المشكلات الداخلية، مع تحديد أولوياته في الخارج بشكل واضح.

هل يمثل الشرق الأوسط أولوية للولايات المتحدة؟

يرى هال براندز بأن تاريخ فشل المحاولات الأميركية في الخروج من المنطقة يثبت المركزية الجيوسياسية لهذه المنطقة وهذا يعني بأن على الولايات المتحدة أن تبقى هناك لأن هذا العبء يمثل كلفة الهيمنة.

يخالف آخرون هذا الرأي، إذ يرى دانييل ديبيتريز من مركز أولويات الدفاع البحثي بواشنطن بأنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تسحب 3400 جندي من العراق وسوريا في أسرع وقت ممكن، بعد ذلك تأتي مرحلة سحب الآلاف من الجنود الأميركيين الموزعين على دول الخليج وبقية دول المنطقة.

وذلك لأن القوات الأميركية استكملت مهمتها الظاهرية التي حددتها خلال العقد الماضي، والتي تتمثل بالقضاء على تنظيم الدولة الذي تشكل عقب الغزو الأميركي الثاني للعراق والذي لم تدرسه الولايات المتحدة بشكل جيد، أما اليوم، فلم يعد تنظيم الدولة الإسلامية يسيطر على أية أراض كما أنه انحسر لدرجة بات بوسع أعدائه في المنطقة، بدءاً من الكرد السوريين وحتى المقاتلين الشيعة، إخضاعه من دون أي مساعدة أميركية.

 

ثمة تبريرات أخرى للوجود الأميركي تتسم بأنها مترددة وأعلى كلفة براي ديبيتريز، إذ مثلاً، تراجع الاعتماد الأميركي على الهيدروكربونات التي تنتجها دول الخليج مقارنة بما كان عليه الوضع خلال فترات الصدمات النفطية التي وقعت في سبعينيات القرن الماضي، كما أن الأسواق العالمية أضحت أشد مرونة اليوم. إذ بمرور الوقت، ينبغي على اقتصاد الدول الغربية أن يكف عن الاعتماد على الوقود الأحفوري بطريقة ما، لذا، في حال حاولت إيران أن تقترب من مضيق هرمز، فستضر بعملائها وعلى رأسهم الصين. وبأي حال من الأحوال، يمكن للولايات المتحدة وحلفائها أن يتدخلوا لإبقاء طرق التجارة مفتوحة حتى في غياب الوجود العسكري الدائم هناك.

يود بعض المحللين الاستراتيجيين أن يبقى الأميركيون هناك ليمنعوا إيران من التحول إلى قوة مهيمنة إقليمياً، إلا أن إيران بعيدة كل البعد عن الهيمنة عسكرياً على دول الجوار كما تفعل كل من روسيا والصين مع الدول المجاورة لهما. كما أن القوى الإقليمية الأخرى وعلى رأسها السعودية وتركيا، يمكن أن ترتب أمورها لتقف في وجه النفوذ الإيراني، وبوسع الولايات المتحدة أن تدعمهما في جهودهما عبر إقامة تحالفات معهما، فتركيا بالأصل عضو في حلف شمال الأطلسي، وهنالك محادثات جارية بين واشنطن والرياض بشأن ضمانات أمنية متبادلة بين الطرفين.

ثم إنه جرى تضخيم الفكرة القائلة بأن خروج أميركا من الشرق الأوسط سيخلق فراغاً سرعان ما سيدفع كلاً من موسكو وبكين لأن تملأاه، وذلك لأن روسيا تدخلت في سوريا وإفريقيا وأماكن أخرى، لكنها تحاول أن تبسط قوتها على أوروبا الشرقية ووسط آسيا، بالإضافة إلى القطب الشمالي، في حين تتطلع الصين للسيطرة على مضيق تايوان وعلى بحر الصين الشرقي والجنوبي، أي أن الانسحاب الأميركي لن يسلم الشرق الأوسط للكرملين أو زونكنانهاي (أي مقر قيادة الحزب الشيوعي الصيني ومجلس الدولة)، تماماً كما لم يترك الانسحاب الأميركي من فييتنام جنوب شرقي آسيا لهاتين الدولتين.

أصبحت السلبيات الاستراتيجية للوجود الأميركي أشد وضوحاً، إذ ترى كيلي غريكو من مركز ستيمسون بأن الأميركيين في الشرق الأوسط بدلاً من أن يردعوا إيران ووكلاءها، تحولوا إلى عنصر استفزاز واستهداف وهذا ما ولد نزعة معادية للأميركيين ومزيداً من الإرهاب. ثم إن حاجة الولايات المتحدة بشكل متكرر لأن تنتقم عملاً بمبدأ العين بالعين والسن بالسن بعد تعرض قواتها لهجمات ذات مستوى ضعيف تؤجج خطر حدوث تصعيد بشكل غير مقصود قد يجر الولايات المتحدة لحرب كبرى هي والعالم بأسره في غنى عنها.

الحاجة إلى ردع روسيا والصين

كما أن واشنطن عبر نشرها لقواتها تشجع شركاءها مثل الرياض على أن تركب الموجة من دون أن يترتب عليها أي تبعات وبذلك ستتراجع الجهود التي تبذلها تلك الدول للحفاظ على أمن المنطقة، وكما يحدث دوماً، فإن الداعين الجدد للانعزال يستعينون بهذه الحجة ليطالبوا الولايات المتحدة بمزيد من ضبط النفس في أوروبا وشرقي آسيا.

ولكن، ألا تغري مظلة الدفاع الأميركية دولة مثل اليابان لتخفض ما تنفقه عادة على حماية نفسها من الصين وكوريا الشمالية؟ ألم تتهرب ألمانيا من أداء واجباتها في التحالف العابر للأطلسي والذي قام ليقف ضد روسيا؟ لقد استغل ترامب حالة الاحباط الأميركية تجاه هذه النزعة المتمثلة بركوب الموجة من دون أن يترتب على ذلك أي نفقات أو تبعات، فزعم بأنه سيشجع الروس على فعل ما يحلو لهم بحلفاء واشنطن في أوروبا بما أنهم ضنوا بجيوشهم وبخلوا بها على غيرهم.

إذن، يجب على واشنطن أن تتدبر أمر المجازفة الأخلاقية المصاحبة للتحالفات الأميركية، وهنالك مؤشرات إيجابية ظهرت قبل فترة، فقد أجازت طوكيو لتوها أكبر ميزانية عسكرية في تاريخها، أما برلين فقد أسست صندوقاً خاصاً لدعم إنفاقها على الدفاع.

ولكن هنالك فروقات شاسعة بين الالتزامات الأميركية في أوروبا وشرقي آسيا والتزاماتها في الشرق الأوسط، إذ عبر غزو روسيا لدولة أوكرانيا التي تتمتع بسيادتها على أراضيها وتهديدها لدولة ملدوفا وغيرها من دول المنطقة، أعادت روسيا العدوان الإمبريالي السافر إلى أوروبا، وعبر تهديد تايوان والدول المحيطة ببحر الصين الجنوبي، لوحت الصين بتهديدها لكامل النظام العالمي الذي يقوم على قواعد محددة، ولدى روسيا أكبر ترسانة من الأسلحة النووية، أما الصين فهي ثالث أكبر دولة نووية، وتطمح لأن تصبح في هذا المضمار على قدم المساواة مع روسيا والولايات المتحدة، لذا، وفي حال قيام حرب عالمية ثالثة لا سمح الله، فإن هذه الحرب ستكون بين الولايات المتحدة وأحد هذين النظامين المستبدين.

كلفة الفرصة البديلة

وبالمقابل، فإنه لا يجوز تصعيد الأمور حد الوصول إلى حرب عالمية مع كل من النزاع المأساوي الممتد منذ 75 عاماً بين الفلسطينيين والإسرائيليين والسعي الدؤوب للحكم الديني الإيراني للهيمنة على المنطقة منذ 45 عاماً حتى الآن، وذلك لأنه بوسع إسرائيل أن تدافع عن نفسها بما أن جيشها أقوى جيش في المنطقة كما أنها الدولة النووية الوحيدة هناك. ومن الأفضل ثني إيران عن إنشاء ترسانتها النووية، بيد أنه بوسع إسرائيل ردعها إلى حد بعيد كما أصبحت كل من الهند وباكستان تردعان بعضهما. وبمرور الوقت سيعود تقرير مصير المنطقة وإقامة سلام فيها لشعوبها، وعندئذ لا يمكن لقوة خارجية أن تجبرهم على أي شيء.

يتلخص الجدل حول الوجود الأميركي في الشرق الأوسط في كلفة الفرصة البديلة، إذ لا يمكن لجندي أميركي يحرس قاعدة البرج 22 في البادية الأردنية أن يقوم في الوقت ذاته بمراقبة حدود الناتو في أستونيا، أو المنطقة منزوعة السلاح في شبه الجزيرة الكورية، أو جزر الفلبين في بحر الصين الجنوبي، أي أنه لدى الكابتن أميركا درع كبير لكنه لا يمكن أن يغطي به العالم بأسره، لذا إن أراد هذا الكابتن أن يغطي بدرعه أوروبا وشرقي آسيا، فعليه الانسحاب من الشرق الأوسط.

المصدر: Bloomberg