على عكّاز صنعه بيديه من خشب السنديان، يستند "هاشم بكور أبو محمد" 59 عاماً، ويمر شريط الذكريات لديه سريعاً وهو يراقب أولاده من حوله يحطّمون الحجارة وصخور الجبال البيضاء بأيديهم، لتعود الذاكرة به لأكثر من 20 عاماً، حين رطمت أدواته الحجارة لأول مرّة.
ورّث "أبو محمد" لثلاثة من أولاده مهنةً شاقةً، يشقون الحجارة فعلاً بجهد أيديهم، لسبب لم يختلف من 20 عاماً إلى اليوم هو "لقمة العيش"، مهنة تحفّها المخاطر والآلام وتعلم الصبر والثبات والجلد، حسب ما يقول.
بين الطريق العامّة إلى مقلع الصخور حيث حوّل أرضه الوحيدة التي ورثها عن أبيه في سفح جبلٍ قرب بلدة حربنوش شمالي إدلب، يحدّق "أبو محمد" بالصخور الصمّاء العَليّة ويشير إليها قائلاً: "هذه لولا الحصار لكانت منجم نفط" في إشارةٍ إلى تراجع استثمارها مادياً بسبب ظروف الحرب، مقابل مردودها الكبير لو توفرت لها ظروف استثمارية مناسبة ومشجّعة، فهي تستخدم بشكل رئيس في أعمال البناء.
واضطر سوريون مهجرون ومقيمون في إدلب، إلى امتهان أعمال ومهنٍ شاقة وصعبة، بحثاً عن حياةٍ كريمة وتأمين قوت يومهم، في ظل تفشي البطالة وخسارة شريحة واسعة منهم لوظائفهم خلال السنوات القليلة الماضية بسبب إجراءات النظام التعسفية.
وكانت شق الحجارة وصخور الجبال واحدةً من هذه المهن الصعبة والشاقة، التي تستنزف بشكل مباشرٍ طاقة الإنسان وعزمه، تزيد من وطأة الحرب ومعاناتها اليومية، إلا أنّ هذا التعب هو ذاته سبب في استمرار حياة هؤلاء بما تدرّه إليهم من المال القليل.
تحت عين الشمس
تبدأ رحلة العمل الطويلة لدى عائلة "أبي محمد" من بعد صلاة الفجر، يترتب على ذلك نوم مبكر من بعد صلاة العشاء مباشرةً، ولا مكانَ للسهر أو اللعب بحسب ما يشير.
يقول "أبو محمد" وهو أبٌ لـ 12 فرداً بين ذكور وإناث، إنّ: تكسير الحجارة وتحطيمها هو مصدر رزقهم الوحيد، وتؤمّن قوتهم كل يومٍ بيومه دون زيادة أو نقصان.
ينشط عمل عائلة "أبي محمد" في الورشة، في الجو المشمس، وفي اليوم الماطر يمضونه بلا عملٍ وينقطع دخلهم، إذ لا تناسب الأمطار طبيعة عملهم ويبقون على هذا الحال مهما طالت فترتها.
ولا يكون سبب مراقبته لأولاده في سفح الجبل كل يوم، ضمن رحلة شاقة وطويلة من منزله إلى الجبل فقط لمراقبة حسن سير العمل والحرص على إخراجه بشكل متقن، إنما اطمئناناً أيضاً على صحتهم وسلامتهم خشية إصابة مباغتة قد تحدث، يضيف محدثنا.
ورثة من نوع آخر
يعلم "أبو محمد" أنّ العمل الذي ورّثه لأولاده صعب جداً ومجهد، وإنّ اللقمة التي يجنونها منه "مغمّسةً في الدم" على حدّ وصفه، لما لها من مخاطر وإصابات، إذ لا يمر يوم إلا ويتخلف أحد أولاده عن العمل بسبب إصابته نتيجة الحجارة المتطايرة أو خطأ فنيّ ما خلال التكسير.
ويوضح لموقع تلفزيون سوريا، أنّ البطالة وقلة العمل والفقر هي من دفعته لتعليم مهنة تكسير الحجارة لأولاده.
ورغم قساوتها، يبدي "أبو محمد" رضاه عن حياته، يقول: "وقت نرجع متعبين من العمل نجد الخبز الناشف كأنه لحم من شدة التعب، ونشعر بلذة عملنا.. الحمد لله عايشين وما ضل أحسن من هيك".
يؤكد أن العمل يكفيهم حاجتهم بعرق جبينهم، ولا يضطرهم أن يمدوا يدهم لأحد، وهو الأهمّ، بحسب "أبي محمد".
أجر قليل ومهنة خطيرة
"مهدّة ودبّورة وعتلة" هي أدوات "حبيب بكور" أحد أبناء "أبو محمد"، كفيلة بإخراج عمل متقن من الصخور المستخدمة في أعمال البناء، إلا أنّ الأجر القليل يحول من تحسن واقعه المعيشي إلى الأفضل.
يوضح "حبيب" لموقع تلفزيون سوريا أنّ الأجر في أحسن أحواله يصل إلى 20 ليرة تركية وهو مبلغ ضئيل أمام ارتفاع الأسعار وتردي الواقع المعيشي، ويعبّر عن ذلك بقوله: "يجب العمل منذ الصباح حتى المغرب لشراء كيلو بندورة مع ربطتي خبز".
يتحدث "حبيب" عن فترة عمل طويلة أحياناً تتجاوز الـ 10 ساعات مياومةً، كما يشتكي في الوقت ذاته من إصابات يومية أيضاً تصيب أصابعه أو أظافره، وربما تكون أحياناً أكثر خطورةً لولا "ستر الله".
يختم حديثه بتأكيده على استمراره بعمله الحالي في تكسير الحجارة لأنه أفضل الموجود والمتوفر من العمل، من أجل تأمين معيشة عائلته الصغيرة.
ولا تتوقف المهن الشاقة على تكسير الحجارة، كما تدخل أعمال التحميل أو ما تعرف بـ"العتالة" محلياً ضمن هذه المهن، إذ يحمل العامل الآلاف من الكيلو غرامات وبمردود محدود وجهد ضخم ومتعب، في حين يتراوح الدخل اليومي من الـ 10 إلى 20 ليرة تركية.
البطالة
تعتبر البطالة واحدة من أبرز الأسباب التي تدفع الأهالي إلى امتهان أعمال شاقة ومضنية، ومنخفضة الأجور.
وفي استبيان أجراه فريق "منسقو الاستجابة" مؤخراً، أظهرت النتائج أنّ نسبة 89 في المئة من المشاركين في الاستبيان عاطلون عن العمل.
وأشارت النتائج إلى أنّ الأصغر سناً ممن هم دون الـ 25 عاماً هم الأكثر بطالةً بنسبة 85 في المئة.
في هذا السياق يقول "عبد الكريم العمر" ناشط يقيم في ريف إدلب، إنّ امتهان الأعمال الشاقة، ظاهرة تحمل بعدين اقتصادي واجتماعي، فهي بالدرجة الأولى مفروضة على بعض السكّان لتأمين معيشتهم في ظل تردٍ معيشي، ومن الناحية الأخرى تنحسر فرص العمل كماً ونوعاً في وجه الأهالي وطالبي العمل وعلى وجه التحديد فئة الشباب ـ وإن كانوا من حملة الشهادات ـ وبالتالي تجد نفسها هذه الفئة مضطرةً إلى اللجوء لأي عمل ومهما كانت طبيعته من أجل لقمة العيش.
ويستحضر "العمر" ضمن حديثه لموقع تلفزيون سوريا، سمات عديدة بات يعرف بها مجتمع المنطقة، منها "الفقر والبطالة وغياب فرص العمل" بالإضافة إلى تبديل أدوار العمل بسبب قلته، إذ أن صاحب الاختصاص يضطر للعمل بأية مهنة غير مهنته واختصاصه، بحال تعذّر تأمين فرصة عمل مناسبة له، وفي كثير من الظروف لا يمانع إن كانت شاقة أو مريحة.