نجحت "هيئة تحرير الشام" في توظيف المزيد من الإمكانات والوسائل الجديدة للترويج لمشروعها في الإدارتين المدنية والعسكرية بعد تبنيها خطاباً مختلفاً وموجهاً إلى الداخل يتبنى شعارات وأهداف الثورة السورية، وهو ما أمن لها تمدداً في الأوساط الشعبية المعارضة، وأمن لها أيضاً تمدداً آخر مفترضاً نحو مناطق سيطرة الجيش الوطني والتي تشهد انفتاحاً دراماتيكياً على أذرع الهيئة الاقتصادية والإعلامية وغيرها.
فاعزاز وعفرين وغيرها من المدن والبلدات في ريف حلب لم تعد محظورة على قادة بارزين في تحرير الشام كأبي ماريا القحطاني وزكريا عيسى الشيخ (أبو أحمد زكور) وأبو إبراهيم سلامة وغيرهم من المقربين من زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني، ولذا يمكن أن نتوقع لقاءات دورية بين هؤلاء القادة وقادة آخرين في الفصائل بحجج التنسيق الأمني والعسكري والتجاري (وتد للمحروقات) والمعابر وتبادل المطلوبين وغيرها من الملفات والمصالح المشتركة، وهنا يبدو التمدد المفترض لأحد أهم أذرع الهيئة الإعلامية الناشئة كشركة Creative Inception أمراً متوقعاً جداً.
Creative Inception تنفي علاقتها بالهيئة
ردت شركة Creative Inception على تقرير نشره موقع تلفزيون سوريا يوم أمس 16 تموز/ يوليو، نافية أي علاقة لها بهيئة تحرير الشام، وزعمت في بيانها أن الشركة "لا تتبع لأية جهةٍ عسكريةٍ أو أمنيةٍ ولا لأية مؤسسة تعمل في الثورة السورية".
وأضاف البيان: "فاجأنا موقع تلفزيون سوريا بتقرير نشره صباح اليوم وادعى فيه تبعية شركتنا لأحد الفصائل العسكرية العاملة في الثورة السورية دون دليل أو معلومة، مستندين إلى معلوماتٍ نشرتها شخصيات مجهولة تعرِّف عن نفسها بأسماء غير حقيقية".
وتابع البيان: "تواصل معنا مراسل تلفزيون سوريا ليسألنا بعض الأسئلة كما قال، ووجّهنا له بعض الاستفسارات التي لم يُجِبْ عليها ولم يعاود التواصل معنا لأخذ التصريح الذي حضّرناه له، وبعد نشر التقرير الذي لم يحوِ على أي تصريح من قبلنا، راجعنا الأستاذ غسان ياسين مدير موقع تلفزيون سوريا، وبدوره استنكر ما نُشر من كلام في التقرير المكتوب، وشدّد أن الكاتب ليس من موظفي التلفزيون، بل مستكتب عندهم".
تضمن بيان الشركة الكثير من الادعاءات التي يجب الرد عليها.
بدأت فكرة التقصي حول الشركة عندما أثار نشاطها المتزايد فضول بعض الناشطين والإعلاميين في مناطق المعارضة بريف حلب وإدلب، ونشأ جدل حول تبعية الشركة ومصادر دعمها وكيف يتصاعد تمددها بهذا الشكل الغريب، وكان لناشطين مداخلات في عدد من المجموعات الخاصة في مواقع التواصل تشكك في مزاعم استقلالية الشركة التي تروج بشكل غير مباشر لتحرير الشام وذراعها المدنية "حكومة الإنقاذ"، ثم جاء حصول الشركة على صفقة الإعلانات التي طرحتها وزارة الإدارة المحلية والخدمات في "الإنقاذ" لتعزز الشكوك المثارة حولها.
تم اقتراح فكرة التحقيق على مدير موقع تلفزيون سوريا، وهو الأستاذ ماهر وكاع وليس الأستاذ غسان ياسين كما زعمت الشركة، وأنا لست مراسلاً للتلفزيون بالفعل، بل صحفي مستقل لا أتبع للتلفزيون.
وتقصد الشركة التضليل عندما قالت في بيانها إن الأستاذ غسان ياسين مسؤول العلاقات العامة في تلفزيون سوريا "استنكر ما نُشر من كلام في التقرير المكتوب"، والحقيقة أن الأستاذ غسان أبلغهم في رسالة صوتية عبر تطبيق واتساب بالحرف "تمام أخي ولا يهمك أنا شوي تانية بشوف الزملاء مدير الموقع وهنن بشوفوا الموضوع مع خالد، طبعا حقك الموضوع إذا صار في لبس أو ضعف تنسيق بينك وبينه، خليني شوف الزملاء بالموقع وبرجعلك".
وهنا قام الأستاذ غسان بدوره على أكمل وجه، فاحتفظ للشركة بحق الاعتراض وتواصل فعلاً مع مدير الموقع الأستاذ ماهر الذي أوضح له بدوره أن جميع المعلومات الواردة في التقرير مؤكدة، وأن المسؤول في العلاقات العامة للشركة طلب من خالد أسماء مصادره الخاصة مقابل الإجابة عن أسئلته، ورغم ذلك ذكر كاتب التقرير تصريح هذا المسؤول.
المهنية وأخلاقيات الصحافة قبل أي اعتبار
وتتمحور فكرة التحقيق حول نشأة الشركة وانتشارها ومشاريعها وطموحها وتبعيتها، وليكون مهنياً ومتوازناً كان لا بد أن أتواصل مع القائمين على الشركة ليتحدثوا عن مشروعهم، ويردوا أيضاً على الاتهامات التي تتحدث عن تبعيتهم لتحرير الشام.
وجدت حساب/رقم هاتف من دون اسم صريح في واحدة من الغرف الخاصة التي توجد فيها جهات اتصال لقادة في الجيش الوطني وعدد من الناشطين والإعلاميين، ووجدت أن هذا الحساب الهاتفي يشارك وينشر في الغرفة مواد تنتجها الشركة، وتحدثت معه، وبالفعل كان واحداً من المسؤولين في العلاقات العامة التابعة للشركة أو أحد مسؤوليها، لا أعرف بالضبط لأنه لم يصرح بشكل واضح عن صفته الوظيفية أو اسمه الصريح.
شرحت له الفكرة كاملة ورغبتي في إعداد تقرير متوازن يتضمن جميع الآراء، وقدمت له مجموعة من الأسئلة، أبدى استعداده ورحب، لكنه تحول في لحظة إلى محقق ويريد أن يعرف من هؤلاء الناشطين والإعلاميين الذين سيتحدثون في التقرير عن تبعية الشركة وبالأسماء الصريحة من سيدلي لي بالمعلومات، كذلك من هم السلفيون المناهضون لتحرير الشام الذين يتهمون الشركة بتبعيتها.
وقال لي "مين الأطراف الأخرى الواردة بالمقال، في أسماء والا المقال مبني للمجهول، ياريت دخيل عينك لو تزودني بالأطراف، صراحة مو كل كلام يطرح بحاجة للرد ومشاكل الهيئة مع منشقين عنها أو قنوات وهمية نحنا بغنى عن الرد عليها، إذا نزل خبر على كابوس أو غيره انه تلفزيون سوريا تابع لطرف التلفزيون رح ينفي، لهيك سألتك عن أسماء فإن كانت معتبرة بالتأكيد مشكور جهدك بالتوازن بالطرح وإعطاء مساحة بالمقال للرد".
وفي رده على سؤالي "أخي في حال كانت الشركة غير تابعة أو مرتبطة فأمر النفي سهل جداً، بغض النظر عن الأطراف المشككة"؛ قال المسؤول في الشركة "بس كجواب مبدأي لهي النقطة، الشركة هي شركة تجارية خاصة تأسست بمال خاص لا تنتمي لأي حزب أو فصيل أو تيار أو حكومة وتعمل تحت قبة الثورة السورية"، وهذا كان التصريح الرسمي الوحيد الذي تضمنه التقرير.
ومن أسس العمل الصحفي الراسخة والتي لا تقبل الشك مطلقاً، ولدواع أمنية وحفاظاً على سلامة الأشخاص الذين قدموا المعلومات؛ لم أقدم للمسؤول في شركة Creative Inception الأسماء التي كان ينتظر أن أزوده بها كشرط لازم لتزويدي بالتصريحات، بعد أن استشعرت في مطلبه خطراً على مصادر المعلومات، قد يقع ضرر كبير على هؤلاء الناشطين في حال صرحت بأسمائهم، ومن بينهم أشخاص مقربون من عاملين في الشركة وبعضهم موجود في إدلب ويمر يومياً على حواجزها الأمنية.
ولا مجال للشك أن المؤسسة الإعلامية التي تطالب صحفياً بأسماء مصادره الخاصة، ما زالت بحاجة إلى مزيد من التدريب على أسس العمل الإعلامي والصحفي ومبادئه وأخلاقياته.
وبالعودة إلى بيان الشركة الذي نقتبس منه الآتي: "فاجأنا موقع تلفزيون سوريا بتقرير نشره صباح اليوم وادعى فيه تبعية شركتنا لأحد الفصائل العسكرية العاملة في الثورة السورية دون دليل أو معلومة، مستندين إلى معلوماتٍ نشرتها شخصيات مجهولة تعرِّف عن نفسها بأسماء غير حقيقية".
- أولاً: تعتبر شركة Creative Inception هيئة تحرير الشام "أحد الفصائل العسكرية العاملة في الثورة السورية".
- ثانياً: أبدت الشركة تفاجأها من التقرير لأنه مستند إلى شخصيات مجهولة. وهنا لا بد من توضيح مسألة "المصادر الخاصة" أو "المصادر التي تطلب عدم الكشف عن هويتها". ففي العمل الصحفي تتحمل الوسيلة الصحفية أياً كانت مسؤولية المعلومات التي تنشرها بناء على مصدر خاص بها طلب عدم الكشف عن اسمه أو هويته، وهذه المسؤولية المهنية قائمة على أن الصحفي والمؤسسة يصنفون ويقيمون موثوقية هذه المصادر ويقاطعون المعلومات مع مصادر أخرى إن كانت متوافرة.
في تحقيقنا عن شركة Creative Inception تقاطعت مصادر موثوقة وموثوقة جداً كما لم يحدث من قبل، فعند تقصي الحقائق حول الشركة أكد أكثر من 20 مصدراً موثوقاً بينهم صحفيون مقربون من القائمين على الشركة أنها ذراع إعلامي لهيئة تحرير الشام.
ولا بد من الإشارة إلى أن واقع الحريات الشخصية وحرية العمل الصحفي في سوريا تتفاوت من منطقة سيطرة إلى أخرى، لكن في الملفات الحساسة والأمنية والمخابراتية، يقع على مصدر المعلومة خطر بشكل أو بآخر، ولذلك تعتمد معظم وسائل الإعلام السورية في أخبارها وتقاريرها وتحقيقاتها على "مصادر خاصة" بعد أن تطلب هذه المصادر عدم الكشف عن هويتها.
وبعد نشر التحقيق يوم أمس، تواصل كثير من الناشطين والصحفيين مع موقع تلفزيون سوريا وأكدوا ما ورد فيه من معلومات، وقدم بعضهم معلومات إضافية حول القائمين على الشركة وأهدافها القريبة والبعيدة و"إدارة الظل" فيها، كما لفتوا نظرنا إلى حلقات برامج الشركة المتنوعة والتي خلقت جدالاً بين الناشطين يوم عرضها، معتبرين أنها "ترقّع لحكومة الإنقاذ" وتمنحها منبراً للرد على كل المشكلات والأزمات الحاصلة في إدلب، رغم أن برامج الشركة تعرض شكاوى الأهالي.
السياسة التحريرية لشركة Creative Inception لا تخفي تبعيتها
ادعاء شركة Creative Inception بأنها مؤسسة ثورية لا يمكن أن يغطي على تبعيتها الواضحة لهيئة تحرير الشام في إدلب وذلك من خلال المميزات التي تتمتع بها دون غيرها من الوسائل الإعلامية، من ناحية التجوال السلس لمراسليها في مناطق الهيئة، ودخولهم مختلف قطاعات العمل والإدارات والمؤسسات التابعة لـ "حكومة الإنقاذ" بالإضافة إلى حصولهم على صفقة احتكار القطاع الإعلاني كاملاً في إدلب، وقد بدأت مظاهر الاحتكار تظهر في الشارع.
كما أن لقاء مراسليها بكل سهولة مع قادة عسكريين من الصف الأول في هيئة تحرير الشام في الوقت الذي يحتاج فيه مراسل لموقع محلي أو خارجي إلى الكثير من الأذونات والتصاريح لكي ينفذ مهمته الإعلامية في موقع مدني أو عسكري ما، ويحتاج من الوقت والجهد والمخاطرة الكثير لكي ينجز المهمة.
التبعية المفترضة لتحرير الشام و"الإنقاذ" يمكن ملاحظتها من خلال المنتج الإعلامي الذي تنتجه الشركة، المنتج المتنوع الذي يتضمن برامج تفاعلية وأخرى ترفيهية واجتماعية يبدو في كثير من المواقف "مرقعاً" للقطاعات والمؤسسات والإدارات التابعة للإنقاذ وتحرير الشام لا رقيباً عليها كما هو مفروض، ويروج لنجاح مزعوم وصلت إليه تحرير الشام وذراعها المدنية في إدارة المنطقة والاطلاع على هموم ومشكلات الناس، في حين يبدو واقع المنطقة والإدارات المتحكمة فيها مختلفاً عما يتم الترويج له.
شركة بُنيت على أساس وكالة "إباء"
ذكرنا في التقرير أن صعود نجم الشركة تزامن مع أفول مفترض لشبكة إباء الإخبارية المنصة الأشهر التي كانت تروج لتحرير الشام وتتحدث باسمها، وبهذا الخصوص توصل موقع "تلفزيون سوريا" إلى معلومات تفيد بأن العاملين السابقين في "إباء" معظمهم تحول إلى العمل في الشركة، كما أن "خطاب الأردني" الذي كان مسؤول الإعلام العسكري ويدير "إباء" أصبح الآن المدير القائم بأعمال الشركة والذي وصفه أحد الصحفيين في إدلب لموقع تلفزيون سوريا بأنه مبعوث "الجولاني" إلى الشركة، وهو في الوقت نفسه مسؤول العلاقات العامة في هيئة تحرير الشام.
وكذلك أحمد سويد أحد إعلاميي "إباء" اليوم يعمل في واحد من برامج الشركة، بالإضافة إلى أسماء أخرى كانت تعمل مع "موقع الدرر الشامية" المقرب من تحرير الشام، وأسماء أخرى عملت حديثاً مع الشركة، أمثال أبو العز الحلبي وأبو اليسر براء وغيرهم.
ببساطة يمكن القول إن شركة Creative Inception تضم اليوم إعلاميين كانوا خلال السنوات الماضية الذراع الإعلامية للجولاني والتي روجت لتغلبه على فصائل "الجيش الحر" من حلب وقبل سقوطها نهاية العام 2016 وحتى وقت قريب مروراً بالهجوم على "أحرار الشام" و"جيش المجاهدين" و"حركة حزم" و"حركة نور الدين الزنكي" و"صقور الشام" وغيرها من الفصائل التي اندثر معظمها وسُلب سلاحها ومقارها.
تضم الشركة ناشطين أعدوا لأبي العبد أشداء خطاباته النارية المليئة بالكراهية والحقد على الفصائل، وربما يكون بينهم إعلاميون سبق أن أعدوا لأبي اليقظان المصري صاحب مقولة "اضرب بالرأس" خطابه الهجومي على الفصائل العسكرية، وتابعوا بدقة عمليات القصف والمعارك ومسير الدبابات التي اجتاحت قرى وبلدات الريف الغربي في العام 2019، وهؤلاء من المفترض أن يكملوا ما بدؤوه لكن بلباس الثورة بعد أن استتبت لهم السيطرة وباتوا يطمحون لتمددها نحو ما تبقى من المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة شمال غربي سوريا، مستفيدين من تشتت الفصائل وإداراتها المدنية وغياب مشروعها الجامع تحت مظلة حقيقية.