زادت مساحة النقاشات حول الديمقراطية والليبرالية، بما تتضمناه من مفاهيم المشاركة الشعبية والحقوق والواجبات في العالم العربي منذ مطلع الألفية الثالثة، وكان لاحتلال العراق أثرٌ ملحوظٌ في تحفيز ذلك ضمن توترات حدّية متضاربة بين السلطات الحاكمة والمثقفين والمشتغلين بالشأن العام. فبينما رأت أنظمة الحكم في ذلك مقدّمة لغزو خارجي واستجرارًا له، كما دأبت دائمًا في سَيْرها على نهجها القديم الذي أغلق المجتمعات سياسيًا بحجّة التفرّغ لمعركة تحرير الأراضي المحتلة، رأت مجموعات من الفاعلين بالفضاء العمومي، على محدوديته وعلى قلتهم أيضًا، أنها سؤال مُستحقٌّ تأخر أوانُ طرحه كثيرًا. لكنّ النقلة النوعية بدأت، برأينا على الأقل، مع اندلاع ثورات الربيع العربي، وهنا بدأت أسئلة الشرعية تأخذ حيّزها الوازن في النقاشات، فمع استشراء القمع العاري للمحتجين في الشوارع، سقطت آخر أوراق التوت عن سُلطاتٍ طالما ادّعت أنها تمثّل محكوميها وتضع نفسها في خدمتهم.
هنا، وبعد الدمار المرعب الذي ألحقته أنظمة الحكم في سوريا وليبيا واليمن والسودان ومصر جزئيًا في بنى دولها ومجتمعاتها الفوقية والتحتية على السواء، بدأت تظهر للعلن، شعبيًا، وتترسّخ في النقاشات المطروحة على ألسنة الناس بمختلف مستوياتهم الثقافية والفكرية والاجتماعية، مقارناتٌ معقولة ومنطقية بين أنظمة طالما صَنّفت ذاتها تقدميةً مقابل أنظمة صَنفت ذاتها محافظة، وبدأت الكفّة تميل لصالح قراءات أكثر إنصافًا لتجارب الشعوب العربية في الدول ذات الحكم الملكي أو الأميري أو السلطاني. صار الناس أكثر استعدادًا لمسح نتائج التضليل الإعلامي والضخ العنصري لأنظمة الحكم الاستبدادية في جمهوريات الموز العربية، خاصّة مع رؤيتهم نتائج النهضة العمرانية والفنية والثقافية في جوارهم الخليجي مقابل التراجع بكل المستويات في بلادهم البائسة. على سبيل المثال لا الحصر، ليس من الصعب إيجادُ البون الشاسع بين الأغنية الخليجية، كلماتٍ وألحانًا وأداءً وبين الأغنية السورية أو اللبنانية أو المصرية، بين محمد عبده وأبو بكر سالم وعبد الله الرويشد وعبادي الجوهر... وبين جورج وسّوف وعلي الديك وسارية السواس من سوريا وحسن شاكوش وشعبان عبد الرحيم من مصر.. ومن جرّ جرّهم وحذا حذوهم من باقي الدول التقدّمية!
في قطر والتي هي محور مقالتنا اليوم، بدأت تجربة المشاركة الشعبية في الحكم عام 1913 فيما عُرِفَ باسم بيعة الغريفة، حين جمع الشيخ جاسم بن محمد أهل الحل والعقد من زعماء القبائل والعشائر والوجهاء والأعيان لمشاورتهم في إنشاء حكم أميري، وتمّت مبايعة ابنه عبد الله بن جاسم. وفي ذلك الوقت لم تكن البلاد في حال يؤهلها لاستقبال معتمدِ أو مندوبِ الحماية البريطاني، فبقيت مرتبطة بالمندوب المقيم في بوشهر ثم في البحرين حتى عهد الأمير الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني حين تولى الحكم بعد والده في العام 1949. في تلك البيئة الفقيرة ماديًا والمحدودة ديمغرافيًا كان التعليم مقتصرًا على الكتاتيب، ولم يبدأ عصر المدارس النظامية إلا مع ظهور النفط وبدء تدفق عوائده، فكانت مدرسة الإصلاح الحَمدية التي أُنشئت عام 1948. في العام 1950 استعان الشيخ علي بخدمات مستشارٍ بريطاني لإنشاء أول بنية تنظيمية مؤسساتية إدارية حديثة في البلاد، فتمّ تأسيس إدارات الجمارك والصحة والتعليم والطرق وغيرها. حتى ذلك الوقت لم يكن هناك أي تنظيم سياسي يعاون الأمير في حكم البلاد، اللهم باستثناء مبدأ الشورى الذي كان مفعّلًا بين الأمير وزعماء العشائر والقبائل والتجّار والوجهاء.
في العام 1961 صدر أول قانون بقرار أميري هو القانون الفاتح الذي أنشأ الجريدة الرسمية، تبعته بعد ذلك مجموعة من القوانين الناظمة للجنسية والعمل وغيرها من شؤون الدولة
مع تنازل الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني عن الحكم لابنه الشيخ أحمد، وهي بالمناسبة سيرة تتميّز بها الأسرة الحاكمة في قطر عن غيرها من الأسر الحاكمة في الخليج والوطن العربي كله، بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الحكم والمشاركة الشعبية في قطر. في العام 1961 صدر أول قانون بقرار أميري هو القانون الفاتح الذي أنشأ الجريدة الرسمية، تبعته بعد ذلك مجموعة من القوانين الناظمة للجنسية والعمل وغيرها من شؤون الدولة. في العام 1964 تم إنشاء أول مجلس للشورى في قطر بالتعيين، وكان يتألف من خمسة عشر عضوًا جميعهم من أبناء الأسرة الحاكمة ويرأسه الحاكم الشيخ أحمد ويعاونه نائبه الشيخ خليفة. مع ذلك، لم يرَ مجلس الشورى النور رغم تحديد اختصاصاته وآليات عمله. في العام 1968 أعلنت بريطانيا على لسان رئيس وزرائها هارولد ويلسون أنها ستنسحب من الخليج العربي وتنهي عصر الحماية على إماراته، فكان أن استجاب الشيخ أحمد بن علي أمير البلاد لهذا المستجدّ بإعلانه بتاريخ 2 نيسان/ أبريل 1970 عن إصدار أول نظامٍ أساسي كان بمنزلة دستور دولة قطر الأول، وتمّ تشكيل أول وزارة قطرية ضمّت عشرة وزراء، وكان هذا مقدّمة لإعلان الاستقلال في الأول من أيلول / سبتمبر 1971. نصّ الدستور الأول على إنشاء مجلسٍ للشورى مؤلفٍ من عشرين عضوًا يتم اختيارهم بالانتخاب مع احتفاظ الأمير بحق تعيين أربعة منهم، لكنّه لم يطبّق أيضًا رغم صدور قانون الانتخاب.
في 22 تشرين الأول/ نوفمبر 1972 حين تولى الحكم الشيخ خليفة بن حمد بن عبد الله بن جاسم بن محمد آل ثاني قام بنهضة حقيقية في منظومة الحكم في قطر. كان من بين أهمّ قراراته الإدارية تعيين أعضاء مجلس الشورى بأمر أميري، وقد ضمّ فيه أصحاب الكفاءات من أعيان البلد وأبناء القبائل والعشائر المشكّلة للمجتمع القطري. كان اختصاص مجلس الشورى في هذه المرحلة محصورًا في دراسة مشروعات القوانين التي تُحالُ إليه من مجلس الوزراء ليعطي استشارة غير إلزامية لأمير البلاد بخصوص مشروع القانون قبل إصداره. في عام 1976 تم توسيع عضوية المجلس لتصبح ثلاثين عضوًا، وأضيف لاختصاص المجلس التصدي للقضايا الاجتماعية والثقافية وغيرها من خلال اقتراح مشروعات قوانين تُرفع لمجلس الوزراء بصيغة توصيات غير ملزمة أيضًا. وكان من الملاحظ هذا التناغم الكبير في عمل مؤسسات الدولة الناشئة، حيثُ تثبت وثائق الأرشيف أنّ مجلس الوزراء كان يأخذ بتوصيات مجلس الشورى بنسبة 95% مما يُرفع له.
هذا التأنّي والتدرّج في توسيع نطاق المشاركة الشعبية في قطر هو من أفضل التجارب التي ساعدت على بناء الهوية الوطنية القطرية رغم الهزّات والعواصف الهوجاء التي مرّت بالمنطقة
علّل الشيخ خليفة رحمه الله انحيازه للتدرّج في توسيع مبدأ المشاركة الشعبية في حكم البلاد بدءًا من التعين وصولًا للانتخابات الكاملة بالقول جوابًا على سؤال الصحفي سليم اللوزي في مقابلة خاصة معه: "نحن هنا في قطر لا نريد القفز إلى المجهول، طموحنا أن نقيم حياة برلمانية تكون الكفاءة فيها هي المقياس، نختار الكفاءات من بين أبناء مجتمعنا القطري، وفي داخل المجلس تجري نقاشاتٌ نستلهم منها أفكارًا تساعدنا على طريقة الحكم في قطر". هكذا تجنّبت قطر مشكلات حلّ المجلس الوطني والبرلمان التي حصلت في البحرين والكويت بسبب عدم نضج ظروف التجربة الديمقراطية واكتمالها. هذا ما مكّن أمير البلاد الشيخ تميم بن حمد آل ثاني من تعيين سيدتين في مجلس الشورى، وهذا ما كان على الكويتيات أن تناضلن من أجله أكثر من ربع قرن حتى تتمكّنّ من دخول البرلمان رغم وجود النص الدستور والقانون الانتخابي والتجربة القديمة نسبيًا.
يعطينا هذا مثالًا واضحًا على تعدد أنواع المشاركة الشعبية وأشكالها المختلفة، والتي ستنجح بالتأكيد كلما جاءت متوافقة مع بنية المجتمع ولم تكن مفروضة عليه من الخارج. لعلّ هذا التأنّي والتدرّج في توسيع نطاق المشاركة الشعبية في قطر هو من أفضل التجارب التي ساعدت على بناء الهوية الوطنية القطرية رغم الهزّات والعواصف الهوجاء التي مرّت بالمنطقة خلال الأعوام القليلة الماضية على وجه الخصوص.