حول المحافظون من السياسيين الأميركيين والأوروبيين قضية الهجرة إلى أهم مشكلة سياسية تعترض بلادهم، وهذا ما جعلهم يطالبون بعدد من الإجراءات للحد من تدفق المهاجرين، لاسيما القادمين من النصف الجنوبي للكرة الأرضية. وذلك لأن أعداداً متزايدة من المهاجرين أصبحت تصل إلى أوروبا والولايات المتحدة هرباً من الأزمات الاقتصادية المتفاقمة والعنف وانعدام الاستقرار على المستوى السياسي، إلى جانب أضرار أزمة المناخ المتزايدة. ولكن في الوقت الذي ينبغي فيه على الدول الأغنى والأكثر استقراراً أن تشدد سيطرتها على حدودها، يتعين عليها أيضاً أن تجعل القيود على حدودها عادلة وأن تمنح اللاجئين الفارين من الاضطهاد أولوية دخول أراضيها.
ظهرت موجة معاداة الهجرة الحالية منذ فترة قريبة، وقد ترأسها فيكتور أوربان رئيس وزراء هنغاريا من خلال حملته الطويلة التي شنها من أجل خلق حالة تجانس عرقي، إذ أعلن وبكل فخر بأنه السياسي الوحيد في الاتحاد الأوروبي الذي يتبنى سياسة معادية للهجرة بشكل صريح، وبعد فترة قصيرة، لحق به كثيرون كما نرى الآن. إذ في هولندا التي كانت دولة تقدمية، حقق حزب الحرية اليميني انتصاراً ساحقاً في شهر تشرين الثاني الماضي، بما أن زعيمه، خيرت فيلدرز، يناصر فكرة إنهاء كل أشكال الهجرة من الدول المسلمة، وفي السويد، ارتفع الدعم الشعبي لحزب الديمقراطيين اليميني من أقل من 4% في أوائل التسعينيات إلى 20% تقريباً، وذلك لأنه يركز بشكل كبير على فكرة معاداة الهجرة. وفي الولايات المتحدة، اتخذ الرئيس السابق دونالد ترامب من معاداة المهاجرين موضوعاً رئيسياً في حملته الساعية لإعادته إلى البيت الأبيض، وقد أصبح هذا الرجل المرشح الأوفر حظاً للفوز بترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية خلال هذا العام.
معضلة اتفاقية اللاجئين
أضحى اللاجئون الذين تقدموا بطلب لجوء هرباً من الاضطهاد في بلدهم أهم هدف للنقد اللاذع الذي يعادي المهاجرين في عديد من البلدان، ولنأخذ المملكة المتحدة مثلاً، حيث يبدو بأن حزب المحافظين الحاكم قد قرر أن يضع عقبات يستحيل تجاوزها وذلك ليمنع اللاجئين من الحصول على اللجوء. وفي عام 2022، اقترح رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون ما صار يعرف اليوم بخطة اللجوء في رواندا، وبموجب هذا المقترح قد يتم إرسال جميع طالبي اللجوء الذين وصلوا إلى بريطانيا إلى رواندا على الفور، وهناك يمكن معالجة طلبات لجوئهم ومراجعتها. وفي الوقت الذي جمدت محكمة بريطانية هذه الخطة بشكل مؤقت، بوسع المرء أن يكتشف نوايا المملكة المتحدة بكل وضوح، وهو إنهاء عملية اللجوء بشكل كامل.
وهذا ما يضرب معاهدة اللاجئين التي أبرمتها الأمم المتحدة في عام 1951 بعرض الحائط، لكونها تمنح اللاجئين وطالبي اللجوء حماية خاصة، وتعتبر هذه الاتفاقية بمثابة معاهدة دولية، وقد جرى تبنيها إثر تأييد واسع لها شاركت فيه دول أصبحت فيها اليوم المشاعر المعادية للهجرة رائجة ضمن اليمين السياسي، وأتت المعاهدة رداً على الفشل الذريع الذي مني به المجتمع الدولي في منح اللجوء لليهود وسواهم ممن فروا من القمع النازي خلال الحرب العالمية الثانية. وهذه المعاهدة تعرف مصطلحاتها بشكل محدد وضيق، وتمنح الحماية للأشخاص الذين لديهم خوف من القمع على أساس منطقي وهذا القمع يمارس عليهم بسبب عرقهم أو دينهم أو جنسياتهم أو عضويتهم في منظمة اجتماعية أو بسبب رأيهم السياسي، غير أنها لا تطبق على الفارين من الفقر المدقع أو من الحرب الأهلية أو من الخراب الذي يترتب على الكوارث الطبيعية مثل التغير المناخي، إذن حتى لو رغبت بعض الدول بمنح حماية خاصة لتلك الفئات أو غيرها من اللاجئين، لا يمكن لاتفاقية اللاجئين أن توسع من حمايتها لهم بشكل قانوني.
أميركا وقانون اللاجئين
حولت الولايات المتحدة التزامها بهذه الاتفاقية إلى قانون في عام 1980 عندما تبنت قانون اللاجئين الذي يقدم عملاً إطارياً لقبول اللاجئين من الخارج ويحدد العملية اللازمة لمعالجة طلبات اللجوء التي تقدم بها من وصلوا إلى الولايات المتحدة. وخلال العقود الأربعة الماضية، قبلت الولايات المتحدة لجوء بضعة ملايين من اللاجئين القادمين من جنوب شرق آسيا، وكوبا، ودول الاتحاد السوفييتي السابق، وغيرها من الدول، وذلك بموجب برنامج حظي منذ فترة قريبة بتأييد واسع من قبل كلا الحزبين. وهكذا صار متوسط عدد من يتم قبول لجوئهم سنوياً في الولايات المتحدة يصل إلى نحو 100 ألف لاجئ كل عام، وهذا حتى وصول ترامب إلى الرئاسة، وذلك لأن إدارته أنقصت تلك الأعداد بشكل كبير، وأعطت حق اللجوء لأقل من 12 ألف لاجئ خلال سنته الأخيرة في الحكم. في حين سعت إدارة بايدن جاهدة لإعادة تنظيم هذا البرنامج، ومن المتوقع أن يصل عدد اللاجئين الذين سيجري قبول طلبات لجوئهم في عام 2024 إلى 125 ألفاً.
ولقد نظم قانون اللاجئين الأميركي الصادر في عام 1980 حق الواصلين إلى الولايات المتحدة بالتقدم بطلب لجوء، وتبين بأن هذا الجانب من النظام هو الأصعب من حيث طريقة إدارته، فقد أضعفت إدارة ترامب هذا الجانب كثيراً عبر الحد من التمويل المخصص للموظفين والقضاة العاملين في مجال البت بطلبات اللجوء. وهذه التخفيضات المالية التي فرضها ترامب تزامنت مع موجة هائلة في طلبات اللجوء، وهذا ما أدى إلى تراكم العمل لدى هذه المنظومة. وبالنتيجة، هنالك أكثر من 1.3 مليون طلب لجوء معلق في الولايات المتحدة، بينها نحو 750 ألف حالة وصلت إلى محاكم الهجرة، و600 ألف حالة تخضع لإجراءات إدارية. وبحسب خدمة التعقب لدى جامعة سيراكيوز، تستغرق العملية اليوم بالمتوسط نحو أربع سنوات ونصف حتى يتم البت بطلب اللجوء، بيد أن الآلاف المؤلفة من الناس أصبحت تصل إلى الحدود وتقدم طلبات لجوء كل شهر.
على الرغم من السهولة في استيعاب رغبة الناس الذين يصلون إلى الحدود الجنوبية للولايات المتحدة والتي تتمثل بتأمين مستقبل اقتصادي أفضل أو الهرب من النزاع الداخلي في أوطانهم، نكتشف بأن أغلب اللاجئين لا يحققون البنود الضيقة التي وردت في تعريف اللاجئ، وذلك لأن أغلب من يتقدمون بطلبات لجوء على الحدود يعرفون بأن قضيتهم لن تبت على مدار سنين، ومع ذلك يختارون السير في هذا الطريق لعدم وجود خيارات أفضل، ولهذا لا يقبل لجوء سوى عدد قليل منهم. إذ في السنة المالية لعام 2021 وهي آخر سنة يمكن الحصول على بيانات لها، حصل أقل من 18 ألفاً على حق اللجوء، أما اليوم، فقد نقلت الآلاف المؤلفة من طلبات اللجوء إلى المدن الكبرى بعيداً عن المناطق الحدودية، وعلى رأس تلك المدن نيويورك وشيكاغو وفيلادلفيا ودينفر حيث تتعرض الموارد المالية فيها إلى ضغط كبير كما تنهك هذه العملية مقدمي الخدمات المخصصة للمهاجرين.
ركز الجمهوريون في مجلس النواب على إصلاح نظام البت بقضايا اللجوء لكونه معطلا، واقترحوا لحله فكرة قاسية وبعيدة كل البعد عن الحكمة. إذ عندما تحسسوا الأهمية السياسية لهذه القضية، رفضوا تأييد المعونات الأميركية المقدمة لأوكرانيا إلى أن يتحقق لهم ما أرادوه، وهكذا اقترحوا تقييد حقوق جميع طالبي اللجوء بشكل كبير وذلك عبر إجبارهم على تقديم جميع أوراقهم في المقابلة المبدئية، التي أصبحت تعرف بمراجعة "الخوف المحقق"، وهذا يعني بأن قلة قليلة من اللاجئين الحقيقيين، بل حتى أولئك الذين بين أيديهم أقوى سبب للجوء، بوسعها حضور تلك المقابلة في الموعد المحدد، وبالنتيجة، لابد أن يؤدي هذا الإصلاح إلى إلغاء حق اللجوء.
ولكن ثمة طريقة أفضل، إذ بداية، ينبغي على الكونغرس أن يقدم موارد أكبر للحكومة الفيدرالية حتى تدعم الأمن على حدود البلد، بيد أن الحقيقة المرة تتمثل في عدم قدرة الولايات المتحدة على استقبال موجات هائلة من المهاجرين الطموحين الذين يسعون لدخول البلد في الوقت الراهن، كما أن الولايات المتحدة ليست ملزمة بذلك. ثانياً، بوسع الحكومة القيام بخطوات أخرى لمعرفة من يمتلك مهارات مميزة بين طالبي اللجوء إلى جانب معرفة المجالات التي تتطلب مهاراتهم في البلد لمعالجة حالات النقص في الأيدي العاملة، لاسيما خارج المدن. وأخيراً، يجب على الكونغرس تمويل منظومة تعمل بشكل جيد وذلك للبت قانونياً بطلبات اللجوء بشكل عادل وسريع، بعدها يخضع من وصلهم رفض إلى الترحيل، أما من قبلوا فيجب أن يحصلوا على الحماية وعلى خدمات الحكومة التي يحتاجونها ويستحقونها. وينبغي عقد جلسات استماع لطلبات اللجوء التي تقدم بها من وصلوا حديثاً إلى البلد وذلك بمجرد أن يجري تجهيز طلبات لجوئهم الرسمية وذلك حتى تعود منظومة معالجة طلبات اللجوء إلى مسارها الصحيح. ويجب على الحكومة توظيف مزيد من القضاة والمدراء والموظفين ليعملوا في مجال الهجرة، لأن ذلك لابد أن يسهل هذه العملية، مع الحد من تراكم الأعمال وتأخرها. لذا، وبدلاً من فرض الإجراءات القاسية التي اقترحها الجمهوريون في الوقت الراهن، بما أنها ستحرم بالنتيجة الجميع من حق التقدم بطلب لجوء، يجب أن يكون الهدف هو دعم تلك المنظومة بحيث تعقد جلسات استماع لقضايا اللاجئين الحقيقيين بسرعة، في حين تتخذ إجراءات الترحيل بحق من لم تقبل طلباتهم. أي أن التطور في هذا السياق لا يعني حرمان الجميع من حق التقدم بطلب لجوء، بل عبر جعل النظام أكثر عدلاً وكفاءة.
المصدر: Forbes