"لا يمكن هزيمة روسيا، والحرب التي شنّها الغرب علينا، والتي يريد فيها أن ينهي وجودنا، ستفشل"، هذا ما قاله الرئيس الروسي بوتين في خطابه الطويل أمام البرلمان الروسي، والذي استغرق ما يزيد عن ثمانين دقيقة، لكنّه ورغم كل التطمينات والوعود التي أطلقها، ورغم تنصله من مسؤولية إشعال هذه الحرب، وتحميله الآخرين مسؤولية النتائج التي نجمت عنها، فإنّ رائحة الهزيمة كانت تفوح من خطابه.
كان الفيلسوف الروسي "ألكسندر دوغين"، الذي يصفه بعضهم بأنه عقل بوتين، أكثر وضوحاً في تعرية ما حدث خلال السنة الماضية من هذه الحرب، وفي توضيح ما يمكن أن تشهده المرحلة القادمة منها، ففي حديثه الذي أدلى به لقناة "الحدث" التلفزيونية، بمناسبة مرور عام نشوب الحرب قال دوغين:
"أعتقد أن روسيا في حالة حرب طويلة جداً، ومخيفة جداً، وجدية للغاية، لقد خططنا لعملية عسكرية محدودة جداً، وخاطفة وسريعة للغاية، بهدف تغيير النظام السياسي في أوكرانيا وإجبارها على رفض الانضمام للناتو، والامتناع عن العسكرة، والتخلي عن الأيديولوجيا النازية، لكننا اكتشفنا بعد مضي بعض الوقت أن هذا لم يتحقق"، وعند سؤاله عن مصير أوكرانيا في المستقبل قال بوضوح: " أوكرانيا لن تكون موجودة على الإطلاق"، وفسر ذلك بأنه لا خيار أمام روسيا سوى الانتصار في هذه الحرب، وبالتالي "إذا كانت روسيا موجودة فلن يكون هناك أوكرانيا".
يفسر "دوغين" عدم مقدرة روسيا على التخلي عن المناطق التي احتلتها، بأنه في حال تخلينا عن المناطق التي استولينا عليها سيحدث انفجار داخلي، وستغرق روسيا في حرب أهلية
بين تحرير أوكرانيا كاملة من الاحتلال الروسي كما يخطط القادة "الأوكران"، وكما يقول قادة في الدول الغربية، وبين فكرة أن روسيا لا يمكن أن تخسر هذه الحرب، ولا تستطيع حتى أن تعيد المناطق التي احتلتها إلى السيادة الأوكرانية، تبدو المرحلة القادمة كأنها معركة وجود لكلا الطرفين، ويفسر "دوغين" عدم مقدرة روسيا على التخلي عن المناطق التي احتلتها، بأنه في حال تخلينا عن المناطق التي استولينا عليها سيحدث انفجار داخلي، وستغرق روسيا في حرب أهلية، إن خطوة واحدة إلى الوراء تعني ألف خطوة، ولا نستطيع التوقف، ولا يمكن أن نخسر، ولن نقبل إلا بتحرير أوكرانيا كلّها من النخبة السياسية الموالية لحلف الناتو، عندها فقط يمكن أن نعد هذا انتصارا لنا.
لا يمكن القول إن كلام "دوغين" هو استراتيجية متبناة تماما من القيادة الروسية، لكنه يشير بوضوح إلى الخلفية التي تم من خلالها التفكير بضرورة الحرب، وأهدافها غير المعلنة، وكيف تنظر العقلية التي تحكم روسيا إلى علاقتها بالغرب عموماً، وبأوكرانيا خصوصاً، سيما وأن أفكار "دوغين" الأساسية وفلسفته التي أوضحها في "النظرية السياسية الرابعة"، رددها بوتين في عدة مرات في خطاباته، وخصوصاً ما يتعلق منها بفهم الديمقراطية الليبرالية، وحقوق الإنسان، والعائلة وغير ذلك.
في خطاب بوتين الأخير يمكن استشفاف عمق الأزمة التي تعيشها موسكو من جرّاء هذه الحرب، فهي الآن معزولة بشكل كبير، وهناك عقوبات كثيرة وبالغة الأهمية، فرضت عليها وتؤثر عميقاً في الوضع السياسي، والاقتصادي والعسكري الروسي، رغم أن بوتين نفى أن يكون لها تأثير ذو أهمية، لكن لا يمكنه أن ينكر أن هناك انقساماً في الرأي حول الحرب داخل المجتمع الروسي، ولهذا توعّد بمحاكمة من يقفون ضدها ووصفهم بأنهم خونة، ولا يمكنه أن ينكر أن أوروبا استطاعت أن تتخلص من تبعيتها للروس في مجال الطاقة، وإنها اليوم وجدت البديل الذي يغطي 90% من حاجتها إلى الطاقة الروسية، وهذا يعني خسارة اقتصادية كبيرة لاقتصاد ريعي في بنيته الأساسية، وهو وإن لم يعترف بالأخطاء الكبيرة التي وقع بها، إلا أن الوقائع على الأرض قالتها بوضوح فقد أخطأ في:
- المبالغة في تقدير قوة جيشه ومهنيته.
- الاستخفاف بقدرة القوات المسلحة الأوكرانية، وبولاء الأوكرانيين لقوميتهم ولدولتهم.
- إساءة تقدير مدى استعداد حلف شمال الأطلسي "ناتو" (NATO) على مساعدة أوكرانيا، وسرعته في هذه المساعدة.
- مراهنته على عجز الدول الغربية المستوردة للطاقة الروسية على فرض العقوبات، وتقليص اعتمادها على صادرات الطاقة الروسية.
- المبالغة في تقدير دعم الصين وجهات أخرى له.
كل هذه الأخطاء اعترف بها "دوغين"، ولهذا فإنه يرى أنه لا يوجد أمام روسيا إلا أن ترمم ثغراتها، وأن تواصل حربها.
ليست الرشا والوعود المقدمة للمتضررين من الحرب هي فقط ما يحتاجه بوتين، فهو مضطر أيضا إلى حملة تجنيد جديدة لمواصلة الحرب
لكن لمواصلة حرب بعد سنة من النتائج السيئة، لا بدّ من ضخ المزيد من الأموال، ولا بدّ من استعادة تقبل الناس لها لأنهم وقودها، وهذا ما حاوله بوتين في خطابه الأخير، إذ قدم وعوداً كبيرة، فقد أمر بعودة ضباط الجيش الذي شاهدوا الأخطاء في أوكرانيا إلى المدارس العسكرية للاستشارة والتعليم هناك، وقرر إنعاش الصناعة العسكرية في البلاد، وتشجيع البحوث الأساسية في التكنولوجيا، ورفع أجور الأساتذة، ومنح الحماية الاجتماعية لأسر ضحايا الحرب، كما أعلن عن صندوق خاص جديد لدعم العائلات المفجوعة في أبنائها، باختصار كان بوتين يقدم وعوداً تحتاج لعقود، وتحتاج لاقتصاد قوي، وهو ما لم يفعله في زمن السلم، وطوال أكثر من عشرين عاماً من وجوده على رأس السلطة، فهل سيتمكن من تحقيقها زمن الحرب والحصار والعقوبات؟.
ليست الرشا والوعود المقدمة للمتضررين من الحرب هي فقط ما يحتاجه بوتين، فهو مضطر أيضا إلى حملة تجنيد جديدة لمواصلة الحرب، وأعداد المرتزقة الذين زج بهم سواء من "فاغنر" أو من جهات أخرى(*)، وأعداد الجنود الشيشانيين الذي يجندهم تابعه "قاديروف"، والسجناء الذين زجوا أيضا في الحرب، كل هذا لن يكفي لمواصلتها وسوف يضطر لتجنيد أفواج أخرى، ولا تزال صور الطوابير الطويلة من الشباب الروس الذين تكدّسوا على الحدود وفي المطارات، بعد إعلان تجنيد 300 ألف روسي كمرحلة أولى حاضرة بقوة، فهل سيؤثر إرغام أعداد أخرى من الروس إلى الالتحاق بساحة المعركة على الشارع الروسي، ويرفض دفع تكلفة الحرب المادية والبشرية الباهظة، وبالتالي تتزعزع مواقف النخب الاقتصادية والسياسية الروسية، ويأتي التغيير من داخل روسيا.
ما بين وعود بوتين للشعب الروسي، ومآبين وعود زيلينسكي للشعب الأوكراني، تبدو معركة أوكرانيا ذاهبة إلى تصعيد قد يكون بالغ العنف، سيما وأن الطرفين يستعدان لمعركة الربيع، وكلاهما يعلن أنها حرب وجود.
(*) تحدثت عدة تسريبات عن التحاق ميليشيات تنظمها إيران بالحرب الروسية الأوكرانية، وتحدثت أخرى عن سوريين أيضا تم تجنيدهم من قبل "فاغنر"، وهم الآن يقاتلون في أوكرانيا، لكن كل هذه التسريبات لم يتم التأكيد عليها من جهات موثوقة.