تحد روسيا من أمانيها ورغباتها في سوريا، ويبدو أنها قررت سحب يدها من إعادة تأهيل "الجيش السوري"، في إطار ضمان إعادة ترتيب بقايا بيت بشار الأسد الواهن، فحولت أنظارها نحو خطط أكثر ضيقا، تاركة القضايا الكبرى لمن يرغب في اللعب، لتكون إيران أول وأكبر المرشحين لتتكفل بذلك.
في بلد منهك تماما، يبدو أن إعادة تأهيل قطاع دون آخر أشبه بضرب الماء، يخلف ارتدادات محدودة لتعود الأمور لسوئها السابق إن لم يكن أسوأ، فتحويل الأنظار نحو قطاعات تم فصل هيكليتها عن بيت العنكبوت، هو الخطة الأسلم والأكثر توافقا مع التغيرات الدولية التي طرأت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وما كشفته من وهن الجيوش النظامية مهما عظمت، وفعالية التشكيلات الصغيرة في حسم معارك كبرى.
تكشف التصريحات الآتية من طهران خلال لقاءات وزير دفاع نظام الأسد مع رئيس أركان الجيش الإيراني والقائد العام للحرس الثوري، إلى وجود نية علنية من طهران ليكون لها دور بارز في إعادة بناء جيش النظام السوري، سواء على صعيد الكوادر أم التجهيزات والمعدات، ليكون لها اليد العليا بقوة رسمية تتيح لها الحرية الكاملة غير المنقوصة أو المحددة بإطار حكومي غير موالٍ تماماً لها، كما هو الحال في لبنان وحزب الله، الذي يملك قوة عسكرية تفوق قوة الدولة إلا أن هذه القوة خارج الشرعية، بخلاف الحشد الشعبي، الذي بات اليوم هو الجيش العراقي أو الفاعل البارز فيه على أقل تقدير.
مستغلة الانشغال الروسي.. إيران "تستحوذ" على جيش #الأسد عبر مغريات لوجستية
— تلفزيون سوريا (@syr_television) January 27, 2023
تقرير: فايز النعيمي #ما_تبقى #تلفزيون_سوريا pic.twitter.com/AcWsTBWlyg
كان لدى روسيا خطط لإعادة بناء "الجيش السوري"، بدأت منذ عام 2017، أي بعد انتهاء العمليات العسكرية الكبرى، وأخذت هذه الجهود حراكا أوسع بعد توقيع اتفاق آذار 2020 بين روسيا وتركيا، والذي قضى بوقف لإطلاق النار وتثبيت خطوط الاشتباك، التي ما زالت صامدة للآن، الخطط الروسية التي بدت متخبطة مع غياب هيكلية جيش نظامي في قوات الأسد، التي تحولت إلى ميليشيات ومجموعة أقرب إلى مافيات، من دون وجود تبعية واضحة أو تراتبية عسكرية أو بنية مركزية قادرة على ضبط العمل العسكري.
يقول القائد العام للحرس الثوري خلال لقائه مع وزير دفاع النظام، إن طهران مستعدة لنقل تكنولوجيا حديثة لـ"الجيش السوري"، ووضعها تحت إطار الحرب الإلكترونية، وإن كانت الأهداف أكبر، أما رئيس أركان الجيش الإيراني، فقال إن "الجيش السوري" بحاجة إلى إعادة بناء وتدريب، وهو ما تنوي إيران تقديمه في الفترة المقبلة، قد يسبقه مناورة عسكرية ستكون في حال حصلت الأولى التي تجريها إيران علنا في سوريا.
في سياق المحاولات الروسية المتخبطة، لعبت إيران دورا أبعد من انتهاء شكل الجيش النظامي وتحويله إلى مجموعة قوات موالية للأسد، وزيادة تعقيد المشهد أمام موسكو في ظل تنافس كبير سواء من جهة اقتطاع مناطق كاملة من السلطة المركزية. اقتطاع شمل الأرض والبشر والحجر، بما فيها العناصر المسلحة، فبات للمجموعات المتشكلة من قبل إيران أو أطراف داخل النظام موالية لإيران، أسماء وقيادات لا رتب عسكرية فيها ولا علاقة بالتشكيلات التي تأخذ "النظامي" كشكل خارجي، وكثير من الأحيان إن لم يكن بغالبها أقوى من التشكيلات الرسمية، تسليحا وتدريبا، والأهم هو الأهداف منها، كما يحصل مع "قوات النمر" التي باتت تحمل اسم "الفرقة 25 - مهام خاصة".
انسحاب روسيا التدريجي من خطط إعادة تأهيل جيش النظام، قد يبنى على عدة عوامل منها: التعقيدات الولائية وغياب الأسس التنظيمية لمجموعات قتالية في سوريا، والأهم وهن روسيا شبه الكامل من العمليات العسكرية الجارية في أوكرانيا، والفشل المستمر لثاني أقوى جيش في العالم في دحر قوة محدودة، وإثبات المجموعات غير النظامية (مثل فاغنر) لقدرات تفوق قدرة جيش نووي، وغياب القدرات المادية وانهيار المخزون التسليحي للجيش الروسي، إضافة إلى قضية العقوبات والحصار المفروض على روسيا التي تمنع إرسال إمدادات لسوريا، بعد إغلاق الأجواء التركية في وجه الطائرات الروسية، وكذلك مضيق البوسفور، مما يجعل نقل أي شحنة سلاح سيكلف أمولاً وجهوداً أكبر، إن توافرت هذه الشحنات بالأصل، مع مساعي روسيا المستمرة لتأمين أسلحة وذخائر من دول أخرى كإيران وكوريا الشمالية.
مع كل ما ذكر آنفا وغيره من الأسباب، نشطت روسيا خلال العام الماضي على الأقل بتركيز كامل جهودها العسكرية في سوريا، على قوة محدودة عرفت بولائها التام لروسيا، وهي الفرقة 25 - مهام خاصة، وهي قوة أوجدت اسمها حديثا، بعد أن كانت تسمى قوات النمر، أو قوات سهيل الحسن، وهو أحد أسوأ ضباط نظام الأسد المعروف بجرائمه، ودعم روسيا اللامحدود لأي عملية يقودها، حتى بات هو القوة الضاربة الوحيدة لدى روسيا والنظام في العمليات العسكرية بمختلف المناطق السورية منذ عام 2015، وبات اليوم يمتلك قوة منفصلة تماما عن قوات النظام، على جميع الصعد، وإن كانت عملية ترفيع الحسن لرتبة لواء في سلسلة الترفيعات الأخيرة التي أصدرها بشار الأسد، ما هي إلا رسالة إلى أنه ما زال عنصرا في قوات النظام، وإن كان حتى مرافقته الشخصية من الروس.
الفرقة 25، تتابع بشكل شبه أسبوعي تدريباتها ومشاريعها التدريبية بإشراف روسي خالص، وعلى جميع أنواع القتال برا وجوا، على الحدود الفاصلة مع قوات سوريا الديمقراطية، حيث تشهد هذه التدريبات التي تنشر تسجيلات مصورة دوما، تشهد تدريبات على عمليات إنزال مظلي ليلا ونهارا، وتوّجت هذه المناورات بالأمس القريب في إعادة تفعيل مطار الجراح بريف حلب الشرقي وتزويده بمنظومات دفاع جوي تجعله بعيدا عن أي تدخل من إيران أو قوات النظام، وقد تمنحه حصانة من أي ضربات إسرائيلية بعد أن حولت إيران غالبية القواعد الجوية لتابعيتها، وأخذت هذه السيطرة شكلاً علنياً بعد تداول مقاطع مصورة على تدريبات وتجارب للطائرات المسيرة في مطار حماة العسكري.
اللعب على صعيد ضيق، أي بشكل مجموعات قد تكبر أو تصغر، يعطي لروسيا قدرة على ضمان التزامها بالتعهدات التي تبرمها مع الدول، فيلاحظ أن الغالبية العظمى من القوات التي انتشرت في شمالي الرقة والحسكة شرقي حلب، هي قوات الفرقة 25 والفيلق الخامس (المكون في العناصر التي أجرت تسوية مع النظام في المناطق التي كانت تسيطر عليها المعارضة فيما مضى وسط وجنوب سوريا)، وهذه القوات سواء الفرقة 25 أم الفيلق الخامس يخضعان للقرار الروسي، التي تحاول أن تقدم نماذج يمكن استنساخها في مناطق أخرى، وهو ما كشفته بعض التسربيات عن مقترح روسيا بأن يكون الجيش الوطني (المعارضة) تشكيلاً شبيهاً بالفيلق الخامس تحت مظلة روسية، وبضمانة تركية.
التنافس الروسي الإيراني حول المقاتلين في سوريا، شمل كل المناحي حتى الميليشيات شهدت صراعاً وسباقاً على الولاءات، وهذا ما ظهر في "لواء القدس" (وهو تشكيل من جماعة فلسطينية تعمل في حلب موالية للنظام شُكلت عام 2013)، حيث عملت روسيا بشكل كبير مع هذه الميليشيا تدريباً وتسليحاً مع تأمين التغطية المالية والأهم الجوية لعملياتها سواء في حلب أم في البادية السورية، وهو ما انتهى في العامين الماضيين بعد دخول عناصر "لواء القدس" تحت راية إيران، وباتت اليوم قوة من قواتها المتعددة التي تقول بعض الإحصائيات، إن إيران تملك أكثر من 100 ألف مقاتل منضوين تحت عشرات التشكيلات والمجموعات الواضحة، إضافة إلى العديد من التشكيلات الرسمية في قوات الأسد النظامية، التي باتت بعض قواعدها تابعة لإيران تماماً من بابها إلى محرابها، ومنها على سبيل المثال الفرقة الأولى وقيادتها في الكسوة، التي باتت الهدف الأكثر شيوعاً لإسرائيل في غاراتها المستمرة والمتواصلة منذ أكثر من عشر سنوات.