بعد شهر على نشر موقع تلفزيون سوريا تحقيقه الاستقصائي الذي حمل عنوان "تهدد حياة مليون إنسان بإدلب.. المياه الآسنة تتسلل إلى جوف الأرض والأمعاء"، والذي دق من خلاله ناقوس الخطر الذي سيضرب إدلب المكتظة بالسكان على عدة مستويات:
- تلوث آبار مياه الشرب المغذية لمدينة إدلب والقرى الواقعة بينها وبين سد كفر روحين، والتي تضم ما لا يقل عن 800 ألف إلى مليون نسمة.
- تلوث مساحة لا تقل عن 10 آلاف هكتار من الأراضي الزراعية في سهل الروج الذي يعد السلة الغذائية الأكبر لإدلب، وتضرر عشرات آلاف المزارعين في حال قررت "حكومة الإنقاذ" تفريغ المياه الآسنة نحو حقولهم.
- انتشار الأمراض المعوية والجلدية في كامل المنطقة.
لجأت حكومة الإنقاذ في إدلب إلى أحد أبسط الحلول من الناحية المادية، لكنه حل غير مجدٍ بحسب رأي عدد من المختصين الذين تحدث إليهم موقع تلفزيون سوريا في تحقيقه.
"حكومة الإنقاذ" تطلق عملية تفريغ بحيرة السد لكنها تواجه مشكلة
وزارة الزراعة والري في حكومة الإنقاذ أصدرت في الـ 15 من شباط الجاري بياناً توضيحياً لما سمّته "الجهود التي بذلتها لتصريف المياه الملوثة من بحيرة سد كفر روحين، لدرء خطر التلوث عن المياه الجوفية"
وبحسب البيان فإن الوزارة "تفاجأت بوصول المياه الآسنة مع مياه الأمطار إلى بحيرة السد في بداية فصل الشتاء".
وتحدث البيان عن جهود قامت بها المديرية العامة للموارد المائية التابعة للوزارة لفتح مفرغ السد بهدف تجفيف بحيرة السد لكن تراكم الطمي (حجارة وترسبات طينية) داخل خط التفريغ منع عملية التفريغ.
وتحدث البيان عن فشل العديد من المحاولات لفتح أنبوب التفريغ بسبب قلة الوسائل المتاحة وطول المدة الزمنية التي لم يفتح خلالها المفرغ، إلا أن الوزارة تعمل على فتح أنبوب التفريغ بطريقة الدحر مع ضغط المياه العالي لفتح مفرغ السد، وأعلنت عن نجاح هذه الطريقة وفتح مسافة تقارب الـ 60 متراً من أنبوب التفريغ البالغ طوله 95 متراً.
وتوقعت الوزارة في بيانها أن يتم فتح أنبوب المفرغ والبدء بتجفيف البحيرة نهاية الأسبوع الذي أصدرت به البيان.
وقالت الوزارة في بيانها إنها وضعت دراسات لمعالجة مياه الصرف الصحي قبل وصولها إلى بحيرة السد، وتحويل مسار المياه المعالجة خارج بحيرة السد، فضلاً عن دراسة أخرى تهدف لتحويل السد من ترشيحي إلى تخزيني.
تبديل مشكلة كبيرة بمشكلة أصغر
عملية فتح مفرغ السد كانت الخطوة الأولى لمديرية الموارد المائية في وزارة الزراعة والري، وتهدف إلى تصريف مياه الصرف المتجمعة في السد إلى مصارف المياه في سهل الروج غربي مدينة إدلب، ومن ثم توجيه مجرى الصرف إلى مفرّغ السد مباشرة بعد تجفيف البحيرة وعدم السماح لهذه المياه بالتجمع في بحيرة السد، وذلك كي تضمن المديرية عدم تسرب مياه الصرف الصحي باتجاه الحوض المائي الجوفي واتساع رقعة التلوث، وهو ما يمكن تسميته "استبدال مشكلة كبيرة بمشكلة أصغر".
على الرغم من أن عملية فتح مفرغ السد تتم بصعوبة بالغة بعد فشلها لعدة مرات سابقة، فإن المشكلة تكمن في المرحلة التي تلي فتح مفرغ السد، حيث رفض العديد من المزارعين في منطقة سهل الروج تصريف مياه الصرف الصحي باتجاه السهل، في حين أعرب بعضهم الآخر عن موافقته على عملية التصريف نحو سهل الروج كحل لتجفيف بحيرة السد فقط، وليس كحل دائم يتحول خلاله سهل الروج إلى منطقة للتخلص من مياه الصرف الصحي وما سينتج عن ذلك من مخاطر على الأراضي الزراعية والمحاصيل فيها، وعلى المياه السطحية التي تتمثل بالينابيع التي تكثر في منطقة الروج.
على الأرض تحدث مصدر خاص مطلع على جميع مراحل تفريغ السد لموقع تلفزيون سوريا عن جلسات أجرتها مديرية الموارد المائية في وزارة الزراعة والري مع عدد من المزارعين في منطقة سهل الروج الشمالي وتحديداً حول الجزء الشمالي من القناة المكشوفة لتصريف المياه الممتدة من سد كفر روحين شمالاً إلى سد البالعة جنوباً بمسافة تقدر بـ 15 كم.
وأفاد المصدر بأن عدداً من المزارعين رفضوا تفريغ مياه الصرف الصحي باتجاه المنطقة، وأن مديرية الموارد المائية ستحاول إقناعهم مجدداً، وإن لم يستجيبوا فستضعهم تحت الأمر الواقع، أي أنها ستقوم بتصريف المياه من دون إخطارهم، أو دفع تعويضات مادية لهم بحسب ما طالب بعضهم.
قناة التصريف غير مؤهلة
خلال إعداد التقرير وتتبع قناة التصريف ومحاولة الوصول إلى المزارعين الرافضين لقرار تصريف المياه، التقى موقع تلفزيون سوريا بموظف سابق في دائرة "الطابو" التي تتبع مديرية أملاك الدولة، وتحدث الموظف عن أن قناة التصريف خاضعة لاستملاك الدولة، وليست ملكاً خاصاً للمزارعين ليقرروا الموافقة من عدمها، وتحدث الموظف عن وجود مخططات رسمية توضح ذلك، لكن محاولة مديرية الموارد المائية إقناع المزارعين بالموافقة أو وضعهم تحت الأمر الواقع ربما ناتجة عن عدم معرفة المديرية بأن القناة ملك للدولة.
ويمكن تفسير عدم معرفة "حكومة الإنقاذ"، بسبب تعرض محتويات كثير من المؤسسات للتلف في أثناء وإبان السيطرة على مدينة إدلب عام 2015، وضياع الوثائق الرسمية الحكومية.
إذاً لا مسؤولية قانونية على مديرية الموارد المائية في "حكومة الإنقاذ" إن فتحت المياه باتجاه مصارف المياه في سهل الروج، لكن المشكلة تكمن في أن القناة خلال السنوات الماضية تعرضت للردم الجزئي خلال عمليات حراثة الأراضي الزراعية على جانبيها، كما أن قيام بعض مناشر الحجر بتصريف مخلفاتها نحو القناة تسبب بإغلاقها في بعض المواقع وهو الأمر الذي سيتسبب بفيضان مياه الصرف الصحي من القناة باتجاه الأراضي المجاورة إن تمت عملية تفريغ المياه من بحيرة السد قبل تأهيل مجرى القناة وفتحه بشكل كامل، وهو ما يبدو مستبعداً الآن بسبب طبيعة تربة المنطقة السهلية والتي يتعذر عمل الجرافات والآليات الثقيلة فيها خلال فصل الشتاء.
وثيقة قديمة حذرت مما حصل قبل عامين دون اكتراث المعنيين
مصادر أهلية في منطقة السد أبدت انزعاجها من البيان الذي رأت أنه يحمل تهرباً من مسؤولية الكارثة البيئية التي حصلت في منطقة السد وتسببت بتجمع قرابة نصف مليون متر مكعب من المياه الآسنة في بحيرة السد، وتسربها نحو الحوض المائي الجوفي، وتلوث معظم آبار مياه الشرب الجوفية في القرى المحيطة بالسد، فضلاً عن انتشار الأمراض الجلدية والمعوية، وحرمان سكان تلك القرى من مصدر مياه آمن.
واعتبرت تلك المصادر أن إدراج عبارة "تفاجأنا بوصول المياه الآسنة مع مياه الأمطار في بداية فصل الشتاء" في البيان، تؤكد تهرب الوزارة من المسؤولية الواقعة على عاتقها من جراء تلك الكارثة، وخصيصاً مديرية الموارد المائية في الوزارة، ويؤكد غياب التنسيق بين المديريات والوزارات في حكومة الإنقاذ.
حيث أكدت تلك المصادر أن عملية وصول المياه بدأت منذ شتاء عام 2020 وهو ما أكده نداء استغاثة صادر عن المديرية العامة لمياه الشرب التابعة لحكومة الإنقاذ والذي نشر بتاريخ 6 أيار 2020، وجاء في نصه: "نداء استغاثة، هناك احتمال تعرض مياه إدلب لكارثة تلوث حقيقية بسبب وصول مياه الصرف الصحي من محور إدلب الغربي إلى السد الترشيحي الواقع بين قرية كفر روحين وقرية مورين، لذا نناشد كافة الخيّرين في هذا العالم مساعدتنا في إنشاء محطة معالجة على هذا المصبّ علماً أن البنية التحتية للموقع جاهزة".
واختتم البيان بتوقيع المهندس محمد جمال ديبان مدير مديرية مياه إدلب.
بالعودة بالزمن إلى الوراء وتحديداً إلى تاريخ نشر نداء الاستغاثة في أيار من عام 2020، فنجد ما يلي:
- مديرية مياه إدلب دقت ناقوس الخطر للكارثة الحاصلة الآن قبل عامين، من دون اكتراث من الجهات المعنية، والتي تسببت بتفاقم الكارثة بدل الحد من وقوعها.
- مديرية مياه إدلب أعلنت وجود البنى التحتية لمحطة المعالجة التي طالبت بإنشائها، وهي موجودة على كورنيش إدلب حيث تم إنشاؤها قبل اندلاع الثورة السورية لكنها لم تجهز بالآلات، وبناؤها موجود بحالة جيدة حتى تاريخ نشر التقرير.
- حكومة الإنقاذ آنذاك لم تنشئ المحطة، رغم وجود البنى التحتية، ولم تولِ الأمر الأهمية الكبيرة على الإعلام والمناصرة حيث اقتصر الأمر على بيان مديرية المياه بإدلب.
- مديرية مياه إدلب عبر بيانها أظهرت حجم الكارثة المحتملة لكن من دون اكتراث من أي من الوزارات التابعة لحكومة الإنقاذ، حيث لم تبحث وزارة الإدارة المحلية والخدمات التي تتبع لها المديرية عن سبل لإنشاء محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي، في حين منحت وزارة التنمية الأرض للمنظمات لتبني عليها مخيمات من دون اكتراث بآلية ومكان التخلص من مياه الصرف الصحي الخارج من تلك المخيمات مما فاقم الكارثة وتسبب بتعدد مصادر مياه الصرف الصحي الواصلة إلى بحيرة السد.
- مديرية الموارد المائية في وزارة الزراعة والري لم تقم بتجهيز وتعزيل قناة تصريف المياه خلال فصل الصيف حيث يمكن للآليات الثقيلة والجرافات العمل بسهولة.
أيضاً عبر التعليقات على نداء الاستغاثة الذي نشرته مديرية مياه إدلب على صفحتها على فيس بوك والتي تغيّر اسمها إلى "المؤسسة العامة لمياه الشرب في إدلب"؛ فنجد تعليقاً على المنشور يعود للمهندس "جمعة علي" والذي علق قائلاً: "الحلّ ضخ مياه الصرف الصحي من جهة الغرب إلى الخط الشرقي والأمر سهل وميسر".
وهو نفس الحل الذي تقدّم به عدد من المختصين وذكره موقع تلفزيون سوريا في تحقيقه حول السد ضمن فقرة "هل يمكن تجزئة المشكلة وتقاسم المهام؟". حيث تحدث أحد المهندسين العاملين في محطات معالجة مياه الصرف الصحي لأعوام طويلة لموقع تلفزيون سوريا عن إمكانية إجراء عملية الضخ العكسي لنقل مياه الصرف الصحي في مدينة إدلب من المجرى الغربي المؤدي إلى وادي حج خالد وسد كفر روحين إلى المجرى الشرقي المؤدي إلى طريق بنش ومنه إلى منطقة السيحة قرب مطار أبو الظهور العسكري شرقي إدلب، وذلك باستخدام المضخات، خاصة أن المسافة بين المجريين الغربي والشرقي قصيرة لا تتجاوز بضعة كيلومترات.
ولو تم العمل بتلك الآلية قبل عامين لانتهت المشكلة كلها، لكن الفشل الإداري داخل دوائر حكومة الإنقاذ تسبب بتفاقم الكارثة بدل وضع الحلول لها، حيث استمر تصريف مياه الصرف الصحي الخارجة من مدينة إدلب باتجاه بحيرة السد، وتمت إضافة مصادر تلوث أخرى توجّه صرفها الصحي باتجاه بحيرة السد تتمثل في المخيمين التابعين لمنظمتي وطن ومرام، حيث وافقت وزارة التنمية على إنشائهما على جانبي الوادي المؤدي للسد ومنحت الأرض للمنظمتين.
وفيما يبدو أن الكارثة نحو مزيد من التفاقم منحت وزارة التنمية الأرض والموافقة لإنشاء 6 مخيمات أخرى على جانبي الوادي المؤدي للسد، أيضاً لا سبيل للتخلص من مياه الصرف الصحي في تلك المخيمات المزمع إنشاؤها إلا بتصريفها باتجاه الوادي ومن ثم بحيرة السد.
عملياً يمكن القول بأن الفساد وعدم الاكتراث تسبب بتلك الكارثة، وأن الحلول غير المجدية تسببت بإنهاء عمل سد كفر روحين كسد ترشيحي يدعم المياه الجوفية وذلك بسبب رغبة مديرية الموارد المائية في حكومة الإنقاذ بتحويله إلى سد تخزيني وهو ما يبدو مستبعداً بسبب الكلفة المادية المرتفعة جداً لتكتيم أرضية السد، وبالتالي سيتحول السد بعد فتح مفرغه إلى مجرى للصرف الصحي نحو سهل الروج.