في اللقاء الصحفي الذي جمع بشار الأسد بصفته رئيساً لسوريا، ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، بعد زيارة الأخير لدمشق، وهي الأولى لرئيس وزراء عراقي منذ 2010م، ظهر الأسد كما يظهر دائماً فاقداً لأي منطق سياسي يحتاجه أي رجل دولة.
كالعادة أعاد بشار الأسد اجترار مقولات المؤامرة الكونية، والإرهابيين الذين يهدّدون المجتمعات، ويأتمرون بأوامر جهات خارجية ، وذكرنا بالغرب المتآمر الذي لا يهمه سوى صناعة الفوضى، وإرجاع عجلة التاريخ إلى الخلف، في الدول التي تتمسك بقرارها وسيادتها، مثل سوريا، ولم ينسَ أن يعيد معزوفة التضامن العربي، ووحدة الدم العربي ودور دمشق الرائد في وحدة العرب.
باختصار وكما في كل مرة، لايفهم السوريون شيئاً، ولايستنتجون شيئاً من أحاديثه وتصريحاته، وعلى هذا المنوال أيضاً، تأتي أحاديث وتصريحات باقي المسؤولين السوريين، والتي تردد دائماً العبارات ذاتها دون أي معنى، وعندما يريدون الحديث عن الواقع الراهن، فإنهم يذهبون إلى وصف لقاءاتهم بأنها نوعية، وتاريخية، ومفصلية وتبشر بمرحلة جديدة، ويطلقون وعوداً لاتجد طريقها إلى التنفيذ، ثم لا تلبث أن تصبح مجرد ذكرى.
أما رئيس الوزراء العراقي، فقد حدد ما يمكن اعتباره محور زيارته، لكنه وكما تقتضي المجاملات، فقد أعاد ذكر الكليشيهات الجاهزة التي يستعملها المسؤولون العرب عندما يلتقون، عن التاريخ المشترك، والأخوة والحرص و..و.. دعمه لوحدة الأراضي السورية وللدولة السورية، واعتبر أن أي جيب خارج عن السيطرة داخل الأرض السورية، هو تهديد للأمن القومي العراقي والسوري، بالتأكيد لا يقصد رئيس الوزراء العراقي كل أشكال الوجود الميليشياوي الذي يتبع للحرس الثوري الإيراني، وهو يقصد "قسد" وباقي الفصائل التي تعتبر تابعة لتركيا.
بعيداً عن المجاملات، وعبارة الأخوّة والدم والتاريخ المشترك، وبعيداً عن الكلام الفضفاض حول التضامن والمستقبل الواعد، فقد أعلن "السوداني" عن ثلاث مطالب مهمة، شكّلت صلب محادثاته مع بشار الأسد، وهذه المطالب يدخل اثنان منها في صلب المبادرة العربية التي تم تبنيها سابقاً، وعلى أساسها اتخذت خطوات عديدة، مثل عودة النظام السوري إلى الجامعة العربية:
- قضية المخدرات ومنع تهريبها.
- قضية اللاجئين والعودة الآمنة لهم.
- موضوع شح المياه، والتقاسم العادل للحصص المائية من الأنهار المشتركة.
يبدو واضحاً أن معظم الحكومات العربية التي تتواصل مع مسؤولين من النظام السوري، تركز على قضيتي اللاجئين والمخدرات، وتربط وعودها للنظام بمدى التقدم فيهما، وبالتأكيد فإن أهم هذه الوعود، هو ما يتعلق بمساعدة النظام على الخروج من حالة العجز الاقتصادي المتفاقمة. لكن اللافت في الحراك السياسي العربي نحو نظام الأسد، أن أحدا لم يربط جوهرياً بين وعوده للنظام وبين أي صيغة من صيغ الحل السياسي للصراع السوري، وحتى القرار 2254 الذي ورد ذكره على خجل، في بداية الحراك العربي للانفتاح على نظام الأسد، يتم تجاهله اليوم، وهذا مانلاحظ نقيضه في البيانات الصادرة عن جهات أوروبية وأميركية، والتي لا تزال حتى اللحظة، تربط بين الحل السياسي والقبول بتطبيع العلاقة مع النظام.
هذا التباين بين موقف بعض الدول العربية وبين أوروبا وأميركا، وصل إلى ذروته في مشروع القرار الذي يتم العمل عليه لتوقيعه من قبل الرئيس الأميركي، بعد أن يحصل على موافقتي مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين، والذي يمنع بشكل صريح التطبيع مع النظام السوري وينص في أحد بنوده على أن: "سياسة الولايات المتحدة هي ألا تعترف أو تطبع علاقاتها مع أي حكومة لسوريا يرأسها بشار الأسد، وذلك من جرّاء جرائم نظام الأسد المستمرة بحق الشعب السوري، ولفشل النظام في تحقيق الشروط التي نص عليها قانون قيصر لرفع العقوبات عنه"، وينص أيضا أن "من سياسة الولايات المتحدة أن تعارض حكومتها اعتراف وتطبيع علاقات الدول الأخرى أيضاً مع أي حكومة سورية يرأسها بشار الأسد، معارضةً فاعلة ونشطة، بما في ذلك عن طريق تطبيق العقوبات الإلزامية الأولية، والثانوية المنصوص عليها في قانون قيصر بحق المخالفين".
ليست مصلحة الشعب السوري الحقيقية في انتقال سياسي يحقق تطلعاته هي التي تدفع أوروبا وأميركا ودول أخرى للوقوف في وجه التطبيع مع النظام السوري، وبالتأكيد فإن لموقفها هذا دوافع أخرى، لكن أن يكون للشعب السوري في لحظته الراهنة مصلحة تتقاطع مع مصالح دول أخرى أمر بالغ الأهمية، ويجب استثماره سياسياً، لكن هذا الاستثمار يحتاج إلى وجود طرف سوري قادر على الاستفادة من هذا التقاطع في المصالح، والأهم أن يكون قادراً على تمثيل مصالح السوريين، وهذا ما نفتقده نحن السوريين حتى اللحظة، فكل التعبيرات السياسية سواء في الداخل السوري أو خارجه، وسواء صنفت معارضة أو موالاة، هي عاجزة عن لعب هذا الدور، وهذا ما يحرج كثيراً الأطراف التي تدعم التخلص من نظام الأسد، ويقوي من الأطراف التي تدعم بقاءه.
إذا كان من مصلحة كل السوريين أن لا يتم التطبيع مع النظام السوري، لأن التطبيع يعني استعادة النظام الحالي سيطرته على سوريا بموافقة النظام الدولي، واستمرار النظام يعني استمرار المأساة السورية، ويعني أيضاً استمرار الارتهان السوري لإيران، ويعني أخيرا انسداد الأفق أمام انتقال سوريا من الاستبداد ودولة المافيا إلى الديمقراطية والدولة الحديثة، فما الذي يتوجب عليهم فعله؟
إن الضرورة القصوى للسوريين كلّهم، وبغض النظر عن كل تصنيفاتهم، في لحظتهم الراهنة إنّما تكمن بإيجاد صوت سوري يمثل بشكل حقيقي مصالح السوريين في إنهاء صيغة النظام القائمة، والانتقال بسوريا إلى صيغة أخرى، تفتح الطريق نحو دولة حديثة.
إن ما يسوقه بشار الأسد وإعلامه عن تحسن اقتصادي، ومشاريع اقتصادية و..و.. هو مجرد أوهام لن تكون واقعاً أبدا، وللتذكير فقط فإن الليرة السورية انخفضت كثيراً، وبشكل متسارع جداً، منذ أن انفتح العرب على نظام الأسد، والدولار يطرق اليوم أبواب الـ 11 ألف ليرة.