الزيارات المتتابعة لمسؤولين إيرانيين رفيعي المستوى إلى دمشق، تشير إلى قلق طهران إزاء مواقف نظام بشار الأسد مما يجري في المنطقة، وخاصة علاقته مع المحور الذي تقوده تحت شعار مقاومة إسرائيل، في ضوء مواقف النظام السلبية من حربي إسرائيل في غزة ولبنان، وسعيه للنأي بنفسه عن هذه التطورات.
وحملت مباحثات لاريجاني مستشار المرشد خامنئي، ونصير زادة وزير الدفاع الإيراني في دمشق، تطمينات ظاهرية بأن نظام الأسد باقٍ في محور إيران ويحظى بدعمها. لكن قراءة بعض المحللين لما بين السطور تشير إلى أن الضغوط التي يتعرض لها النظام من جانب إسرائيل وقوى إقليمية ودولية للابتعاد عن إيران وميليشياتها، كانت محور هذه المباحثات، حيث سعت طهران لتقديم تطمينات لنظام الأسد بأن هذه التطورات لن تحمل مخاطر جدية على وجوده، وأنها هي نفسها لا يمكن أن تدفع النظام إلى مواقف تشكل خطرًا عليه، بعدما وقفت إلى جانبه طوال السنوات الماضية ومنعت سقوطه، مع وعود بمواصلة دعمه اقتصاديًا.
وإذا كان من غير المعلوم حتى الآن فحوى العروض الإيرانية للنظام، غير أن الاستنتاجات المنطقية تدور حول سعي طهران للاحتفاظ بعلاقاتها مع نظام الأسد، وبوجود فاعل في الساحة السورية، مقابل محاولة النظام تفادي المنعكسات السلبية لما يجري على وجوده واستقراره، وسط رغبة غير خافية من جانبه للتقرب من بعض الدول الخليجية كمدخل لاستجرار مساعدات اقتصادية، وصولًا إلى انفتاح دولي عليه ورفع للعقوبات. ويدرك النظام أن علاقاته مع إيران وحزب الله قد تكون مشكلة حقيقية أمام هذه المساعي التي تدعمها في المقابل حليفته الأخرى روسيا.
الأرجح أن إسرائيل ستدعم إعادة تعويم نظام الأسد لدى الإدارة الأميركية، وتاليًا في محيطه العربي.
الضغوط المتبادلة
هل استطاعت الجهود الإيرانية إيجاد صيغة للإبقاء على زخم علاقاتها مع نظام الأسد دون تعريض الأخير لمخاطر جدية سواء من جانب إسرائيل التي تهدد النظام بشكل صريح، أم على صعيد انفتاحه على الدول العربية التي تطالبه أيضًا بتحجيم إيران في سوريا كشرط لتصعيد عملية التطبيع معه؟
من المرجح أن النظام سيحاول الإفادة من حاجة "الجميع" إليه في هذه المرحلة، ويقتنص ما يمكنه من فرص ومكافآت سواء من إيران عبر مساعدات اقتصادية أو إعفاء من الديون، أم من العرب من خلال استجرار مساعدات واستثمارات واحتضان سياسي أقوى، وصولًا إلى إمكانية عقد صفقات تحت الطاولة مع إسرائيل والإدارة الأميركية الجديدة، تدور حول ابتعاده عن "محور المقاومة" مقابل إعادة تعويمه ورفع العقوبات ضمن عملية تدريجية، لكن متواصلة ومتصاعدة.
ووفق مقال لصحيفة واشنطن بوست هذا الشهر، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل تسعيان للتعاون مع نظام الأسد من أجل تحجيم نفوذ إيران في سوريا، ومساعدته في منع إيران من الاستمرار في إمداد حزب الله بالسلاح عبر الأراضي السورية. ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أميركيين وإسرائيليين أن بشار الأسد قد يتعاون في هذا السياق لأنه أصبح مستاءً من الوجود الإيراني في العاصمة دمشق، فيما تبدو واشنطن (إدارة بايدن) مستعدة لمنح بشار الأسد بعض الفوائد إذا تمكّن من إيقاف تدفق الأسلحة إلى حزب الله، على أساس "خطوة مقابل خطوة".
وإذا كان من غير المعروف طبيعة السياسة التي سوف تنتهجها إدارة الرئيس الأميركي المنتخب حيال سوريا، فإن من الثابت، كما في التجارب الماضية، أن كل إدارة أميركية تشتق سياساتها إزاء سوريا وعموم المنطقة من سياسة إسرائيل ومصالحها. أي أن الأخيرة تستطيع إقناع إدارة ترامب بإعطاء فرصة لنظام الأسد للتخلص من النفوذ الإيراني، ذلك أن هذا النظام مريح جدًا لإسرائيل ومجرَّب على مدار عقود.
في عهده، وصلت سوريا إلى حالة متقدمة من الضعف والتفكك، ولم تعد تشكل أي تهديد لإسرائيل. وبالتالي، ليس من مصلحة إسرائيل استبداله بنظام آخر لا تعرف كيف سيكون. وإذا تم حل المشكلة الوحيدة التي تعاني منها إسرائيل حاليًا في سوريا، وهي استخدام أراضيها كمعبر للسلاح الإيراني المتجه لحزب الله، فضلًا عن النفوذ الإيراني العسكري في سوريا نفسها، وضرورة إبعاده عن دمشق والمناطق القريبة من حدود الجولان السوري المحتل، فالأرجح أن إسرائيل ستدعم إعادة تعويم نظام الأسد لدى الإدارة الأميركية، وتاليًا في محيطه العربي.
لا شك أن بشار الأسد يواجه اليوم استحقاقًا كبيرًا غير مسبوق. عليه أن يختار مصير نظامه بين التهديدات الإسرائيلية الجدية بإطاحة حكمه في حال ربط مصيره بإيران.
ولا ينبغي أن نغفل هنا أن التدخلات التي حصلت لصالح نظام الأسد، سواء من جانب إيران وميليشياتها أو روسيا، ما كانت لتتم لولا وجود مباركة إسرائيلية مباشرة أو عبر الولايات المتحدة، وذلك بهدف منع سقوط النظام، لكن مع عدم تمكينه من الانتصار الحاسم، بهدف إبقاء جذوة الصراع مشتعلة في سوريا بلا غالب أو مغلوب، وصولًا إلى الوضع الراهن، حيث البلاد ممزقة، ونظام ضعيف ومعزول، ومستعد للمساومة على كل شيء مقابل بقائه في الحكم.
لا شك أن بشار الأسد يواجه اليوم استحقاقًا كبيرًا غير مسبوق. عليه أن يختار مصير نظامه بين التهديدات الإسرائيلية الجدية بإطاحة حكمه في حال ربط مصيره بإيران، في ظل حكومة إسرائيلية متطرفة تطمح إلى إعادة رسم خطوط النفوذ في الشرق الأوسط، أو مواجهة خطر انتقام إيران منه في حال قرر التخلي عن علاقاته معها، في ظل تخلخل في العلاقة بين الجانبين لم يعد خافيًا على أحد.
هل ينجح نظام الأسد هذه المرة أيضًا في مواصلة اللعب على الحبال وإرضاء الجميع مقابل بقائه في الحكم، على حساب سوريا وشعبها ومقدراتها وكرامتها؟ أم يقرر أحد الأطراف الفاعلة أنه لم يعد جديرًا بالثقة وينبغي التخلص منه؟
الأرجح أن نظام الأسد سيتمكن هذه المرة أيضًا من العثور على صيغة ترضي إسرائيل عبر تخفيض حجم النفوذ الإيراني في سوريا، وتعاونه في منع وصول الأسلحة لحزب الله. وفي الوقت ذاته، ترضي إيران عبر الاحتفاظ بقدر من العلاقة معها لا يستفز إسرائيل، مستفيدًا من توافق أميركي-روسي-تركي-عربي على التمديد لبقاء النظام، بانتظار ما ستؤول إليه التطورات في سوريا والمنطقة.