أيام قليلة فصلت بين الإعلان المفاجئ للممثل السوري الشهير أنه سينشر رواية وبين حفل توقيعها في دمشق في آذار الماضي. قال كوسا يومئذ إنه يعلم أن معظم الحاضرين أتوا بسبب شهرته الدرامية، متمنياً ألا تخيب روايته الأولى «أكثر بكثير» ظنهم، بعد أن استغرقت منه جهداً مضنياً لأكثر من سنتين.
لا نعلم بالضبط آراء القراء الذين ظهروا في التغطيات الإعلامية مبدين لهفتهم للعودة سريعاً إلى المنزل والتهام الرواية. غير أن مقالات قليلة مادحة ظهرت عنها في الأشهر الأخيرةـ لكنها كانت انطباعية وبأقلام غير محترفة.
بطل الرواية، التي تأتي بصيغة المتكلم، رجل وحيد اسمه «مبروك»، أقرب إلى أن يكون متشرداً. تنقل بين عدد كبير من الأعمال المتقطعة التي لم يجذبه منها سوى نسج البسط على النول اليدوي، وهو ما لم يواظب عليه رغم ذلك. لم ينهِ دراسته الابتدائية لكنه «دودة كتب» كما يصف نفسه. وفي غرفته نعلم بوجود مؤلفات لابن خلدون وابن رشد وسارتر ومحمود درويش، رغم أن ما يفهمه قليل جداً بالنسبة إلى ما يقرؤه، على حد تعبيره كذلك.
لا يحضر ما يجري في البلاد إلا بطريقة مواربة. فلا نكاد نعرف أن مكان الرواية هو دمشق وزمانها هو الآن
يتحرك مبروك في بيئة شعبية من الناس «البسطاء» على الغالب، إلا أن حواراتهم تنضح بالثقافة والحكمة من دون مبرر مفهوم. يسكن غرفة بائسة من دار عربية متهالكة مكونة من أربع غرف، في كل منها مستأجرون أتلفهم البؤس والجهل والظلم. ورغم ذلك فإن جاره العتال في سوق الهال أطلق على ابنته اسم «سماح» وتكنى بها وفاء لحبيبة سابقة تعلق بها قبل أن يزوجوه، بالإكراه، ابنة عمه التي يصفها بأنها «تلك المرأة المسكينة التي لا أشعر بأي حب نحوها» لأنه لم يستطع نسيان سماح الأصلية حتى بعد أن أصبح أباً لخمسة أولاد، كما أسرّ لمبروك وهما خارجان من خمارتهما المعتادة. فلامه الأخير محاولاً أن يُفهمه أن زوجته لا تستحق هذه المعاملة السيئة لأنها «ممتلئة بندوب الحياة وتقرحاتها»، لكنْ أبو سماح يوضح أنه، هو الآخر، «يعيش في دوامة تطحن روحه». في حين يبين الجار الثالث أبو ضرغام إنه نزح من قريته هارباً «من جحيم الحرب».
لا يحضر ما يجري في البلاد إلا بطريقة مواربة. فلا نكاد نعرف أن مكان الرواية هو دمشق وزمانها هو الآن. وذلك على الرغم من أن معلّم النول كان يقول دوماً إن الأصواف والأقطان التي يستعملونها، لو غزاها العفن والعثّ، فسيتمزق البساط. لكن مبروك لم يفهم مغزى هذه الكلمات حتى قامت الحرب فقال المعلّم: «انظر ماذا يجري في البلاد. هل الأديان والطوائف والأحزاب والغرباء هم من فعلوا ذلك؟ نعم قد يكون. لكن صدّقني يا بُني، إذا قلت لك، إن البساط كان مهترئاً ويأكله العث، والعث يأكل نفسه، عندها ستكون السدّة واللحمة إحداهما أسوأ من الأخرى». فاتحاً باب رمادية الرواية على مصراعيه، فالنسيج متهالك وطرفا «النزاع» سيئان كما يعبّر مبروك: «لم يعد يعنيني من يمتلك الحق، هؤلاء أم أولئك، جلّ ما يعنيني الآن هو أن كل شيء تقريباً قد دُمِّر، حجراً وبشراً، أجساداً وأرواحاً».
إنها بلاد تطرد أبناءها. فعندما عمل مبروك في النحاس لفت نظره إيليا، الشاب اليهودي الماهر: «كن حنوناً وأنت تطرق النحاس». ولكن ما إن بدأت المودة، وكؤوس العرَق، تصنع صداقة حميمة رائعة حتى فاجأه إيليا بنيّته الهجرة إلى أميركا. موضحاً: «لو لم تكن إسرائيل على الخريطة، تلك التي لا تمثل مشيئة الرب، لما فكرت في الهجرة لحظة واحدة، أنا اليهودي الدمشقي».
بكى مبروك ومشى وحيداً في الليل الساكن، وتشاغل بقراءة آرمات الدكاكين المغلقة المتراصفة منذ قرون حتى وصل إلى المحل العتيق للخياط جورج ناصيف، العجوز الأليف الذي طالما ألقى عليه التحية. وتساءل إن كان سيقرأ على واجهته الزجاجية عبارة «هذا المحل برسم البيع» ذات يوم، ثم يكتشف أن جورج هاجر من البلاد مكرهاً، بعد إيليا، تاركاً روحه وذكرياته وصلواته؟
في مناسبة أخرى يعمل مبروك ناطوراً في بناء، حيث نتعرف إلى «أبو نضال»، أكثر سكان العمارة فظاظة وجلافة، والذي يبدو من سلوكه المتعالي وخوف الجيران منه أنه ذو وظيفة مهمة في الدولة. وذلك بخلاف «عادل السعيد»، الساكن الخمسيني الأنيق دون تكلف، ذي الوجه الوقور البشوش، الذي يدعو الناطور إلى زيارته في شقته لأنه لاحظ أنه يقرأ. لنكتشف أن عادل مثقف وأستاذ جامعي ومؤلف كتب.
يتناوب مبروك بين أستاذيه، الدكتور عادل وصانع البسط الذي يقول، وعيناه ممتلئتان ماء وحزناً: «لقد وُجِدت الأديان لتقرّب البشر... فماذا حصل؟.. في البدء انشطر كل دين على حدة.. وأصبح طوائف ونحلاً واتجاهات وحركات، وبدأ الناس كلٌّ ينتمي إلى شطر، وليس هناك من همٍّ في آخر جمجمته غير هلاك من هو خارج هذا الشطر» موضحاً أن هذا الأمر شغله في معظم حياته دون أن يجد جواباً. ويشرح لصانعه مبروك: «عد إلى التاريخ، فمنذ آلاف السنين لم تزدهر أمة على وجه الأرض عبّرت عن قوتها بالإبداع والشعر والفن والموسيقا والأفكار النبيلة، بل عبّرت عن هذه القوة بالقتل والعنف وسحق أرواح الغير وسرقتهم!!». أما سبب ذلك فهو «التملك»، كما يقول معلّم النول في استدارة يسارية مسجلة ضد مجهول.
يحار مبروك في أمره. ففي «البيوت هنا حفاة وعراة وجوعى، وهناك في المخيمات حفاة وعراة وجوعى. إنهم هم أنفسهم، لكن كل قسم منهم في اتجاه. وأنت تقف عاجزاً بين السماء والأرض». ومقابل أبي نضال يصادف شاباً عشرينياً يرتدي سترة قطنية رخيصة كُتب عليها Freedom وبنطال جينز ضيقاً وحذاء رياضياً بالياً، فبدا مظهره مثيراً للسخرية والشفقة معاً، في نظر مبروك.
يقرر بطلنا زيارة الدكتور عادل. يقرع الجرس مرات بلا فائدة، حتى أطلت امرأة عجوز من الباب المقابل وأخبرته أنه هاجر إلى كندا وترك له رسالة. ما إن فتحها حتى فوجئ بأنها تبدأ بعبارة «أخي مبروك...» ثم تتابع: «لم أجد أحداً أشكو إليه غيرك... ما كان يدفعني إلى الموت اليومي البطيء أنه عندما أدخل أرقى وأقدس مكان للعلم والمعرفة، حرم الجامعة... كان لزاماً عليّ كل يوم أن أخضع لرجل أميٍّ شرس، يبعثر أوراق حقيبتي... والذريعة حرصه على أمني وسلامة الوطن والناس!... لذلك قررت أن أغادر وأسرتي إلى مكان لا أريد له أن يعنيني في شيء... لقد هُزمت، وأنا الآن قد رفعت الراية مستسلماً. يبدو أنني لا أمتلك قوّتك».
ويذهب إلى معلّمه فيجده يلملم أشياءه كذلك، مقرراً مغادرة المهنة. فحتى «المكّوك» الخشبي الذي سعى ملايين المرات ذهاباً وإياباً ليربط اللُّحمة بالسدَّة ذهب سعيه هباءً بلا جدوى، إنه حزين»، على حدّ تعبير النسّاج العجوز الذي يتابع: «يبدو أنني قريباً سأصبح مثله وأصمت... لقد أصبحت حياتي بلا جدوى، على الرغم من أنني كنت دائماً... أتضرع إلى الرب وأطلب إليه ألا يفقدني الجدوى... لقد أهانوا العلم والطبيعة والقضاء، أهانوا الشوارع والعمارة والحيوان، وقبلها جميعاً، أهانوا الناس. وأنا لا أستطيع أن أستمر بروح مهانة وقلب خائف».
بعد رحيل سماح قرر برهان أن يغيّر حياته، فتعلم من القراءة والكتابة ما يكفي للتوقيع على المعاملات وفتح مكتباً عقارياً
وأخيراً يصل الدمار إلى الأسرة الجديدة السعيدة التي أحبها، التي جمعت «برهان»، الفرّان الذي تعرف إليه في أثناء أحد أعماله، و«سماح»، الفتاة الصغيرة ابنة جاره العتال. إثر حملها مرضت سماح فأخذها برهان إلى «الشيخ الجليل» الذي رأف لحاله وقرر أن يعطيه مصحفاً نادراً «مقروء عليه من مئة عالم مطهَّر، وقد قرأته خمس وعشرون فتاة بتولاً، وقد بخّرته بدخان شمع طاهر أحضرته من الديار المقدسة» كما يقول الشيخ الذي يوضح أن كل من قرأه يجب أن يحصل على بعض المال حسنة، مما يجعله مكلفاً جداً. يتدبر برهان أمره ويدفع المبلغ الباهظ ويبدأ بعلاج سماح وفق وصفة الشيخ؛ بأن تبتلع كل يوم نصف صفحة من الورق المبارك مع ماء مطهر. وما هي إلا أيام حتى تدهورت صحتها أكثر. ولما نُقلت إلى المستشفى، على مضض، اكتشفت الطبيبة أن الحبر سمّم دمها ودم الطفل، فماتا.
بعد رحيل سماح قرر برهان أن يغيّر حياته، فتعلم من القراءة والكتابة ما يكفي للتوقيع على المعاملات وفتح مكتباً عقارياً لأن «البلد في حالة عمران دائم» ونحن «مقبلون على مرحلة جديدة». أطلق لحية طويلة غطت نصف صدره وحمل سبحة. اعتمد القهوة المرة بدل العرَق. صار يتعامل بفظاظة وقسوة مع مستأجري البيوت التي امتلكها بسرعة غريبة، قبل أن يرشح نفسه للبرلمان.
يعود مبروك من زيارة برهان مقرراً أنها الأخيرة، «فقد كان ثمة شيء أحبه فيه، لا أدري ما هو، قد غادر». وبدوره يقرر أن ينتقل من القراءة إلى الكتابة، معنوناً نصه المنشود: «مئة عزلة في العام وأكثر... أكثر بكثير».