لينا، شتروك، زايتس، مارينا... وغيرهم من الشخصيات، هم مدار رواية "برلين تقع في الشرق" Berlin liegt im Osten للروائية نيليا فيريميه Nellja Veremej الألمانية لاحقاً، السوفيتية الأصل. صدرت عن دار (فواصل) منذ أشهر بترجمة الشاعر السوري - الألماني د. وحيد نادر.
مع أن موضوع التحول الكبير الذي عاشه العالم غداة سقوط الاتحاد السوفييتي، وانهيار جدار برلين، وتوحيد ألمانية الشرقية والغربية، كان موضوعا حاضرا بوضوح في هذه الرواية، لكن فهمنا لها ضمن الاقتصار على ذلك الموضوع سوف يكون ظلما للرواية. فالروائية تتخذ من زمن انهيار الشيوعية مرجعية لانهيارات متتالية كأصداء تتردد لذلك الانهيار. ومعنى الانهيار هنا لا ينحصر في التأويل السياسي أو الاقتصادي للحدث، وإنما هو معنى يشمل الإنسان من داخله، في صميم تكوينه الثقافي ومدى ضعفه أو ادعاء صموده، وما تبعه الانهيار من تحولات لا تجري فقط في المدن الكبرى وبين حدود الدول، وفي مقرات الأحزاب والبرلمانات، إنها تحولات البشر في حراكهم المتدفق وانتقالهم من تاريخ إلى تاريخ جديد تماما. نحن لا نقرأ رواية عن تحول التاريخ بعد انقضاء عقود من الزمن على حدوثه، نحن لا نطالعُ ذكريات سلفتْ، وإنما تضعنا الكاتبة مع ما جرى باعتباره جزءا منها يجري لها الآن في لحظة الكتابة. ولأن الكاتبة تولي الأولوية للإنسان في طبيعته واشتراطاته التلقائية المعبرة عن حريته الداخلية، حتى لو كانت حرية مقموعة أو تعرضت للتشويه؛ فهي تعرّض شخصياتها لمواقف كبيرة كانت أم صغيرة، خطيرة أم اعتيادية، فردية أم وجودية، جميعها مواقف تمتحن فيها الشخصيات سلوكها واستجابتها لأحوال تتحوّل وتتبدّل في أعلى مستويات الحياة الاقتصادية والسياسية والشخصية أيضا، فما هذه الشخصيات سوى مرايا أكثر من حقيقية تنعكس عليها أعظم تحولات السياسة والمجتمع.
تقدم لنا الروائية شخصياتها عبر أماكن وأزمنة مختلفة ومتناقضة في معناها وتفاصيلها، بما يتلاءم مع رغبتها في إظهار أثر التحولات الكبرى عليها. فلكي تقنعنا الكاتبة باختلاف الشخصيات من مرحلة إلى مرحلة ومن مدينة إلى مدينة ومن طبائع شخصية إلى أخرى، ومن نظام سياسي إلى نظام بديل مناقض، كان لا بدّ أن تنوّع في مظاهر الحياة الشخصية والمحيط الاجتماعي لأبطالها. والأبطال هنا وصف ليس تقليديا، فبعض شخصيات الرواية كانوا بالفعل كائنات شجاعة حتى في أكثر حالات ضعفها وفقدانها للتوازن، شجاعتها أتت من صدق استجابتها لتبدّل الظروف ومفاعيلها الخطيرة على الصعيد الفردي وليس فقط على صعيد المجال العامّ. حتى لو كانت هذه الاستجابة رديئة المردود على محيط الشخص نفسه، لكن الكاتبة لم تجمّل لأحدٍ كيفية استجابته ولم تتصنّع مواقف دونكيشوتية لأشخاصها، فطواحين الهواء التي تصارعها الشخصيات هنا هي طواحين هواء ملموسة وملازمة لحياة الشخص وحياة الكاتبة كما يظهر على طول مسارات الرواية، طواحين هواء يعاينها الشخص منذ قيامه من النوم حتى عودته للسرير ثانية. متعرضا لكل الأزمات والارتباكات في حياته الواقعية، سواء في مؤسسة أو عمل أو منتزه أو في موقع حربيّ تتصارع فيه قوى عالمية على مقربة من باب بيته. إنه لا يسمع في الأخبار عن طواحين هواء غامضة، بل يراها كتجربة ماثلة للعيان وقد يحاورها ويصرخ فيها وقد تؤذيه بطلقة أو تقتله. طواحين الهواء هنا هي الحياة المادية والحياة الروحية للكائن، هي صراعه مع ساعات انهيار أحلامه وتشكل هوية جديدة له لم يكن يفكر بها أو يدرك أنه منساق إليها.
الكاتبة تمتلك قدرة جليّةً على السيطرة على عالمها الروائي المعقد، يبرز هذا في عدة تقنيات فنية متداخلة من بينها كيفية التنقل من زمن إلى زمن ومن مكان إلى مكان
تشتغل الرواية على توظيف ذاكرتها وحاضرها معا في عملية تصاعدية أو تبادلية، تتوزع فيها الأحداث بين ما جرى منذ عقود وما يجري منذ دقائق أو ساعات، أو ما سوف يجري بعد قليل. لقد أسلمتْ لعبة الزمن قيادها للروائية بمهارة وذكاء فلا تكاد يلمس القارئ فواصل زمنية بين حركات الزمن المختلفة (الماضي والحاضر والمستقبل). أي أنها لا تعتمد التقطيع التقليدي لمسار الزمان، فهي تبني روايتها بناء كله غير تقليديّ ولا يتماشى مع ما قد يعرفه قارئ الرواية من أساليب في السرد وتطور الأحداث. بل إن القارئ لا يمكنه أن يتوقع إلى أين تذهب الأمور، رغم إصرار الكاتبة على الوقوف عند أصغر وأتفه التفاصيل أحيانا لكنها لا تفرط بجماليات الفنّ ولا يغريها أن تكون خيوط حكايتها واضحة لقارئ بسيط كسول.
الكاتبة تمتلك قدرة جليّةً على السيطرة على عالمها الروائي المعقد، يبرز هذا في عدة تقنيات فنية متداخلة من بينها كيفية التنقل من زمن إلى زمن ومن مكان إلى مكان، دون إظهار حواجز بين الزمنين أو المكانين، فالقارئ يخرج من مرحلة إلى مرحلة دون أن يمرّ ببرزخ تمهيدي أو بين بين، فجأة يجد أن الجملة نفسها انتقلت به من الماضي إلى الحاضر، من الاتحاد السوفييتي إلى برلين، من بيت في القوقاز أو مكان في لينينغراد إلى مكان عمل الشخصية الروائية، فجأة يجد القارئ أنه أمام عيد ميلاد كان يجري في طفولة الراوية وعيد ميلاد تصنعه الآن مع مريضها في منزله. تحريكُ الحدث من مطعم في الذاكرة إلى مطعم تجلس الآن فيه، دون أن تضطر الكاتبة لوضع حتى فواصل طباعية أو فقرات مختلفة، فهي تتعمّد هذه الطريقة الممتعة والمفاجئة في السرد، وأحيانا تتم كل تلك الانتقالات في الفقرة نفسها وليس في فقرات متتالية. إن هذا أشبه ما يكون بانتقالات موسيقيّ من مقام إلى مقامٍ من العائلة المقامية نفسها دون أن يشعر المستمع بشرخٍ أو نشاز وهو يسمع، حتى ولو لم يكن عارفا بالمقامات واختلافها، وهذا يحتاج معرفة دقيقة من الموسيقيّ بطرق الانتقال بحيث يكون سلسا خفيًّا لا يحسّ الآخرون به، أو يجدون أنفسهم وقد دخلوا حالة استماع جديدة. وهذه التقنية في الرواية تحتاج كذلك سيطرة كاملة على مكونات النص الروائي ووعي تداخلاته وتنوّع الأزمنة وتقريبها من بعضها بعضًا بشفافية وسحرٍ، والاشتغال على تنظيم ذلك بمهارة فائقة. وقد يفيد هذا في خلق سينما احترافية مؤلفة من تداخل الأزمنة والأمكنة والوجوه والطباع.
وهذا ما سمح للكاتبة، أو ما سهّل عليها، تحويل روايتها إلى حكاية معقدة مركّبة، ولكن التعقيد هنا معناه اعتماد الروائية على نسج نصوص حكائية متشابكة بعضها ببعض، تشيه صندوقا كبيرا فيه صندوق أصغر فيه صندوق أصغر منه وهكذا... إنها لعبة تشبه الحركة اللولبية للأحداث. ولأن الكاتبة أدركت هذه الحركة بانضباط هائل فهي تعطي نموذجا ممتازا لوعي فنّ الرواية، أو وعي سحر الحكي ومتعة السرد.
تقول الروائية في ص 230 “أحب القصص التي يرويها السيد زايتس، حتى لو قصّها عليّ مرات عديدة، ففي كل مرة جديدة يزداد حجم القصة، تتفتح لها عيون جديدة وتتزركش بألوان لم أرها من قبل، تلبس أوجها مختلفة، حين تتحرك الصور فيها ثم تصطفّ وتصبح فيلمًا. والحقيقة أنه فيلمي أنا، فيلمي الذي يحكي عن حياة شخص برلينيّ، ليس بالضرورة أن تتطابق حياته مع الحياة الحقيقية التي عاشها السيد زايتس”.
يكشف لنا هذا المقطع قصد الروائية ما تفعله بفنّ روايتها وبنائها، إنها تتحدث عن بعض تقنيات كتابتها وتكشف بعض أسرارها ربما لناقد أو قارئ مختصّ بالبحث ليس في الحدث والشخصيات وحسب، بل في مشاغل الكاتبة الفنية والجمالية. فهي تكتب روايتها كما ذكرت في هذا المقطع بالضبط! تملك كاميرا في رأسها، كاميرا بتقنيات عالية، قادرة على التحرك كصحن رادار في اللحظة نفسها في كل اتجاه يناديها لكي تلتقط منه تفصيلا أو حدثا أو مكانا لروايتها. ثم لا تهتمّ بمدى مطابقة ما تحكيه مع الواقع، بل إنها ينبغي أن تبتعد عن التطابق! فالجمال يكمن في تدخّلها كروائية في الأحداث، والشخصيات، لا شكّ أننا نستشف مستوى معينا من حياتها الشخصية في الرواية، فهي من مواليد الاتحاد السوفييتي، هاجرت إلى برلين الشرقية وتقيم حتى الآن في برلين، وتعمل في الواقع كعمل شخصيتها الروائية مشرفة اجتماعية في دور المسنّين، (حتى اسم الشخصية لينا في الرواية يبدو أنه مشتق من اسمها كروائية: نيليا) لكنها ليست مطالبة بتقديم توثيق حرفي لذلك. اللهم إلا حين يتعلق الأمر بتواريخ كبيرة معروفة كوقائع تاريخية، لكنها لا تقدم في النهاية عملا تأريخيا، لهذا لا تكترث لتلك المطابقة بين حياة زايتس وحياة شخص برلينيّ تؤلف عنه ذلك الفيلم – الرواية.
لقد كان الأصل الروسيّ للروائية لاعبا أساسيا في بناء الرواية كليا. لهذا سوف نرى تجارب الهجرة واللجوء وما يترتب على ذلك من غربة وتشتت في بداية الوقائع، ثم ما تتعرض له من صعوبات في الاندماج والتكيف مع النمط الألماني، لا سيما أنها تضع روايتها على أرضية التحول الذي أشرنا إليه بداية، من نظام الشيوعية بكل ما يعنيه من ثقافة وسياسة ومزاج وتقاليد، إلى نظام غربيّ نقيض لكل ما ذكر. اي أن الروائية لا تعاني كمهاجرة من مشاكل الاندماج وحدها، وإنما من المشاكل الجديدة التي نتجت عن ذلك التحول من الشرقية إلى الغربية. كانت في بداية وجودها في برلين تتجنب أبناء وطنها الروس مثلا! لأن كل مهاجر يريد أن يصبح (ألمانيًّا). لكنها تقول في مكان آخر: “حاضري، مستقبلٌ تمّ تجاوزه“ حين اندمجت وتغيرت حياتها و(صارت ألمانيّة)، بدأت تجد لذة ومتعة في استذكار تقاليد الروس وجلساتهم وطعامهم وشرابهم وأعيادهم!
كان حاضرها (الألماني) يستدعي أن تكثّف شكل الوعي الجديد للمكان وثقافة أهله المختلفة، سوف تعبر الكاتبة عن هذا من خلال العلاقة مع زايتس الألمانيّ، فهو نموذج لألمانيّ صلبٍ رصينٍ ومبرمجٍ بدقّة. رغم أنه معجبٌ بصناعة بلادها الروسية! فهو يتغنى بتقنية صناعة البرّاد السوفييتي المتقنة، وتشعر هي الروسية بأن هذا البراد يمثلها كجزء من هويتها الكاملة أمام هذا الألمانيّ الذي لا يصدّق الأميركان ولا صعودهم للقمر! سوف تؤكد الكاتبة على رفض هذه الروسية لانتقاد الغرباء لبلادها السوفييتية قبل السقوط، حتى لو كانت الانتقادات على صواب! فهذه الحياة التي يتم انتقادها هي حياتها هي وبني قومها وليست حياة الغرباء. بينما هي لها الحقّ أن تنتقد ما جرى لبلادها فهذا أمر مسوّغ لأنها أحقّ من الغرباء. وتقول عن الألمان: “كان الألمان غرباءنا“.
الرواية غنية بإظهار تقاليد وثقافة الألمان في الأعياد والطعام والتسوق والنزهات... إلخ. ترصد الكاتبة ذلك بتشويقٍ مكثف وفنية ساحرة. بل يمكن القول إن هناك نصّا ثقافيا أنثربولوجيا متضمنا داخل النص الروائي.
وبين لغة الحرب وخطابها التدميري المذلّ، ولغة الحبّ ومتطلباتها، تقيم الكاتبة معظم مبناها الروائيّ لتحكي حكايات الناس في عشقهم وشهواتهم وارتباكهم.
رواية لا تنسى حقا، تهيأ لها مترجم شاعر سوري ألمانيّ هو د. وحيد نادر، الذي استطاع بحرفية وجمالية نادرة أن ينقل لنا أدقّ اللحظات النفسية والوجدانية مهما كانت موغلة في محليتها وخصوصيتها، مما يدل على إدراكٍ وافٍ للكون الروائي للكاتبة، إضافة إلى معرفة مباشرة بمرجعية المجتمع الألمانيّ وثقافته وتفاصيله الخفية.