صباح كل يوم إثنين، يبث راديو "روزنة" السوري حلقة جديدة من مسلسله الإذاعي الجديد "برا وجوا"، الذي أنتجته الراديو بنفسها وأخرجته مديرة الراديو التنفيذية لينا الشوّاف عن نص للكاتبة السورية ريما فليحان.
المسلسل ينتمي لنمط الدراما الاجتماعية ذات السياق المتصل- المنفصل، وبحسب توصيف موقع "روزنة"، فإن المسلسل "يحكي بنفسٍ طريف عن شتات السوريين داخل البلد وخارجه"، ويلعب أدوار البطولة فيه الممثلون: يارا صبري، محمد آل رشي، لويز عبد الكريم ونوار بلبل. وبحسب تصريحات كاتبة المسلسل، ريما فليحان، فإن المسلسل قد أنتج منه 30 حلقة، ومن الممكن أن يمتد وتزداد عدد حلقاته وأن تُنتج منه عدة أجزاء.
وفي لقاء حصري أجراه موقع تلفزيون سوريا مع كاتبة المسلسل ومخرجته، تمت مناقشة العديد من القضايا المتعلقة بالعمل، أولها القالب الفني الذي تم اختياره للمسلسل؛ فلماذا تم إنتاج العمل بقالب الدراما الإذاعية بعد أن باتت معظم الإذاعات السورية مؤخراً، بما فيها "روزنة"، تقدم برامجها بالصوت والصورة من خلال منصات مواقع التواصل الاجتماعي، فهل يعتقد صنّاع المسلسل أن الجمهور السوري يميل إلى هذا الشكل من الفن؟
في هذا السياق، تقول المخرجة لينا الشواف: "إن تطور الأشكال الفنية أو منصات العرض لا يؤدي إلى إلغاء الأشكال الفنية الكلاسيكية، ومن ناحية أخرى فإن المستقبل في الميديا العربية متجه نحو عالم البودكاست، لذلك فإن إنتاج المسلسلات الإذاعية لا يعتبر أمراً غريباً".
أما الكاتبة ريما فليحان، فتقول: "بصفتي كاتبة سيناريو، أتمنى أن يتم تقديم نصي كمسلسل تلفزيوني، لكن العثور على جهات منتجة تهتم بإنتاج دراما تلفزيونية هو تحد كبير يعيشه الكتاب المعارضون". وتضيف فليحان: "الكتابة للدراما الإذاعية هي تحد من نوع خاص خضته في (برا وجوا) للمرة الأولى، فهي تختلف عن الكتابة للدراما التلفزيونية، التي تعتمد على توصيف حيثيات المشهد البصري والحوار. أما المسلسلات الإذاعية فهي تعتمد على توصيف المؤثرات الصوتية والحوار، وهي مختلفة وممتعة، لأنها تعطي مساحة للمستمعين ليلعبوا دور المخرج، فكل منهم يتخيل الشخصيات ويرسمها بطريقته".
في المسلسلات الإذاعية عادةً، يتم الاعتماد على بنية درامية واضحة، تلتزم غالباً بقاعدة الوحدات الثلاث الكلاسيكية (وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الموضوع) لأن تلقي المستمع للحكاية من خلال الاعتماد على الحوار والمؤثرات البصرية وحدها. لكن مسلسل "برا وجوا"، يعتمد على بنية معقدة تبدو غير ملائمة للدراما الإذاعية، فعلى الرغم من بساطة الحكاية والالتزام بوحدة الموضوع في كل حلقة، إلا أن الدراما تبدو مشتتة، لأن الأحداث تدور في مكانين متباينين، بالداخل والخارج، وتتداخل المشاهد ببعضها بعضا من دون أن تكون للحكايات التي تدور بمكانين منفصلين أي صلة ببعضها بعضاً؛ لتؤدي هذه التعقيدات إلى التشويش على المستمعين. تعقب الشواف على ذلك فتقول: "المستمع يجد صعوبة بالتلقي إذا لم يكن الإخراج أو النص جيدين بما فيه الكفاية، فإذا كانت كل الأصوات والمؤثرات الصوتية مدروسة بشكل جيد، فلن يضيع المستمع حتى ولو كانت بنية الحكاية معقدة. لذلك فإن الجهد الذي نبذله، ينصب على صناعة عمل درامي يجعل المستمع يشعر وكأنه داخل المشهد من خلال المؤثرات الصوتية. ربما قد يشعر المستمع بالتشتت لأنه تعوّد على مسلسلات إذاعية بسيطة، تعتمد على ديوتو أو إلقاء الدعابات أو مواقف درامية بسيطة فقط؛ لكن فعلياً يمكن أن يستمتع المستمع بعمل درامي أكثر تعقيداً".
تضيف فليحان: "في كل حلقة من حلقات المسلسل يكون الموضوع واحدا، ولا أعتقد أن المستمع سيضيع فيها، خصوصاً أن الحكايات تشبه الواقع الذي يعيشه السوريون اليوم؛ فالبيئة السورية منقسمة الآن بين الداخل والخارج، وجميع السوريين يعرفون هذه الفكرة، ويمكنهم فهم المكان الذي تدور به الأحداث من خلال بعض الكلمات التي ترد فيه، فعندما تتحدث الشخصيات عن انقطاع الكهرباء أو نقص في الغذاء، فسيفهم الجمهمور أن المشهد يجري داخل سوريا، وعندما نسمع صوت قطار مثلاً سيعرف الجمهور أن المشهد يجري في الخارج. وأعتقد أنه يجب علينا أن نثق بذكاء المستمعين، خصوصاً أننا نزودهم في الحلقة الأولى بعلامات فارقة لتمييز كل شخصية".
وفقاً لفليحان، يبدو أن المستمع يجب أن يكون سورياً ليتمكن من فهم تقطيعات المكان وتداخل الحكايات المتشابكة في المسلسل، لكن فليحان ترى أن ذلك غير صحيح، حيث تقول: "قضية السوريين معروفة في كل مكان، وخصوصاً بالنسبة للجمهور العربي وفي البلاد التي تعيش أوضاعاً مشابهة ويهاجر سكانها إلى أوروبا، كاليمن والسودان والعراق وغيرها. وبالنسبة لي لا أرى أن تعقيد حكاية عمل درامي هو أمر يعيبه أو يحد من انتشاره، وأنا لا أستطيع أن أكتب عملا دراميا بسيطا لا يهدف إلا لإضاعة الوقت، وإنما يجب أن أكتب عملاً يحمل هم الناس وآلام السوريين، بغض النظر عما إذا كان العمل مسموعا أو مرئيا، فهو يجب أن يحمل رسالة هادفة للجمهور".
لكن فعلياً كان من الممكن أن تصبح بنية المسلسل بسيطة ولا تؤدي لضياع الجمهور، لو أن المشاهد في المسلسل رُتبت بطريقة مختلفة، بحيث لا تتداخل مشاهد الداخل مع مشاهد الخارج، وإنما تتعاقب فقط؛ على غرار المسلسل السوري "2×2" الذي ينتمي للنمط المتصل– المنفصل أيضاً، والذي تضم كل حلقة منه حكايتين منفصلتين يجمعهما موضوع واحد، لكن الحكايات لا تتداخل وإنما تتعاقب.
وفي مسلسل "برا وجوا"، يصعب تحديد بطل العمل أيضاً، فليس هناك أي شخصية محورية قادرة على جذب الجمهور ليتماهوا معها، في المسلسل ككل أو حتى في كل حلقة على حدة. وعند السؤال إذا ما كان الأمر مقصوداً، أجابت فليحان: "لا يوجد بطل في المسلسل، فجميع شخصياته أبطال، مثل كل سوري، سواءً خارج سوريا أو داخلها؛ هو البطل في المعاناة التي يعيشها في محاولة الانسجام والتأقلم مع البيئة الجديدة. أو التي يعيشها ليحاول الصمود في بيئة معادية له داخل سوريا؛ فالبيئة داخل سوريا معادية لكل سوري، وكل سوري قادر على أن يعيش اليوم في سوريا هو بطل، وكذلك السوريون في الخارج يعيشون التحديات بصورة مختلفة وعلى درجات متفاوتة من الآلام والأوجاع".
تعقب الشواف: "لا يوجد بطل واحد. الأفلام الأميركية وقصص الأطفال تعتمد على بطل واحد، ولكن الأعمال الهامة التي تحصد الجوائز، هي الأعمال الأقرب للواقع، والتي لا تمتلك بطلا واحدا. وما أردنا صناعته هو مسلسل واقعي، وفي الواقع لا يوجد بطل واحد".
عادةً ما نعيب على الدراما التي ينتجها النظام، بأن جميع الشخصيات فيها تصطف إلى ذات الجانب، وتقدم الحكاية من وجهة نظر أحادية. ومسلسل "برا وجوا" يبدو أنه وقع في الفخ ذاته لأن الشخصيات كلها تتحدث بذات المنطق وتحمل ذات الفكر والوعي السياسي؛ هو فخ لم تقع فيه الشواف في تجربتها السابقة، أي المسلسل الإذاعي "بسمة صباح". تعقب الشواف على ذلك: "نعم نقل مسلسل (بسمة صباح) أكثر من وجهة نظر، من خلال وجود شخصية موالية للنظام وفي الجيش السوري الإلكتروني في العائلة المحورية بالمسلسل. لكن في مسلسل (برا وجوا) وصلنا لوضع مختلف، فالهموم اليومية أصبحت همّ السوريين الأساسي، ونلاحظ اليوم أن الانقسام بين موالين ومعارضين تراجع كثيراً، حيث إن الناس البسطاء الموجودين على الأرض في الداخل، والذي يعانون من نقص الكهرباء والخبز والبنزين، تراجع اهتمامهم بالمواقف والحياة السياسية لأنهم يبحثون عن الحد الأدنى من الحياة. وفي الخارج أيضاً، فإن الغالبية العظمى أصابها الملل وتريد أن تعيش وأن تتعلم وأن تسعى للمستقبل".
من جانبها، تقول فليحان: "الموقف الأخلاقي ليس بروباغندا، يجب أن نتفق على هذه الحقيقة. لذلك لا يمكن مقارنة مسلسلات النظام التي تروج لبروباغندا كاذبة وتبرر وحشيته، التي دانتها كل تقارير الأمم المتحدة وتقارير المنظمات الحقوقية العالمية، بالمسلسلات التي تقف موقفا أخلاقيا ضد النظام. عدا ذلك، فإن مسلسل (برا وجوا) لا يوجد فيه إشارات سياسية حادة. كما أنني في المسلسل أنتقد المعارضة، ذلك ستشاهدونه مع الشخصيات الهامشية الموالية التي ستظهر في الحلقات القادمة، والتي ستنقل وجهة نظر الموالين الذين سافروا إلى الخارج؛ لكن موقفي السياسي النابع من جذر إنساني، لا يمكن أن أتخلى عنه، وهو الموقف الذي يدفعني للقول إن السوريين في الداخل وفي الخارج موجوعون".
لكن إذا كانت كل الشخصيات في المسلسل ضحايا، فأين تكمن الدراما؟ وما هو الصراع الدرامي الذي نعايشه في المسلسل؟
تجيب فليحان بقولها: "إن الصراعات الدرامية في المسلسل هي التحديات اليومية التي تعيشها كل شخصية، فكل شخصية تعيش صراعا لإثبات وجودها وتحقيق هدفها بالحياة؛ هو ليس صراعا أخلاقيا وإنما صراع لتحقيق الحاجات الأساسية التي يحتاجها كل إنسان، وهي غير موجودة في سوريا، بالإضافة للصراع المرتبط بطبيعة العلاقات الإنسانية بين الناس اليوم بسبب الشتات، ولأن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت هي مفتاح العلاقات بين الأفراد داخل وخارج سوريا".
وتستطرد: "بالتأكيد لا نريد أن نقول أن حال السوريين في الخارج أفضل، فما أحاول قوله في المسلسل إن السوريين في الخارج يعيشون تحدياتهم ومشكلاتهم الخاصة أيضاً، وكذلك السوريون في الداخل". وتختم الشواف بالقول: "نريد أن ننقل معاناة السوريين في الداخل والخارج، هم جميعهم متعبون؛ من يعيش في الخارج يحسد من بقي بالداخل، ومن يعيش بالداخل يحسد من ترك البلد".