لكثرة ما غرق سوريون في البحر الأبيض المتوسط، أصبح من الواجب تسميته "بحر سوريا". لكثرة ما صرخ السوريون واستغاثوا، وهم يغالبون موج البحر الأبيض المتوسط، أصبح من الواجب تسميته "نشيد الموت السوري".
لكثرة ما بكت عيون السوريين، وهي تترقب وصول أحبتهم الذين غامروا بعبوره إلى بقية حياة، بعد أن حول الطغاة حياتهم إلى موت، أصبح من الواجب تسميته "ملحمة البحث السوري عن الحياة".
وأنت تتابع دامع العين، ومفجوع القلب، تفاصيل غرق مئات السوريين قبل أيام قبالة سواحل اليونان، تتمنى لو أنك قادر على إغراق هذه البشرية كلّها، فلم يعد للكلمات معنى ولا للصراخ ولا لأي شيء آخر، فما يحدث أكبر من الكلمات، وأبعد من القهر والجريمة والانتقام.
ستشعر بحلقك يابساً، وأنك تغرق في يأس تذوقت مثله مراراً، لكنه مختلف هذه المرة، يأس لا يشبه أي يأس آخر، يأس بزبد وموج وملح، وستتذوق الطعم شديد المرارة للخذلان وللخديعة، وستتمنى مرة أخرى لو أنك قادر على إغراق هذه البشرية، مرة أخرى... وأخرى.
إلى متى ستبقى حياة السوريين مباحة ومهدورة، وإلى متى سيبقى السوريون يغمضون أعينهم على فجيعة، ويفتحونها على فجيعة أقسى وأمرّ؟
لم يتجرأ السوريون على إعلان حزنهم أو تعاطفهم مع مئات سوريين آخرين قضوا غرقاً. إلى هذا الحد الفاضح استطاع النظام السوري أن يقمع السوريين الذين يعرفون جميعهم حد اليقين من الذي أرغم هؤلاء على ركوب البحر
الفاجع أكثر من كل هذا، هو إرغام السوريين على الصمت حيال موتهم وموت أشقائهم، ففي الوقت الذي كان فيه آلاف المتظاهرين يصرخون في شوارع أثينا، محتجين على سياسة الاتحاد الأوروبي اتجاه اللاجئين، ومطالبين بمحاسبة من تسبب بهذه الكارثة، مما أجبر الحكومة اليونانية على إعلان الحداد لثلاثة أيام، كان التجاهل والصمت يلف كل المناطق التي تسيطر عليها عصابة الأسد، لكأنّ من ماتوا ليسوا سوريين، ولا يشاركوننا الدم، والهوية، والوطن، والقهر، والحلم!
لم يتجرأ السوريون على إعلان حزنهم أو تعاطفهم مع مئات سوريين آخرين قضوا غرقاً. إلى هذا الحد الفاضح استطاع النظام السوري أن يقمع السوريين الذين يعرفون جميعهم حد اليقين من الذي أرغم هؤلاء على ركوب البحر، فركبوه رغم يقينهم أنهم قد لا يصلون، والذين يفكرون كل يوم، كما فكر من ابتلعهم البحر كيف يمكنهم الخلاص من جحيم الأسد؟ وأنهم ما بين احتمال الموت البطيء المؤكّد، واحتمال الموت مع فسحة قد تكون للحياة، لا يوجد سوى خيار وحيد.
عندما حاصر الجيش السوري في بدايات الثورة السورية مدينة درعا، وقام سوريون بإصدار بيان يطالبون فيه بفك الحصار، وإدخال المواد الغذائية إلى المدينة، سارع النظام للتشهير بمن وقعوا على البيان، وأرغم بعضهم على الظهور على شاشات التلفزة معتذراً، كان النظام يومها يؤسس لمنع تعاطف السوريين مع بعضهم بعضا، فقد كان يعرف أنه سيذهب بعيداً في تجويع السوريين، وفي إخضاعهم وإذلالهم، وإن تعاطف السوريين مع بعضهم بعضا سيُشكل قوة لن يستطيع مواجهتها، وبالتالي ليس مسموحاً لها أن تتشكل.
لم يتجرأ مثقف سوري، أو فنان سوري، أو أي شخصية عامة ممن يعيشون في مناطق سيطرة النظام، على الاحتجاج على كل الجرائم الفظيعة والمخزية التي ارتكبها النظام
هل تتذكرون كيف قتل النظام السوري مئات السوريين؟ لا لشيء، إلا لأنهم ساعدوا سوريين آخرين نزحوا مرغمين من بيوتهم، وأن أطباء عُذّبوا حتى الموت، فقط لأنهم أسعفوا جريحاً أصيب في مظاهرة ضد النظام
لم يتجرأ مثقف سوري، أو فنان سوري، أو أي شخصية عامة ممن يعيشون في مناطق سيطرة النظام، على الاحتجاج على كل الجرائم الفظيعة والمخزية التي ارتكبها النظام، وكانوا يهربون إلى مفرداتهم الممجوجة حول فبركة الخبر، أو كذبه، أو ممارسة العصابات الإرهابية له، رغم وضوح كل شيء، من حصار درعا إلى تدمير بابا عمرو، إلى استخدام السلاح الكيميائي، مروراً بعشرات المجازر الطائفية البشعة، ونهب الممتلكات، وصولاً إلى مجزرة التضامن الصادمة، والتي تجلّل بالعار كل صامت عنها.
إنه الإذلال، الإذلال حد السحق، فلا كرامة، ولا رأي ولا ضمير، فقط خنوع يائس مغمّس بقهر لا حدود له، وحياة بعيون مطفأة، وأرواح مهزومة مشوهة، أي حياة هذه؟!
كيف استطاع الإذلال المديد أن يجعل من مجتمع يعيش في القرن الواحد والعشرين، ويعيش على تواصل مع البشرية وأحداثها، ولم يعد بالإمكان عزله، مجتمعاً خاضعاً وبلا أي قدرة على الفعل، وأي نظام سياسي هذا الذي يجد الإذلال وسيلة وحيدة للسيطرة والإخضاع؟!
لم يستعمل النظام السوري القانون كناظم لعلاقات السوريين فيما بينهم، كما يحدث في معظم دول العالم، لقد ذهب إلى قانون ومعيار آخر صنعه ورسخه، فجعل الولاء له، وتبني كل ما يفعله ويقوله كأنه الحقيقة الوحيدة، وهو المعيار والقانون الوحيد لدى السوريين، ودعم معياره هذا بأن جعل من يخالفه لا يخاف فقط من العقوبة والسجن وغير ذلك، بل يخاف أيضاً من التشهير، والتخوين، ومحاصرة الشبيحة والمنتفعين له.
اليوم وبعد كل ما حدث، وبعد انكشاف عري النظام وكذبه، وبعد أن لمس السوريون باليد ورأوا بالعين حقيقته، هل يمكن القول إن الصمت عنه هو نتيجة الخوف والإذلال فقط، أم أن هناك ما هو أبعد من الخوف والإذلال؟
إذا كان هناك من حقيقة لم تعد قابلة للنقاش، ولم يعد بالإمكان المواربة في مقاربتها، فهي أن هذا النظام خاطئ في كل شيء، وكاذب في كل شيء، وأن رفضه جملة وتفصيلاً أصبح بوصلة واضحة، لا يُمكن لأي سوري أن يكون سوريا إلا وفقها.