قبل أكثر من عام، قرر الرئيس الأميركي جو بايدن رفع جماعة الحوثي عن قائمة الإرهاب ووقف الدعم العسكري الأميركي لعمليات التحالف العربي الذي تقوده السعودية في اليمن. وسوّق المسؤولون في إدارته هذا القرار في إطار مساعي واشنطن لمنع تفاقم الوضع الإنساني في اليمن ودفع مساعي التسوية السياسية. بعد مرور نحو عام، لم يتحقق أيٌّ من تلك الأهداف، لا بل على العكس. ارتفعت وتيرة المعارك في اليمن خلال العام الماضي بشكل ملحوظ. كما شن الحوثيون سلسلة هجمات على الإمارات للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب وصعّدوا من عملياتهم الهجومية على السعودية. اضطرت إدارة بايدن مؤخرا إلى إرسال مقاتلات من الجيل الخامس إلى الإمارات لإظهار دعمها لحلفائها في الخليج. كما تُخطط في الوقت الراهن لإعادة وضع الحوثيين على قائمة الإرهاب. تُظهر السياسة التي ينتهجها بايدن في المنطقة العربية تردداً أميركياً في مواصلة الانخراط بفعالية في صراعات المنطقة التي لا تنتهي. ما يزيد الأمر تعقيداً بالنسبة للولايات المتحدة أنها لم تعد تولي أهمية كبيرة لهذه المنطقة، وقررت التركيز بدلاً من ذلك على تحديات في مناطق أخرى من العالم كمواجهة الصعود الصيني. مع ذلك، فإنها تبدو عاجزة عن التخلي الكامل عن التزاماتها الأمنية تجاه حلفائها في المنطقة.
المشكلة الأميركية في ملف الإرهاب موروثة من عهد الرئيس باراك أوباما عندما قرر شن حملة بقيادة التحالف الدولي على داعش في سوريا والعراق دون التعامل مع الأسباب الجوهرية التي أدّت إلى صعود التنظيمات الراديكالية
علاوة على ذلك، فإن تخفيف الانخراط الأميركي في المنطقة لم يحل دون بروز تحديات أخرى لإدارة بايدن لم تكن محسوبة كالأزمة المندلعة مع روسيا بشأن أوكرانيا. وبينما يُحاول بايدن التعاطي بجدية مع مساعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في أوروبا الشرقية، فإنه يواجه مأزقاً كبيراً في كيفية التعاطي مع المعضلة العربية. عندما وصل إلى الحكم، وضع نصب عينه تخفيف الانخراط الأميركي في قضايا المنطقة. مع مضي أكثر من عام على توليه السلطة، يجد بايدن نفسه مجبراً على إعادة تقييم هذه السياسية بعدما أدّت إلى نتائج عكسية. ففي حرب اليمن، أدت سياسته إلى تحفيز الحوثيين على تصعيد عملياتهم العسكرية لاعتقادهم بأن الولايات المتحدة لم تعد راغبة في مواصلة دعمها لدول الخليج. وفي سوريا أيضاً، يواجه بايدن معضلة أخرى. ففي وقت يسعى فيه لإبقاء الولايات المتحدة بعيدة عن هذا الصراع، إلاّ أن سياسته تُعطي نتائج عكسية كذلك. فمن جانب، شرعت بعض الدول العربية في إعادة علاقاتها مع نظام الأسد رغم اعتراض واشنطن. ومن جانب آخر، لا تزال التهديدات التي تُشكلها التنظيمات الراديكالية تُمثل خطراً.
في الواقع، فإن المشكلة الأميركية في ملف الإرهاب موروثة من عهد الرئيس باراك أوباما عندما قرر شن حملة بقيادة التحالف الدولي على داعش في سوريا والعراق دون التعامل مع الأسباب الجوهرية التي أدّت إلى صعود التنظيمات الراديكالية والمتمثلة بالمنظومة السياسية الحاكمة في دمشق وبغداد. سيقع بايدن في نفس الفخ إذا ما اعتقد أن مواصلة التركيز على مكافحة الإرهاب من دون إيلاء أهمية لمعالجة الأسباب الجوهرية للمشكلة ستؤدي إلى نتيجة جيدة للولايات المتحدة والمنطقة. على صعيد آخر، أدّى الفراغ الذي أحدثته سياسة بايدن إلى إفساح المجال أمام قوى أخرى منافسة لواشنطن للاستفادة منه من أجل تعزيز حضورها. في الأشهر الأخيرة، كشفت وسائل إعلام أميركية أن السعودية تعمل على تطوير صواريخها البالستية بمساعدة الصين وأن بكين تعمل على بناء قاعدة عسكرية سرية لها في الإمارات. في تقييم للسياسة الخارجية لبايدن في المنطقة، فإن هذه السياسية غير واضحة باستثناء الملف النووي الإيراني. تمكنت واشنطن من إعادة طهران إلى طاولة المفاوضات مع الغرب لإعادة إحياء الاتفاق النووي لعام 2015. مع ذلك، فإن هذه المفاوضات تواجهها عقبات عديدة. وفي ظل تصلب موقف إيران واتخاذها خطوات في زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم، بدأ المسؤولون الأميركيون يتحدّثون بصوت أعلى عن خيارات أخرى للتعامل مع إيران في حال فشل المفاوضات.
يقع بايدن في نفس الفخ الذي وقع فيه أوباما عندما اقتصر تفاوضه مع الإيرانيين على البرنامج النووي دون البحث في الدور الإيراني المزعزع للاستقرار الإقليمي. هذه السياسة منحت طهران جرأة أكبر في سياساتها الإقليمية. يعمل الحوثيون على تصعيد هجماتهم في الخليج أكثر من أي وقت مضى. وفي العراق، تضاعفت هجمات الفصائل الموالية لطهران على المصالح الأميركية مقارنة مع فترة ما قبل بايدن، في حين يسعى حزب الله إلى تعزيز هيمنته على لبنان. وعلى الرغم من أن الإدارة الأميركية تسعى لتسهيل بعض المشاريع لدعم لبنان في مواجهة الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعيشها كالموافقة على مشروع لإيصال الغاز المصري إليه عبر سوريا بمعزل عن العقوبات الأميركية، فإن إيران تنظر إلى ذلك على أنه ضعف أميركي في مواجهة نفوذها في لبنان. علاوة على ذلك، فإن هذا النهج ترك أعضاء الكونغرس من كلا الحزبين، والذين سعوا إلى محاسبة الأسد على جرائم الحرب التي ارتكبها، يتساءلون بصوت عال عن سبب دعم إدارة بايدن لهذا المشروع الذي تقوم به دول عربية تسعى لإعادة تأهيل نظام الأسد.
لقد تسببت سياسة بايدن بإرباك كبير في الشرق الأوسط والخليج على وجه التحديد، ودفعت بالسعودية والإمارات إلى البحث عن سبل أخرى للحد من تداعيات تراجع الدور الأميركي على مصالحها الأمنية والجيوسياسية. في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، اضطر الرئيس بايدن إلى التحدث أكثر من مرة مع نظيره المصري عبد الفتاح السيسي لمساعدته في إبرام تهدئة لإنهاء الحرب. كان ذلك متناقضاً مع وعد أطلقه بايدن قبل وصوله للسلطة تمثل في معاقبة السيسي على انتهاكات حقوق الإنسان في مصر. لكنه لم يستطع تحقيق هذا الوعد. وفي ليبيا، لعبت الولايات المتحدة دوراً مهماً في إبرام اتفاق المرحلة الانتقالية وتشكيل حكومة جديدة. مع ذلك، فإن الانتخابات التي كان من المفترض أن تُجرى نهاية العام الماضي لم تحصل. وبقدر ما أدى الانخراط الأميركي في التسوية الليبية إلى فتح آفاق جديدة للأزمة الليبية، فإن تراجع هذا الانخراط يحد من هذه الآفاق ويفسح المجال أمام القوى المحلية التي تتضرر مصالحها من التسوية لاستعادة دورها المعرقل لعملية الحل.
منذ الاجتياح الأميركي للعراق في 2003، لم تعرف السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة وضوحا في الاتجاهات
في واشنطن، من السهل جداً على مرشحي الرئاسة إطلاق كثير من الوعود الجريئة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية تجاه منطقة الشرق الأوسط. لكنه في اليوم الذي يلي وصول أحد المرشحين للبيت الأبيض، تبرز الفجوة الكبيرة بين الوعود والواقع. منذ الاجتياح الأميركي للعراق في 2003، لم تعرف السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة وضوحا في الاتجاهات. لقد أدى هذا الغزو إلى تعزيز هيمنة إيران على البلد. وعلى الرغم من أن الرئيس باراك أوباما سعى في ولايته الثانية إلى لعب دور أقل في الشرق الأوسط، فإنه وجد نفسه أمام معضلة صعود الإرهاب. وخلال حقبة ترامب، تسببت سياسته الفوضوية في اضطرابات غير مسبوقة بين حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. بالنظر إلى أن بايدن سبق أن عمل نائباً لأوباما، فهو مطلع بشكل كبير على طبيعة المنطقة وتعقيداتها. رغم ذلك، يبدو عاجزا عن التصرف بما يلبي وعوده الانتخابية من جهة، وحماية المصالح الأميركية من جهة أخرى. إن الإدمان الأميركي على الانخراط في صراعات المنطقة يصعب علاجه مع بايدن أو بدونه.