في الثاني والعشرين من شباط، وعقب حلقة استثنائية من برنامج (ستون دقيقة) الذي تبثه قناة (سي بي اس) الأمريكية، خرج وزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكين بتصريح جديد حول مجازر النظام التي نفذها بالسلاح الكيماوي، مشيراً إلى أن "النظام السوري استخدم مراراً وتكراراً الأسلحة الكيميائية ضد شعبه، وفشل في التعاون مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في الإفصاح عن مخزونه من هذه الأسلحة وتدميرها"، وأكد أنه "لا يوجد أي نوع من الحصانة والهروب من العقاب الذي ينص عليه القانون الدولي فيما يتعلق باستخدام الأسلحة الكيميائية"، كما ذكّر بأن روسيا قدمت المساعدة الدبلوماسية والعسكرية إلى النظام لمواصلة هذا "السلوك المدمر".
تصريح رأى فيه الكثيرون أنه يدشن استئنافاً جديداً لموقف أميركي مستمر مما يجري في سوريا، يقوم على أن واشنطن تنزعج فقط إذا ما ارتُكبت الجرائمُ باستخدام السلاح الكيماوي، وهنا يمكن استحضار الكثير من المحطات المؤلمة على هذا الصعيد، لعل أشهرها على الإطلاق خط أوباما الأحمر التعيس الذي كان يعتبر أن استخدام هذا السلاح من قبل النظام ستتم مواجهته بقوة، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، واكتفى الرئيس الأميركي الأسبق بعقد صفقة بواسطة روسية تقضي بتسليم نظام الأسد سلاح الجريمة دون أي محاسبة.
يكشف هذا التصريح، حسب منتقديه، فشل الولايات المتحدة حتى على مستوى إلزام النظام بتنفيذ الاتفاق الذي جرى توقيعه عام 2014، إلى حد أنه بعد أكثر من ست سنوات لا زالت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية عاجزة عن تطبيقه، لكنه حسب آراء أكثر تشاؤماً، فإن بلينكين يجدد في الواقع تصريحاً منسوباً لسلفه الأسبق جون كيري بهذا الخصوص.
ينقل عن كيري أنه قال لنظيره الروسي بعد أولى هجمات الكيماوي في سوريا ما مضمونه، أنه "إذا كان المعارضون بهذا السوء الذي تتحدثون عنه، فلتتم مواجهتهم بكل الأسلحة إلا الكيماوي"!
تصريح لا يمكن استبعاده بالنظر إلى معطيات كثيرة تعضده، ولا تحتاج لإعادة التذكير بها، خاصة مع استمرار عدم ظهور تفاصيل كامل الاتفاق بين كيري ولافروف حول سوريا، الموقع عام 2016، رغم التسريبات التي صدرت حوله.
لا تقف إدارة بايدن عند حد التوازنات في توجهات مسؤوليها الخارجيين الذين تم اختيارهم لإدارة ملفات الشرق الأوسط، بما يعطي إيحاءات متساوية لكل الأطراف والدول في هذه المنطقة، بل تجاوزتها في هذا التوجه إلى تعيين موظفين من أصول مختلفة في الإدارة الجديدة.
بالمقابل هناك من رأى في تصريحات بلينكين الأخيرة مؤشراً إيجابياً، أولاً لجهة عودة الاهتمام الأميركي بالملف السوري، وثانياً لكونه يؤكد على عدم سقوط جرائم النظام الكيماوية على الأقل بالتقادم، وثالثاً لجهة دمجه بين مسؤولية روسيا والنظام عن هذه الجرائم.
إلا أنه حتى مع افتراض ذلك، فإن هذا التصريح يشير إلى أن الإدارة الأميركية الحالية ليست بوارد تغيير استراتيجيتها في سوريا، القائمة على "إدارة الصراع وليس حله" كما أكد رئيس الائتلاف الوطني المعارض نصر الحريري يوم الأربعاء الماضي.
الحريري الذي انتقد السياسة الأميركية في التعامل مع الأزمة في سوريا، قال إن الولايات المتحدة "تعاملت مع الملف السوري من باب إدارة الأزمة وليس البحث عن حلول جذرية لها". وأضاف: "نحاول العمل مع الإدارة الأميركية الجديدة على مجموعة من العناصر السياسية القائمة على أن تكون استراتيجية واشنطن محددة وواضحة وتنسجم مع المخاطر الجسيمة في المنطقة وتضمن الأمن والاستقرار المستدام في سوريا".
إذاً حتى الآن لا أحد يعرف عن التوجهات الأمريكية حول الملف السوري الكثير، ولعل من المهم الإشارة هنا إلى أن الجميع يعتمد على التعيينات والأسماء التي يعلن عن تسميتها في هذه الإدارة لفهم توجهات الرئيس الجديد جوزيف بايدن فيما يتعلق بالشرق الأوسط، لكن خبراء السياسية الأميركية يرون في هذه التعيينات استمراراً لسياسة سلفه باراك أوباما خاصة لجهة إدارة الصراع في سوريا وليس العمل على حله، مقابل تركيز مطلق على تجديد الاتفاق النووي مع إيران، والحفاظ على الوجود الأميركي الرمزي في سوريا والعراق، بهدف عدم منح موسكو وطهران، وكذلك الأتراك فرصة التفرد بالمنطقة.
فمقابل تعيين روبرت مالي مبعوثاً خاصاً بالشأن الإيراني، وهو المعروف بإعجابه بإيران ودعمه الواسع للتعاون معها، عيّن بايدن وزير الخارجية أنتوني بلينكين لإحداث توازن على هذا الصعيد، ليبدأ الاثنان سباقاً محموماً من أجل سحب ملف إيران إلى أدراج مسؤوليته، خاصة مع بروز مواقف من الأخير تشير إلى عدم حماسه لتقديم أي تنازلات إلى طهران، ويمكن إلى حد ما أن تنسحب هذه الرؤية على موقف كل منهما فيما يخص تركيا والسعودية والعالم العربي بشكل عام.
لا تقف إدارة بايدن عند حد التوازنات في توجهات مسؤوليها الخارجيين الذين تم اختيارهم لإدارة ملفات الشرق الأوسط، بما يعطي إيحاءات متساوية لكل الأطراف والدول في هذه المنطقة، بل تجاوزتها في هذا التوجه إلى تعيين موظفين من أصول مختلفة في الإدارة الجديدة.
فلأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة يتم تعيين مسلمة محجبة، هي سميرة فيزالي، نائبة مدير المجلس الاقتصادي القومي في البيت الأبيض، وهي المسلمة الثانية من أصول غير عربية بعد الإيرانية آرين طبطبائي، بالإضافة إلى الموظفتين من أصول عربية، وهما دانا شباط، ذات الأصول الأردنية، التي سميت مستشارة أولى للشؤون التشريعية، والفلسطينية الأصل ريما دودن، المسماة نائبة لمدير مكتب البيت الأبيض للشؤون التشريعية.
مغازلة الجميع وإظهار الاهتمام بالكل.. هذه هي رسالة إدارة بايدن إلى منطقة الشرق الأوسط الواضحة حتى الآن على الأقل، وذلك على حساب استراتيجية تشتغل لحسم الملفات العالقة التي يعتبر عدم اتخاذ واشنطن موقفاً واضحاً تجاهها هو ما أبقاها مفتوحة حتى الآن رغم كل تكاليفها الباهظة بالنسبة لشعوب المنطقة وأمنها ومستقبلها.. فهل سيستمر بايدن في إرسال الأطباء إلى هذه المنطقة المريضة، لكن دون أن يزودهم بأي علاج؟