قَدِم إلى إسطنبول لاجئاً مع أسرته الصغيرة، هارباً من دمار نظام الأسد وآلة حربه، في أواخر عام 2015. وما إن أتمّ تأمين أبسط وسائل ومقومات الإقامة والعيش الكريم، راح يبحث عن مقرّ الأرشيف العثماني، الذي كثيراً ما حلم بتفحّص مخطوطاته المحفوظة منذ عشرات ومئات السنين بعد أن قرأ عنه وعما يحتويه من وثائق مهمة تخص مدينته المنسيّة وسوريا ومعظم البلاد العربية؛ قرأ وسمع الكثير عنه خلال سنيّ عمله في الكتابة البحثية والتعليم داخل مدينته الوادعة في شرق سوريا قبل أن يبلغها الدمار.
اليوم، وبعد انقضاء ما يقرب من 5 سنوات، استطاع الباحث أحمد السلامة القيسي أن يرفد المكتبة العربية والتركية بخمسة كتب قيّمة واستثنائية، لن نبالغ إن صنفناها بين كتب المصادر التاريخية المعروفة، إذ تضمنت حقائق وتفاصيل تاريخية تذكر لأول مرة، ولم تمرّ عليها كتب المؤرخين وأبحاثهم ورحلاتهم ومذكّراتهم.
في مستهل الحوار، يروي القيسي لموقع "تلفزيون سوريا" حكاية تهجيره بدلالة مقتضبة تعبّر عن حالة باتت أشبه بالمسلّمة لدى عموم السوريين، فيقول: "مثلي مثل ملايين السوريين الذين نزحوا وهُجّروا من ديارهم بعد ثورة آذار 2011، ولعل مدينة دير الزور كانت من بين أولى المدن التي تعرضت لدمار شبه كامل، وكان بيتي من بين شواهد ذلك الدمار".
وخلال سنوات الثورة الأولى نزح القيسي مع أفراد أسرته من مدينة إلى مدينة، ومن قرية إلى أخرى حتى انتهى بهم المطاف في إسطنبول، التي يصفها بأنها "مفترق القارات ومدينة المآذن وعاصمة العالم، ولعل وجودي فيها بالذات هو أكثر ما واساني بفقدان بيتي وبلدي".
ويشير أن وجود مركز الأرشيف العثماني العريق في إسطنبول، كان يمثّل السبب الرئيس في اختياره اللجوء إليها والإقامة فيها بخلاف أبناء منطقته الذين آثروا المقام في الولايات الجنوبية من تركيا. ويصف القيسي في حديثه مدى اهتمامه بمتابعة أخبار الوثائق العثمانية التي كان يحصل عليها من هنا وهناك بصورة محدودة خلال سنيّ عمله في الكتابة والتعليم في بلده، وقراءة كل ما يتعلّق بها وبصور مخطوطاتها "التي كنا نجهلها ونجهل مضامينها الثمينة للأسف قبل سنوات الثورة" بحسب تعبيره.
ويعتبر أرشيف رئاسة الوزراء التركي أضخم أرشيف وثائق في العالم، إذ يبلغ عدد وثائقه بين 150 إلى 200 مليون وثيقة، ويتم التعامل معها باهتمام بالغ، حفاظاً عليها من التلف الذي قد يصيبها بمجرد ارتكاب خطأ بسيط في الإجراءات المعتمدة خلال عملية الاطلاع والتصوير والنسخ. كما ويشترط المركز على روّاده توافر بعض المعايير من بينها ثبوتيات شخصية رسمية وشهادات أكاديمية أو بطاقات جامعية وخلاف ذلك.
إلا أن القيسي تمكّن من الولوج إلى مركز الأرشيف العثماني الواقع في منطقة (كاغيت هانة) في إسطنبول، رغم افتقاره لجواز سفر وأوراق رسمية كونه دخل لاجئاً عبر الحدود، بمساعدة صديق قام بمهاتفة مدير الأرشيف شارحاً له اهتمامات الباحث والظروف التي تعرّض لها. ويعلّق القيسي بالقول: "صراحةً لم أكن أظنّ أن المدير سيوافق بهذه البساطة، إلا أنه كان أروع مما توقعت، فقد وافق فوراً على السماح لي بدخول مبنى الأرشيف ومنحي بطاقة خاصة على موجب الكيملك".
ويستطرد شارحاً الصعوبات التي واجهته في الأيام الأولى: "بدأت تظهر الصعوبات تباعاً، وكان أولها التقنية لا سيما مع عدم إتقاني للّغتين التركية والعثمانية، لكني كنت مصراً على تجاوز ذلك بالخضوع لدورات تعلم اللغة العثمانية والتركية خلال نفس الفترة التي كنت أرتاد فيها المركز، وبقيت مستمراً في استخراج الوثائق وتفحّصها وترجمتها حتى هذا التاريخ".
وبعد أن كانت رغبته محصورة في بادئ الأمر بنسخ وجمع الوثائق الفريدة، وقعت بين يديه وثائق كثيرة ذات مضامين تاريخية نادرة ولافتة تتعلّق بمنطقة حوض الفرات الأوسط، ما دفعه للعمل في التأليف معتمداً على معلومات الوثائق والمخطوطات الأرشيفية.
وركّز الباحث اهتمامه الأول على الوثائق المتعلقة بمحافظة ديرالزور، "وهو أمر بدهي" يقول القيسي ثم يتابع: "لأنها مدينتي وقرأت ما كتب عنها في التاريخ، وكنت أشعر دائماً بوجود الكثير من المغالطات والحلقات المفقودة. ولدى اطلاعي على المخطوطات والوثائق وفّقت بالحصول وثائق فريدة تتناول تاريخ المحافظة (وديرالزور في الوثائق الإدارية في الأرشيف العثماني ليست كما نعرفها اليوم، بل كانت أقرب ما يكون لإقليم واسع يضم العديد من المدن والمحافظات الحالية).
مع متابعته العمل في التأليف، الذي دخل عامه الخامس، يؤكّد القيسي بأنه وصل لنتائج مرضية ومهمة لإعادة كتابة تاريخ منطقته بحسب ما جاء من معلومات في تلك الوثائق المحفوظة بعناية فائقة.
وبعد جمع مئات الوثائق، بدأت مرحلة كتابة سلسلة من المؤلفات تتحدث عن تاريخ محافظة ديرالزور، وكانت تحمل مسمى (لواء الزور) في الوثائق العثمانية بحسب القيسي الذي أفاد أيضاً بأن اسم (لواء الزور) أو (سنجق الزور) أو (متصرفية الزور) هي أسماء لديرالزور، وكلها تحمل ذات المعنى.
وتناولت السلسلة في جزئها الأول وثائق (مركز اللواء)، وهي مدينة ديرالزور. أما الجزء الثاني فتناول وثائق أقضية ونواحي اللواء، والمقصود بها ريف المحافظة، والجزء الثالث والرابع عن وثائق عشائر اللواء، أما الجزء الخامس فخُصص للحديث عن وثائق شخصيات وأحداث اللواء.
وقد تمت طباعة الجزء الأول والثاني والثالث، والعمل الآن جار في الجزء الرابع والخامس.
وخصص القيسي جزءاً من الحوار مع موقع "تلفزيون سوريا" ليستعرض بعض الجوانب التاريخية في المنطقة لم يتم تسليط الضوء عليها في مؤلفات المؤرخين، مع تأكيده على أن غالبية ما قام بجمعه وأرشفته وتحقيقه وترجمته يعتبر جديداً على تاريخ المنطقة عموماً ولم يتم التطرق له مسبقاً.
ومن بين تلك الجوانب ما يتعلّق بالشأن السياسي، إذ تذكر بعض الوثائق بأن دير الزور كان يوجد فيها انتخابات كاملة عند نهاية القرن التاسع عشر.
كما نشطت جمعيات سياسية مثل جمعية الاتحاد والترقي، في بداية القرن العشرين، وبينت الوثائق أيضاً وجود أعضاء فيها من أبناء مدينة ديرالزور، وقد حصل أعضاء كثيرون منهم على مكافآت من جمعية "الدونمة" التركية وأسماؤهم موجودة.
وفي الشأنين الجغرافي والاجتماعي، تعتبر مساحة لواء الزور والأقضية التابعة له، بحسب خرائط الأرشيف التي حصل عليها القيسي، أكبر من مساحة ولاية الشام (دمشق) وولاية حلب!
كما بينت الوثائق وجود مخططات لمشروع يهدف لاستصلاح الأراضي على نهر الخابور، ويعد من أهم مشاريع الاستصلاح في الدولة العثمانية، لكنه لم ينفذ بسبب الحرب العالمية الأولى وانسحاب العثمانيين. وجميع تلك المخططات موجودة وموقعة للتنفيذ.
وأثناء بحثه في الأرشيف، عثر القيسي على مخطوط لكاتب يدعى "محمد هلال أفندي" وكان يعمل قاضيًا في اللواء عام 1867، وحمل ذلك المخطوط عنوان "لقاطات الذهب في آثار العرب" واحتوى مؤلفاً عن لواء الزور، فقام بترجمته وتحقيقه وتمت طباعته خلال العام الماضي في دار البشير في مصر.
وبناءً على طلب من مركز التاريخ العربي للنشر، أعدّ الكاتب كراساً مصوراً عن أماكن وجود الوثائق العثمانية في إسطنبول، حمل عنوان "دليل الأرشيف العثماني في إسطنبول" وتمت طباعته هذا العام في مدينة غازي عينتاب التركية.
سألنا الباحث والمؤلف أحمد السلامة القيسي إن كان يشعر بالرضى الداخلي عن عمله، وهل لمس تفاعلاً إيجابياً من المحيط، أشخاصاً كانوا أم مؤسسات، فأجاب:
"أشعر بالرضى الكامل والحمد لله، فجميع أعمالي وأبحاثي هي نتاج جهد شخصي أعتز به، ولا يتبع لأي جهة حكومية أو منظمة أهلية، وسأشعر بأن عملي قد أثمر بالكامل حين يتمّ الله نعمته عليّ لمتابعة نشر السلسلة ثم الانتقال إلى وثائق بقية المحافظات السورية".
وكان القيسي قد دعي للمشاركة في العديد من الندوات واللقاءات التلفزيونية وكتب عنه في مختلف وسائل الإعلام. كما تم تكريمه من قبل "المركز الثقافي الآسيوي" بشهادة تقدير في مجال الكتب والمصنفات المتخصصة في الدراسات العثمانية، بالإضافة إلى نيله شهادة الدكتوراه الفخرية من قبل جامعة "سليمان الدولية" في أنقرة
وقبل ختام الحوار، وجّه القيسي عبر موقع "تلفزيون سوريا" رسالة دعا فيها أبناء الوطن المغتربين والمهجرين "بأن يبذلوا أقصى جهدهم في سبيل التفوق والنجاح وإعطاء الصورة المثلى لبلدهم وأنهم أهل لحمل رسالة العلم والمعرفة والحضارة".
ورفع تحية شكر إلى أرشيف رئاسة مجلس الوزراء لتقديم كل التسهيلات له ولجميع الباحثين في الأرشيف العثماني، وللسيد "توران قلاقشجي" الذي وصفه المؤلّف بـ "صديق العرب والسوريين" على مساعدته ووقفته، بالإضافة لجميع المراكز البحثية والثقافية والقائمين عليها وللاتحاد الدولي للمؤرخين ولجامعة سليمان الدولية، لما قدموه من دعم وحفاوة وتكريم.
وختم القيسي بالقول: "وللإعلاميين أصحاب الرأي والفكر الحر والجريء والعمل الجاد، وأخص بالذكر العاملين في كلّ من موقع وقناة سوريا؛ لهم منا كل التقدير والشكر على اهتمامهم وتغطيتهم لإنجازات السوريين، ونأمل أن يظلّوا منبراً حراً وطنياً صادقاً رغم كل التحديات والعراقيل.
-
سيرة ذاتية
الاسم: أحمد عبد المنعم السلامة القيسي
مواليد : سورية – دير الزور – 1966
- الدراسة : كلية شريعة للدراسات الإسلامية
- باحث في الأرشيف العثماني في تركيا
- عضو الاتحاد الدولي للمؤرخين
- عضو مؤسس لمركز التاريخ العربي للنشر
- حائز على جائزة المركز الآسيوي للدراسات التاريخية
- مشارك بورشات تحقيق المخطوطات في جامعة الإلهيات في إسطنبول
- عضو جمعية العاديات للتراث الإنساني
- له العديد من المقالات والأبحاث في صحف ودوريات سورية وعربية.
- أنجز موسوعة تاريخية من خمسة أجزاء بعنوان (لواء الزور في الوثائق العثمانية) صدر الجزء الأول من دار أطلس بيروت والجزء الثاني من دار المركز العربي للتاريخ والجزء الثالث من دار أروى الكويت، والعمل جار لإصدار الجزء الرابع والخامس.
- صدر له كتاب "لقاطات الذهب في أثار العرب" – ترجمة وتحقيق
- إعداد كتاب "دليل الأرشيف العثماني في إسطنبول".