أعادت المبادرة، التي طرحها دولت بهشلي زعيم القوميين الأتراك وحليف الرئيس رجب طيب أردوغان، لإنهاء الصراع التركي مع حزب العمال الكردستاني وضع المسألة الكردية على أجندة السياسة التركية. بالنظر إلى الدور المؤثر، الذي لعبه صعود مشروع الحكم الذاتي للوحدات الكردية في سوريا في انهيار عملية السلام بين تركيا وحزب العمال منتصف العقد الماضي، فإن إحياء هذه العملية أو إنتاج حل جديد للمسألة الكردية في تركيا سيكون له انعكاسات مؤكدة على الحالة الكردية في سوريا. يبدو من المبكر تقييم هذه الانعكاسات المحتملة لسببين رئيسيين أوّلهما أن أفق نجاح مبادرة بهشلي ما يزال غير واضح لاعتبارات عديدة، وثانيهما أن الصراع التركي مع الوحدات تُشكله مجموعة من الديناميكيات المعقدة التي تتجاوز قضية حزب العمال الكردستاني.
مع ذلك، لا يُمكن عزل الانفتاح التركي على إنهاء الصراع مع الحزب عن تحولات السياسة التركية في السنوات الأخيرة وعن التحديات الجديدة التي تفرضها اضطراب الشرق الأوسط في حقبة ما بعد حرب السابع من أكتوبر على تركيا وسياستها السورية. إن الاعتقاد السائد، ويبدو واقعياً إلى حد كبير، أن مبادرة بهشلي مُصممة من قبل التحالف الحاكم في تركيا لتحقيق مجموعة من الأهداف من بينها حاجة أردوغان إلى فتح مسار حوار مع حزب المساواة وديمقراطية الشعوب الكردي للتعاون في مشروع تعديل الدستور، وتحويل التحديات المزمنة والمستجدة المحيطة بتركيا وسياساتها في سوريا والعراق إلى فرصة لمعالجة المسألة الكردية في الداخل وإنهاء المُشكلة الأمنية التي يُشكلها وجود حزب العمال الكردستاني في سوريا والعراق لتركيا. على عكس إشكالية وجود العمال في شمال العراق، والتي نجحت أنقرة إلى حد مُعين في تقويض تأثيرها الأمني عليها، فإن المُعضلة التي تُمثلها الوحدات الكردية في سوريا أكثر تعقيداً وخطورة عليها.
لا يُمكن عزل الانفتاح التركي على إنهاء الصراع مع الحزب عن تحولات السياسة التركية في السنوات الأخيرة وعن التحديات الجديدة التي تفرضها اضطراب الشرق الأوسط في حقبة ما بعد حرب السابع من أكتوبر على تركيا وسياستها السورية
فمن جانب، تُدير الوحدات الكردية بحكم الأمر الواقع مناطق "الإدارة الذاتية" في شمال سوريا، والتي أسست أرضية قوية لمشروع الحكم الذاتي الكردي. ومن جانب آخر، أتاحت "الإدارة الذاتية" هامشاً جديداً لحزب العمال الكردستاني لممارسة نشاطه المسلح ضد تركيا انطلاقاً من شمالي سوريا ولتعزيز تواصله الجغرافي بين سوريا والعراق. على غرار الهجوم الأخير، الذي استهدف مقر شركة لصناعات الفضاء في العاصمة أنقرة، فإن معظم الهجمات التي شنتها حزب العمال ضد تركيا في السنوات الأخيرة، نفذها انطلاقاً من الأراضي السورية. علاوة على ذلك، فإن حقيقة الديناميكيات المعقدة، التي تُشكل الصراع التركي مع الوحدات الكردية وتتداخل فيها سياسات كل من روسيا وإيران والولايات المتحدة في سوريا، تُقوض في الواقع من قدرة أنقرة على التعامل بفاعلية مع مُعضلة الوحدات الكردية. إلى حد مُعين، استطاعت تركيا من خلال عملياتها العسكرية، التي شنتها في سوريا بين عامي 2016 و2019، إنهاء مشروع الوحدات بربط مناطق سيطرتها بين شرق الفرات وغربه، لكنّ الحضورين الروسي والأميركي في معادلة الشمال السوري، وإشكالية الصراع السوري بشكل عام، ما يزالا يُشكلان عائقاً رئيسياً أمام أنقرة لإنهاء مُعضلة الوحدات.
حقيقة الديناميكيات المعقدة، التي تُشكل الصراع التركي مع الوحدات الكردية وتتداخل فيها سياسات كل من روسيا وإيران والولايات المتحدة في سوريا، تُقوض في الواقع من قدرة أنقرة على التعامل بفاعلية مع مُعضلة الوحدات الكردية
يُمكن النظر إلى الانفتاح التركي على إعادة تطبيع العلاقات مع نظام الأسد على أنه مُصمم بدرجة رئيسية لتوسيع الهامش المتاح أمام أنقرة لإنتاج سياسة أكثر فعالية في إضعاف مشروع الحكم الذاتي الكردي في شمال سوريا. كما أن الانعطافة التي أحدثتها أنقرة في علاقتها مع العراق مؤخراً مُصممة كذلك للتعاون مع بغداد ودمشق في مكافحة حزب العمال في سوريا والعراق. مع ذلك، يُظهر الانفتاح التركي على معالجة الصراع مع حزب العمال استراتيجية جديدة لأنقرة في التعامل مع هذه القضية، وترتكز على ثلاثة عناصر. إيجاد أفق للسلام الداخلي من خلال مبادرة بهشلي، وزيادة الضغط العسكري على حزب العمال وفرعه السوري في سوريا والعراق، وإيجاد تفاعلات جديدة مع بغداد ودمشق للضغط على خيارات العمال والوحدات الكردية. وبالإضافة إلى هذه العناصر، تهدف الاستراتيجية التركية إلى زيادة الضغط على الوجود العسكري للولايات المتحدة في شمال شرق سوريا وعلاقتها بالوحدات الكردية.
يُظهر الانفتاح التركي على معالجة الصراع مع حزب العمال استراتيجية جديدة لأنقرة في التعامل مع هذه القضية، وترتكز على ثلاثة عناصر. إيجاد أفق للسلام الداخلي، وزيادة الضغط العسكري على حزب العمال، وإيجاد تفاعلات جديدة مع بغداد ودمشق
حتى مع ضعف أفق إحداث تحول في علاقات أنقرة مع النظام السوري في المستقبل المنظور، فإن انفتاح أردوغان على الحالة الكردية الداخلية ومحاولته إشراك زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون عبد الله أوجلان في مشروع الحل الجديد والتعاون التركي العراقي في مكافحة حزب العمال، إلى جانب الشكوك المحيطة بمستقبل الدور الأميركي في سوريا في حال فوز الرئيس السابق دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في الخامس من نوفمبر تشرين الثاني المقبل، تُقوض جميعها من خيارات وحدات حماية الشعب. لقد أبدى مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية ترحيباً بالانفتاح التركي على إنهاء الصراع مع حزب العمال وتوقع أن تكون له آثار إيجابية على صراع تركيا مع الوحدات. مع ذلك، فإن العقبات الكبيرة التي تواجه عملية السلام المحتملة بين أنقرة وحزب العمال، تجعل أي تحول مستقبلي على الحالة الكردية السورية مرهوناً بدرجة أساسية بآفاق هذا الانفتاح.