أسفرت الجولة الأخيرة من عملية التصويت داخل ملتقى الحوار الليبي في جنيف يوم الـ 5 من شباط 2021 عن فوز القائمة التي تضم كلًا من محمد يونس المنفي رئيسًا للمجلس الرئاسي، وعبد الله حسين اللافي وموسى الكوني نائبين له، وعبد الحميد محمد الدبيبة رئيسًا للوزراء، بأغلبية أصوات أعضاء الملتقى.
وقد جاءت نتائج التصويت مفاجئة لكثيرين في الملتقى، الذي يعدّ أهم المبادرات السياسية لإنهاء الانقسام السياسي والمؤسساتي في ليبيا بعد اتفاق الصخيرات. ولذلك، يتوقع أن يواجه الفريق الجديد غير المدعوم مباشرة من قوى وازنة على الأرض صعوبات كبيرة في المرحلة المقبلة.
من الحوار إلى الانتخاب
انطلقت الجولة الأولى من ملتقى الحوار السياسي الليبي، بإشراف بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، في تونس، في الـ9 من تشرين الثاني 2020، بمشاركة 75 شخصية؛ بينهم 13 من أعضاء مجلس النواب، ومثلهم من أعضاء المجلس الأعلى للدولة، بينما توزعت بقية الشخصيات على أطياف قبلية وسياسية مختلفة. ورغم التحفظات العديدة التي واجهت بعض المشاركين، والتشكيك في قدرتهم التمثيلية، فقد تمكن الملتقى، خلال خمسة أيام، من الخروج بخريطة طريق لمرحلة انتقالية؛ تتضمن توحيد السلطة التنفيذية المنقسمة منذ عام 2014، والشروع في تطبيق حزمة من الإجراءات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية؛ تنتهي بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية تفضي إلى إرساء مؤسسات حكم دائمة خلال عام 2021.
تواصلت أعمال ملتقى الحوار السياسي الليبي، بعد الجولة الأولى المباشرة التي جرت في تونس، عبر تقنية الفيديو، حيث توافق المشاركون، بعد تجاذبات، على معايير اختيار شاغلي المناصب القيادية في السلطة التنفيذية الجديدة؛ وهم رئيس المجلس الرئاسي ونائباه ورئيس الحكومة، لينتقل بعدها المشاركون إلى جنيف في الأول من شباط لحضور الجولة الأخيرة من الملتقى، التي خصصت للاستماع لكلمات المرشحين لمناصب رئيس المجلس الرئاسي ونائبيه ورئيس الوزراء، وأفضت إلى إعلان الفريق الجديد الذي سيقود المرحلة الانتقالية إلى حين إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، بحسب خريطة الطريق التي توافق عليها المشاركون.
آلية الانتخاب
أقرت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، بالاشتراك مع اللجنة الاستشارية للملتقى، آلية معقدة، نسبيًا، للترشّح والتصويت تفاديًا للفشل في انتخاب قيادة للمرحلة الانتقالية
أقرت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، بالاشتراك مع اللجنة الاستشارية للملتقى، آلية معقدة، نسبيًا، للترشّح والتصويت تفاديًا للفشل في انتخاب قيادة للمرحلة الانتقالية أو فوز فريق لا يتوفر على الشروط التي توافق عليها أعضاء الملتقى في جولة تونس والمتمثلة في اختيار رئيس للمجلس الرئاسي من الشرق ونائبين له من الغرب والجنوب ورئيس وزراء من الغرب. ووفق هذه الآلية، فشل جميع المرشحين لرئاسة المجلس الرئاسي في الحصول على العدد المطلوب من الأصوات، في الجولة الأولى من التصويت، التي جرت في الـ3 من شباط 2021، رغم أن كلًا من رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، وعبد المجيد سيف النصر، تصدروا الترتيب على مستوى أقاليم الشرق والغرب والجنوب.
كما كان متوقعًا، أدى فشل التصويت على الأفراد في حسم المنافسة إلى الانتقال إلى مرحلة التصويت على القوائم، حيث اشترطت الآلية التي أقرتها بعثة الأمم المتحدة أن تضم كل قائمة أربعة مرشحين، وأن تستجيب تركيبتها لما تم التوافق عليه سابقًا في أن يكون الرئيس من الشرق ونائباه من الغرب والجنوب ورئيس الوزراء من الغرب. وأفضت التزكيات والتحالفات إلى تقدّم أربع قوائم للمنافسة في جولة الاقتراع التي جرت في الـ5 من شباط. وشهدت المرحلة الثانية من الاقتراع انسحاب خالد المشري من السباق رغم حصوله على صدارة الترتيب على مستوى مرشحي المنطقة الغربية في الجولة الأولى، واجتماع أربع شخصيات مهمة في المشهد السياسي والعسكري الحالي في قائمة واحدة؛ هم رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ووزير الداخلية في حكومة الوفاق فتحي باشاغا، وآمر المنطقة العسكرية الغربية أسامة الجويلي، والسياسي الجنوبي عبد المجيد سيف النصر.
لم تفلح أي من القوائم الأربع المترشحة في الحصول على 60% من الأصوات؛ وهي النسبة المطلوبة للفوز في المرحلة الأولى من التصويت على القوائم، بينما حصلت القائمة التوافقية التي يرأسها عقيلة صالح على المرتبة الأولى تليها القائمة التي يرأسها محمد يونس المنفي، وهما القائمتان اللتان خاضتا الجولة الأخيرة، والتي انتهت بفوز القائمة التي تضم المنفي رئيسًا، وعبد الله اللافي وموسى الكوني نائبين له، وعبد الحميد الدبيبة رئيسًا للوزراء.
مفاجأة اللحظات الأخيرة
حتى اللحظات الأخيرة قبل إعلان النتيجة النهائية للاقتراع، ظلت التوقعات تشير إلى فوز القائمة التي يرأسها عقيلة صالح، نظرًا إلى أهمية الشخصيات المترشحة ضمنها، سياسيًا وعسكريًا واجتماعيًا
حتى اللحظات الأخيرة قبل إعلان النتيجة النهائية للاقتراع، ظلت التوقعات تشير إلى فوز القائمة التي يرأسها عقيلة صالح، نظرًا إلى أهمية الشخصيات المترشحة ضمنها، سياسيًا وعسكريًا واجتماعيًا؛ فعقيلة صالح، المنحدر من قبيلة العبيدات النافذة في المنطقة الشرقية، يتولى، منذ 2014، رئاسة مجلس النواب. أما فتحي باشاغا المنحدر من مدينة مصراتة، فقد بات إحدى الشخصيات المتصدرة المشهدين السياسي والأمني في العاصمة والمنطقة الغربية، منذ تعيينه وزيرًا للداخلية في حكومة الوفاق الوطني، ويتمتع بتأثير قوي في عدد من التشكيلات الأمنية في العاصمة، في حين يعدّ اللواء أسامة الجويلي، المنحدر من مدينة الزنتان التي ترأس مجلسها العسكري منذ الثورة، شخصية عسكرية بارزة في المنطقة الغربية أدت دورًا مهمًا في قيادة قوات حكومة الوفاق إبان الحرب التي شنتها قوات حفتر في عامي 2019 و2020.
مثّل فشل القائمة التي يرأسها صالح وصعود القائمة التي يرأسها المنفي مفاجأة الجولة الأخيرة من الاقتراع. فجميع الشخصيات المرشحة ضمنها لم تكن من شخصيات الصف الأول في المشهدين السياسي والعسكري الليبي، ولم يعرف عنها أي انخراط مباشر في الصراع الدائر في البلاد، منذ عام 2014، ولم تكن لها مواقف منحازة إلى أحد طرفي النزاع خلال الحرب الأخيرة التي شنتها قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر على طرابلس.
ينحدر محمد يونس المنفي من قبيلة المنفة بالمنطقة الشرقية، وهي القبيلة التي ينحدر منها أيضًا قائد المقاومة الليبية ضد الاحتلال الإيطالي في برقة في الثلث الأول من القرن العشرين عمر المختار. انتخب المنفي لعضوية المؤتمر الوطني العام في عام 2012، قبل أن ينشق عنه وينضم إلى تحالف القوى الوطنية بقيادة محمود جبريل. لم تعرف عن المنفي نشاطات أو مواقف تذكر منذ الانقسام السياسي الذي تلا عملية "الكرامة" عام 2014، التي قادها حفتر، إلى حين تعيينه سفيرًا لليبيا لدى اليونان، والتي دعته إلى مغادرة أراضيها عقب توقيع حكومة الوفاق اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع تركيا. أما رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة، فهو رجل أعمال منحدر من مدينة مصراتة، تولّى عدة مسؤوليات في مؤسسات اقتصادية كبرى زمن نظام معمر القذافي، ولم يعرف عنه أي انخراط مباشر في الشأن السياسي. ورغم أنه أسس، منذ سنتين، تيارًا تحت مسمى "ليبيا المستقبل"، فإن انخراطه في العمل السياسي ظل محدودًا جدًا، ولم تكن له أي مواقف تذكر من الأحداث الجارية في البلاد.
تشترك الشخصيات التي تم اختيارها لتشكيل السلطة التنفيذية الجديدة في ليبيا في نأيها عن الخوض في المشهدين السياسي والعسكري منذ عام 2014، وفي عدم انخراطها، على نحو مباشر، في النزاع الدامي الذي شهدته البلاد عقب هجوم قوات حفتر على المنطقة الغربية والعاصمة في عامي 2019 و2020، رغم تولي بعضها مسؤوليات رسمية سواء من خلال عضوية المجلس الرئاسي لفترة محدودة (موسى الكوني) أو بالعمل في السلك الدبلوماسي التابع لحكومة الوفاق (محمد المنفي) أو عضوية مجلس النواب (عبد الله اللافي)، ما يجعلها أقرب إلى فريق تكنوقراط منها إلى حكومة سياسية. وإضافة إلى ذلك، يمثّل وجود اللافي المنحدر من الزاوية، وعبد الحميد الدبيبة المنحدر من مصراتة، كما سبق، ترضية للمدينتين اللتين كان لتشكيلاتهما العسكرية الدور المحوري في دحر قوات حفتر عن العاصمة والمنطقة الغربية. أما اختيار موسى الكوني، المنحدر من قبائل الطوارق في الجنوب، فيبدو رسالة ضمنية مفادها الحرص على الوحدة الوطنية بالانفتاح على جميع مكونات المجتمع الليبي وإثنياته في المرحلة الجديدة، وإشراكها في الحكم والمسؤوليات.
ترحيب بالاتفاق
قوبل انتخاب قيادة المرحلة الانتقالية الجديدة في ليبيا بترحيب واسع، إقليميًا ودوليًا، جاء أهمها من الولايات المتحدة الأميركية التي دعت إلى "ضمان تسليم سلس وبناء لكافة الاختصاصات والواجبات إلى السلطة التنفيذية الجديدة"
قوبل انتخاب قيادة المرحلة الانتقالية الجديدة في ليبيا بترحيب واسع، إقليميًا ودوليًا، جاء أهمها من الولايات المتحدة الأميركية التي دعت إلى "ضمان تسليم سلس وبناء لكافة الاختصاصات والواجبات إلى السلطة التنفيذية الجديدة"، متعهدة بـ "محاسبة من يهددون الاستقرار أو يقوضون العملية السياسية في ليبيا". كما تعهد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في اتصالين هاتفيين مع المنفي والدبيبة، بـ "مواصلة تركيا تقديم الدعم للحفاظ على وحدة ليبيا والمساهمة في إحلال الاستقرار والسلام والأمن والرفاه لشعبها". ورحب بالاتفاق أيضًا كل من الأمين العام للأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية وقطر وتونس والجزائر والمغرب والسعودية ومصر والكويت والبحرين والإمارات والأردن.
داخليًا، رحب رئيس حكومة الوفاق فايز السراج باختيار السلطة التنفيذية الجديدة، معربًا عن "أمله في توفير الظروف الملائمة لإجراء الانتخابات العامة في موعدها لوضع الأساس لبناء الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة". ووصف خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة الأمر بـ "الخطوة الهامة في سبيل الخروج من الأزمة وتوحيد المؤسسات وإنهاء الانقسام". أما وزير الداخلية فتحي باشاغا الذي لم يفلح في الفوز بمنصب رئيس الحكومة، فقد اعتبر أن التصويت "تجسدت فيه الديمقراطية في أوضح صورها". أما مجلس النواب – جناح طبرق، الذي يرأسه عقيلة صالح فقد تعهد بـ "دعم عمل الحكومة حال نيلها الثقة في تنفيذ خارطة الطريق وخاصة التجهيز للانتخابات".
عقبات في الطريق
رغم المواقف المرحبة بالاتفاق، فإن صعوبات عديدة تواجه الفريق الجديد. وكان رئيس الوزراء الجديد، عبد الحميد دبيبة، تعهد في كلمة وجهها إلى أعضاء الملتقى، عبر الفيديو، بـ "إنهاء النزاع"، و"إجراء الانتخابات على أسس ديمقراطية"، و"العمل مع الجميع باختلاف أفكارهم ومكوناتهم وأطيافهم ومناطقهم"، و"حل مشكلة الكهرباء والسيولة"، و"حصر السلاح في يد الدولة"، و"انتهاج التعليم والتدريب سبيلًا للاستقرار"، و"خلق وظائف للشباب"، و"تطوير العلاقات مع دول الجوار". وكانت رئيسة بعثة الأمم المتحدة في ليبيا ستيفاني ويليامز أعلنت أن جميع المرشحين وقعوا تعهدًا مسبقًا بالالتزام بخريطة الطريق التي أقرها الملتقى وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في 24 كانون الأول/ ديسمبر 2021.
يبدو البرنامج الذي أعلنه الدبيبة أقرب إلى بيان انتخابي يقفز على الأزمات المركبة والمتراكمة التي تربك المشهد السياسي والأمني والاجتماعي الليبي، كما يتجاوز، في بعض جوانبه، السقف الزمني الممنوح لحكومته، والذي لا يزيد على تسعة أشهر، في حال مرت مرحلة التشكيل ومنح الثقة بسلاسة. وحتى في هذه الحالة، تصبح المهمة الرئيسة للحكومة الإعداد للانتخابات والحفاظ على الاستقرار وصولًا إليها. ورغم الدعم المتوقع من طرف البعثة، فإن اختيار الفريق الحكومي لن يكون مهمة يسيرة في سياق تعدّ فيه المحاصصات والترضيات السياسية والقبلية والجهوية، عامل الفرز الأهم، رغم إعلان الدبيبة أن خياره سيكون التعويل على التكنوقراط. وحتى في حال التزامه بمهلة الأسابيع الثلاثة التي منحتها له البعثة لتشكيل فريقه الحكومي، فمن غير المستبعد أن تشهد جلسة منح الثقة من طرف مجلس النواب تجاذبات قد تؤدي إلى العودة إلى ملتقى الحوار السياسي للتصديق على الحكومة، كما تنص على ذلك خريطة الطريق، مع ما يعنيه ذلك من اقتطاع من عمر الحكومة القصير أصلًا.
حتى الآن، تبدو جميع ردود الأفعال الداخلية والخارجية مرحبة بالسلطة التنفيذية الجديدة، وإن بدرجات متفاوتة، غير أن ذلك لا يخفي الصعوبات التي تنتظرها لإعادة ترتيب المشهدين السياسي والأمني، إذ لم يتضح، بعد، موقع حفتر في الترتيبات الجديدة، حيث تحاشى جميع أعضاء الفريق الجديد التعليق على هذا الأمر رغم أهميته في تحديد مآلات الوضع الأمني والعسكري في البلاد. كما لم يتضح مصير رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، وبخاصة في ظل تصاعد الدعوات لمنح منصب رئيس البرلمان لأحد نواب الجنوب بعد منح رئاسة المجلس الرئاسي لمرشح من الشرق، ورئاسة الوزراء لمرشح من الغرب؛ وهو أمر محكوم بتوازنات وترضيات قبلية وجهوية غاية في التعقيد من شأنها إرباك خريطة الطريق المعلنة.
خاتمة
رغم أن اختيار سلطة تنفيذية جديدة في ليبيا كان متوقعًا في ظل إصرار بعثة الأمم المتحدة على المضي في تنفيذ خريطة الطريق التي توافق عليها المشاركون في ملتقى الحوار السياسي الليبي، فإن فوز القائمة التي تضم محمد المنفي رئيسًا للمجلس الرئاسي وعبد الحميد الدبيبة رئيسًا للوزراء كان تطورًا مفاجئًا لجل المتابعين. ورغم الترحيب الذي قوبلت به السلطة التنفيذية الجديدة، داخليًا وإقليميًا ودوليًا، تظل الصعوبات السياسية والأمنية والاقتصادية، المركبة والمتراكمة، وهشاشة التوازنات القبلية والجهوية، وضيق الحيز الزمني الممنوح لها، وحدة التدخلات الخارجية، عوامل من شأنها إرباك خريطة الطريق، وتحول دون الوصول إلى الانتخابات العامة في موعدها؛ ما يفتح الباب أمام تمديد جديد للمرحلة الانتقالية. ويمثّل الفشل في تنفيذ اتفاق الصخيرات، رغم الدعم الداخلي والدولي الذي لقيه حين التوقيع عليه، سابقة تدفع إلى الحذر في استشراف مآلات الوفاق الجديد، رغم اختلاف بعض السياقات.