دخلت تركيا والنظام السوري في مراحل طويلة وشائكة على طريق التقارب وتطبيع العلاقات وحل الخلافات والتوصل إلى اتفاق يزيل العقبات بينهما، وبحسب العديد من المصادر لم تتوقف اللقاءات الاستخبارية وتبادل المعلومات الأمنية بين البلدين، بل هي مستمرة حتى اللحظة.
وعلى المستوى الرسمي فقد عُقدَ في ديسمبر/ كانون الأول 2022، اجتماع بين كلٍ من روسيا وتركيا وسوريا على مستوى وزراء الدفاع في موسكو، برفقة رؤساء الأمن لكل من البلدين، وكانت هذه الخطوة هي أولى خطوات عملية التقارب، في حين شكل اجتماع وزراء خارجية النظام السوري وإيران وروسيا وتركيا، في 10 مايو/ أيار 2023، أعلى مستوى من اللقاءات الرسمية التي بدأت تناقش مسألة التقارب بين أنقرة ودمشق، وتوصّلت حينها الأطراف المجتمعة إلى مواصلة المحادثات على مستوى مساعدي وزراء الخارجية لوضع خريطة طريق من شأنها أن تؤدي في نهاية المطاف إلى تطبيع العلاقات بين البلدين.
وأخيراً تحدثت وسائل إعلام عراقية في 6 يوليو/ تموز 2024، عن تقديم بغداد وساطة بين تركيا والنظام السوري، وعلى موافقتهما عقد لقاء في بغداد، بعد جولات من المحادثات غير المباشرة.
نناقش في سطور هذه المقالة سيناريو تطبيع العلاقات السياسية بين تركيا والنظام السوري، ووضع مقاربة وتصوّر لليوم التالي يستند على فهم الملفات التي يتم التفاوض عليها وطريقة معالجتها بين تركيا والنظام السوري.
ملفات التفاوض الشائكة
إن القضايا التي يتم التفاهم عليها بين البلدين شائكة ومعقّدة، ومن الواضح أن عملية التطبيع وُضعت ضمن إطار أمني يحدد الكيفية التي ستتعامل بها تركيا والنظام السوري مع مناطق شمال غربي سوريا، إلى جانب ملفات اقتصادية، ومن المرجح أن تكون روسيا وإيران ضامنتين لأي صفقة سياسية. ونناقش في هذا القسم ملفات التفاوض على الشكل التالي:
- أولاً، انسحاب القوات التركية - ملف أمني عسكري
بحسب العديد من التصريحات الرسمية فإن النظام السوري يطالب أنقرة بسحب كامل قواتها العسكرية من شمالي سوريا، لكن هذا المطلب لا يبدو منطقياً ومرفوضاً بالنسبة لتركيا، إلا أنه من المرجح أن يُجبر النظام على تضييق نطاق مطالبه مقابل تعهد تركيا بوضع جدول زمني وخطة مستقبلية لإعادة تموضع وانسحاب الجيش التركي بضمانة روسية.
وبدروها ترى تركيا أن انسحاب قواتها من الممكن أن يخلق فجوة أمنية على حدودها الجنوبية، وانطلاقاً من ذلك، يمكننا القول إن أنقرة متمسكة ببقاء قواتها متمركزة في سوريا على المدى المتوسط والطويل.
- ثانياً، إدارة المعابر - ملف اقتصادي
من الملفات التي يصر النظام على توجيهها لصالحه هي إدارة المعابر الحدودية مع تركيا، ويرى النظام فيها قيمة مالية ضخمة، فوفقاً للإحصاءات التركية، بلغت الواردات السورية من تركيا 2.2 مليار دولار، عام 2022، ويعتبر هذا الرقم ضخماً بالنسبة للنظام الذي يحاول عبر العديد من الطرق غير الرسمية الاستحواذ على كل الموارد المالية للبلاد لصالحه، وليس لصالح الدولة والمجتمع، لذلك يحاول الظام أن يعيد السيطرة على المعابر لاعتبارات اقتصادية.
وعلى الصعيد الاقتصادي، قد يأمل النظام السوري أيضاً في الحصول على مساعدة تركية في التحايل على العقوبات الغربية، وبحسب مصادر تركية، طلبت دمشق من تركيا عدم دعم العقوبات الأوروبية والأميركية.
- ثالثاً، التعامل مع قوات "قسد" - ملف أمني
قد يوصف هذا الملف بالاستراتيجي بالنسبة إلى تركيا، وهو مرتبط بملف وجود القوات التركية شمالي سوريا، ومحور لأي اتفاق بين البلدين، وبالأخص تركيا التي ترى في "قسد" تهديداً لأمنها القومي.
وبذات الوقت تشكل "قسد" تحدياً لا بد من التعامل معه، ويحرم النظام من الوصول إلى موارد الطاقة وخاصة النفط، وبالتالي، من حيث المبدأ، قد تشترك تركيا والنظام السوري في محاربة "قسد"، إلا أن النظام يرى في "قسد" أداة يمكن استغلالها في سبيل تحصيل مكاسب من الأتراك.
ومن جانب آخر لا بد من التذكير أن التعامل مع ملف "قسد" يمر فقط عبر الولايات المتحدة الأميركية، وليس للنظام السوري نفوذ أو سلطة عليهم، بمعنى أن أي حل لهذا الملف يمر عبر الأميركان، ولا تلوح في الأفق أي بوادر اتفاق تركي أميركي بهذا الخصوص.
- رابعاً، عودة اللاجئين
بالنسبة لقضية عودة اللاجئين، فإن تركيا تريد حلاً، وتطبّق حالياً وسائل صلبة لإعادتهم إلى مناطق شمال غربي سوريا بشكل عشوائي غير منسق ومنظم، وترى أنقرة في حل هذا الملف أولوية، أما بالنسبة للنظام فهو ليس أولوية، لأنه فعلياً غير قادر على إدارة المناطق الواقعة تحت سيطرته اقتصادياً أو أمنياً، لذلك هو يبتعد أو يحاول المراوغة في موضوع عودة اللاجئين قدر المستطاع لما يشكله من عبء عليه.
اليوم التالي في مناطق المعارضة لسيناريو تطبيع تركيا العلاقات مع النظام السوري
من المعروف أن مناطق سيطرة المعارضة في الشمال السوري، تُصنّف كفاصل أو ممر أمني تحكم تركيا قبضتها عليه منعاً لإنشاء أي كيان تؤسسه قوات "قسد"، وتشرعن أنقرة وجود قواتها العسكرية هناك استناداً إلى نقطتين:
- الأولى، عبر اتفاقية أضنة الموقعة مع سوريا والتي منحت تركيا الحق في ملاحقة قوات "حزب العمال الكردستاني - PKK".
- الثانية، تعتبر تركيا نفسها ضامنا للمعارضة السورية بحسب مخرجات سوتشي وأستانا، وهذا يخولها نشر قواتها في مناطق سيطرة المعارضة.
وبالتالي، ترى أنقرة ضرورة المحافظة على قوات المعارضة لأنها تشرعن نشر قواتها في شمالي سوريا، وهذا الأمر يرفضه النظام، الذي يطالبها بالعمل على إنهاء دعم المعارضة سياسياً وعسكرياً.
وهذا يدلل من وجهة نظر أمنية بعدم رغبة تركيا بالانسحاب من نقاط المراقبة، وعدم تخليها عن مناطق سيطرة المعارضة السوريّة، على المدى القصير والمتوسط على أقل تقدير.
وفيما يخص التفاوض على إدارة المعابر، قد تبدي تركيا مرونة أكثر في التفاوض عليه، وهو ملف يتمسك به النظام السوري بشكل مفرط، وهنا لا بد أن نفرّق بين معبري السلامة والراعي اللذين تتحكم بهما قوات الجيش الوطني السوري، وبين معبر باب الهوى الذي تتحكّم به "هيئة تحرير الشام"، والمعبر الثالث في كسب تحت سيطرة النظام، فالأوّل قد تتفاوض تركيا على منحه للنظام في مرحلة ما، لكن إدارة معبر باب الهوى يبدو صعباً.
ويسعى النظام السوري للسيطرة على المعابر بهدف تحقيق العوائد المالية، وقد يبدي أهمية لهذا الملف أكثر من قضية التعامل مع ملف "قسد"، وانسحاب القوات التركية، أما ملف عودة اللاجئين سيبقى مرتبطاً في الوقت الحالي بسياسات الحكومة التركية فقط.
صور اليوم التالي لتطبيع العلاقات بين تركيا والنظام السوري لن يغيّر إلى حد كبير شكل السيطرة في المناطق التي تشهد وجود قوات المعارضة السوريّة، لأنّه من غير المرجح أن يؤدّي الاتفاق مع النظام تغييراً في الوضع الراهن بشكل كبير..
نستنتج من ذلك، أن تصور اليوم التالي لتطبيع العلاقات بين تركيا والنظام السوري لن يغيّر إلى حد كبير شكل السيطرة في المناطق التي تشهد وجود قوات المعارضة السوريّة، لأنّه من غير المرجح أن يؤدّي الاتفاق مع النظام إلى تغيير في الوضع الراهن بشكل كبير، لأنّ التغيير الذي تطلبه تركيا هو إنهاء مشروع "قسد" وتحقيق الاستقرار على حدودها الجنوبية واستمرار وجود قواتها شمالي سوريا، وهذا غير ممكن من دون الموافقة والتعامل مع الطرف الأميركي.
واليوم التالي لمناطق سيطرة المعارضة السورية بحكم معادلة أمنية تهم الأتراك، واقتصادية تهم النظام السوري، وتضعنا أمام سيناريو يقوم على بقاء القوات التركية لفترة بين المتوسطة والطويلة إلى جانب قوات المعارضة في شمال غربي سوريا، مع إمكانية فتح معبر كسب أمام حركة التجارة، وانتقال جزء كبير من صادرات تركيا إلى النظام السوري بدلاً من الاستحواذ عليها بشكل كامل من قبل المعارضة.