تقف اليابان وحيدة تقريبًا من بين جميع الاقتصادات المتقدمة في الحفاظ على أسعار الفائدة السالبة على الرغم من انخفاض الين الياباني إلى مستويات تاريخية وارتفاع التضخم إلى حدود 3%، لكن الظروف الاقتصادية في اليابان وفقا للحكومة البريطانية أدت إلى وجهة نظر مفادها أن رفع أسعار الفائدة من شأنه أن يضر أكثر مما ينفع.
مع قيام مجلس الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة الأميركية مرارًا وتكرارًا في محاولة لترويض التضخم المتفشي، سارع كل بنك مركزي رئيسي في العالم تقريبًا لمواكبة الوتيرة ماعدا قلة ومنهم بنك اليابان.
الين الياباني في حالة سقوط حر والتضخم ببعض المقاييس هو الأعلى منذ عقود. وتقول النظرية الاقتصادية المتعارف عليها عالميا التقليدية إن زيادة معدل الفائدة يمكن أن يخفف من كلتا المشكلتين. لكن بنك اليابان الذي لم يتبع الاتجاه السائد للسياسة النقدية العالمية ظل ملتزماً بثبات بمعدلات الفائدة المنخفضة للغاية، بحجة أن جعل الأموال أكثر كلفة الآن لن يؤدي إلا إلى قمع الطلب الضعيف بالفعل وانتكاس الانتعاش الاقتصادي الهش بعد كورونا.
أعرب رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا عن دعم قوي هذا الأسبوع للسياسة النقدية لبنك اليابان، حتى مع انخفاض الين إلى أدنى مستوى له في 32 عامًا مقابل الدولار، وهو انخفاض ساهم في ارتفاع الأسعار في بلد غير معتاد عليها ومارس المزيد من الضغط على الحكومة.
تدافع الحكومة اليابانية عن سياستها الاقتصادية بالقول بأن التضخم الذي تشهده اليابان هو من جانب العرض السلعي وهو النوع الذي أحدثه الدولار القوي ونقص العرض المرتبط بالوباء والحرب في أوكرانيا
وفي سياق متصل أعلن محافظ بنك اليابان، هاروهيكو كورودا، في تصريحات للبرلمان أن البنك لن يغير مساره في أي وقت قريب. وقال كورودا إن جميع أعضاء مجلس إدارة البنك متفقون على أنه "في ظل الظروف الاقتصادية الحالية، من المناسب مواصلة التيسير النقدي".
تدافع الحكومة اليابانية عن سياستها الاقتصادية بالقول بأن التضخم الذي تشهده اليابان هو من جانب العرض السلعي وهو النوع الذي أحدثه الدولار القوي ونقص العرض المرتبط بالوباء والحرب في أوكرانيا، ولهذا السبب يجب على البنك أن يستمر في مساره لأن رفع الفائدة يستخدم لمواجهة تضخم من جهة الطلب وليس من جهة العرض.
أدت الظروف الاقتصادية المتباينة في الولايات المتحدة واليابان إلى سياسات نقدية مختلفة اختلافًا جذريًا، وهي فجوة ساعدت في انخفاض الين حيث يسعى المستثمرون إلى تحقيق عوائد أفضل في أماكن أخرى. يوضح المخطط المرفق الفرق الكبير بين عوائد السندات الأميركية واليابانية لأجل عشر سنوات.
في الولايات المتحدة - حيث الانتعاش الاقتصادي سريع والأجور ترتفع بسرعة يسعى بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى سحق التضخم عن طريق خنق الطلب. و يعتقد أنه يمكن تحقيق الهدف جزئيًا عن طريق تثبيط الإنفاق من خلال أسعار الفائدة المرتفعة، على الرغم من أن بعض الاقتصاديين البارزين حذروا من أن المبالغة في ذلك قد تكون عقابًا للاقتصاد.
ومع ذلك، هناك اتفاق واسع في اليابان على أن رفع سعر الفائدة على الأقل في الوقت الحالي من شأنه أن يضر أكثر مما ينفع. وبالكاد عاد الاقتصاد الياباني، ثالث أكبر اقتصاد في العالم، إلى مستوياته السابقة للوباء، وظلت الأجور راكدة على الرغم من ضيق سوق العمل لدرجة أن البطالة ظلت أقل من 3 في المئة خلال أسوأ شهور الوباء.
من وجهة نظر اقتصادية تحتاج الحكومة اليابانية لخفض التضخم إلى إبطاء الطلب بشكل حاد، وهذا أمر صعب لأن الطلب ضعيف نوعًا ما مقارنة بالاقتصادات الأخرى.
في حين تم توزيع ضغوط التضخم في الولايات المتحدة على نطاق واسع، فقد أصابت في اليابان في المقام الأول الضروريات مثل الغذاء والطاقة، والتي يتم تلبية الطلب عليها إلى حد كبير من خلال الواردات وبالتالي هو تضخم مستورد إلى حد كبير لا تنفع معه استراتيجية قتل الطلب الفعال التي تسخدمها البنوك المركزية الأخرى على مستوى العالم.
في القراءة الأخيرة عن شهر تشرين الأول/ اكتوبر أفادت الحكومة أن التضخم في اليابان وصل إلى 3 في المئة، وهو أعلى مستوى منذ عام 1991، في حين ارتفع مؤشر التضخم الأساسي (استثناء أسعار الغذاء والطاقة) ارتفعت الأسعار اليابانية في أيلول/ سبتمبر بنسبة 1.8 في المائة فقط عن العام الماضي. في الولايات المتحدة، كان هذا الرقم 6.6٪ عن نفس الفترة.
وهذا يعني أن الكثير من ضغوط التضخم الحالية تأتي من ارتفاع الدولار وقضايا العرض السلعي التي تؤثر على الواردات وهي عوامل خارج اليابان وبالتالي خارج سيطرة بنك اليابان. يعرف مسؤولو البنوك جيدًا أن رفع أسعار الفائدة لن يخفف من ضغوط الأسعار هذه - بل سيؤدي فقط إلى زيادة تكاليف الأعمال.
قدم بنك اليابان سياسة التيسير النقدي الحالية في عام 2013، عندما تعهد رئيس الوزراء في ذلك الوقت، شينزو آبي، باتخاذ تدابير قوية لتحفيز النمو الاقتصادي الذي ظل راكداً لعقود.
تضمنت الخطة إطلاق سيل من الإنفاق الحكومي وإعادة تشكيل هيكل الاقتصاد الياباني من خلال مبادرات مثل تشجيع المزيد من النساء على الانضمام إلى قوة العمل.
لكن العنصر الأكثر أهمية كان جعل الأموال رخيصة ومتاحة بسهولة، وهو الهدف الذي حققه بنك اليابان من خلال خفض أسعار الفائدة إلى أدنى حد ممكن والتخلص من السندات والأسهم. تعهد البنك المركزي بالحفاظ على هذه السياسات حتى يصل التضخم الذي كان شبه معدوم إلى 2 في المئة، وهو مستوى يعتقد الاقتصاديون أنه ضروري لرفع الأجور وتوسيع الاقتصاد في البلاد.
بعد ما يقرب من عقد من الزمان، أدى التزام اليابان الطويل الأمد باستخدام معدلات منخفضة للغاية لتحفيز النمو إلى جعل اقتصادها معرضًا بشكل خاص للضرر الذي يمكن أن تسببه زيادات الفائدة.
فعلى سبيل المثال بين عامي 2014 و2022، ووفقًا لبيانات وكالة تمويل الإسكان اليابانية، ارتفعت حصة الرهون العقارية متغيرة السعر إلى 73.9 في المئة من 39.3 في المئة كمشترين للمنازل. إن التغيير في معدلات الإقراض الآن والذي سينتج عن رفع سعر الفائدة من شأنه أن يزيد من تكاليف السداد، مما يؤدي إلى تقليص ميزانيات الأسر المعيشية المحدودة بالفعل.
كما أن زيادة الأسعار قد تجعل من الصعب على اليابان سداد ديونها الضخمة، والتي بلغت في عام 2021 ما يقرب من 260٪ من الناتج الاقتصادي السنوي. أصبحت المخاوف المتعلقة بالديون أكثر بروزًا حيث قدمت الحكومة دعمًا ماليًا هائلاً للشركات والأسر لمواجهة الضرر الاقتصادي الناجم عن الأحداث العالمية الأخيرة. في حين أن الخلاف قائم حول ما إذا كانت ديون اليابان يمكن تحملها، فلا أحد يريد المجازفة باكتشاف ذلك.
ساهم انخفاض قيمة الين الياياني في تحقيق أرباح كبيرة لشركات التصدير الثقيلة مثل تويوتا، التي أصبحت منتجاتها أرخص للمستهلكين في الخارج. كما توقعت الحكومة إنه يتوقع أن يجذب الين الرخيص السياح الدوليين، الذين بدؤوا في العودة هذا الشهر بعد غياب دام قرابة ثلاث سنوات بسبب القيود الصارمة التي تفرضها اليابان على السفر بسبب وباء كورونا.
لكن في المقابل إن ضعف العملة كان عبئًا على الموارد المالية للأسر والشركات الصغيرة ويمكن أن يكون له تأثير ضار على الشعور العام في البلاد.
لم تفعل زيادات أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية الأخرى سوى القليل لحماية عملاتها من الدولار القوي
في أيلول/ سبتمبر، أجرت وزارة المالية عملية شراء للين لمرة واحدة، وهي الأولى منذ أكثر من عقدين، لكن هذا الجهد لم يفعل شيئًا لوقف تراجع العملة. وقامت بعملية أخرى في تشرين الأول/ أكتوبر، وأيضا لم تؤد إلى النتيجة المرجوة في تحقيق استقرار نسبي للين أمام الدولار الأميركي.
السياسة المالية والسياسة النقدية متلازمتان معًا، وهذا ما يجعل من الصعب جدًا على بنك اليابان اتخاذ خطوة، ليس من الواضح ما إذا كان رفع أسعار الفائدة سيوقف انخفاض الين. لم تفعل زيادات أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية الأخرى سوى القليل لحماية عملاتها من الدولار القوي. وقد تم توضيح المخاطر السياسية للتحركات الاقتصادية المفاجئة عندما تنحت ليز تروس كرئيسة وزراء بريطانيا بعد ستة أسابيع من المنصب بعد فوضى عارمة في الأسواق.
ومع ذلك، يراهن بعض المضاربين على أن بنك اليابان سيتراجع في النهاية ويخضع للضغط خاصة إذا استمر الفيدرالي الأميركي في رفع الفائدة، فهل يخرج الين الياباني الذي شكل أفضل تجربة نقدية بعد الحرب العالمية الثانية من الأسواق الهابطة قريبا؟