لم تتشدد السيرورة المدنية الإنجليزيّة مع تنوع الهويات الدينية والمذهبية بل والعِرقيّة لاحقا بل اتّكأت -بعد الفصل بين السلطتين: الروحية والمدنيّة- على تسامح الأفراد مع تنوعهم الاجتماعي لتحقيق مساواة فيما بينهم وإنتاج حكومة مدنيّة.
في حين اصطدمت سيرورة الثورة الفرنسيّة مع الملك ورجال الكنيسة فأطاحت بهم وأكدت ثقافة المساواة المدنيّة في "وثيقة حقوق الإنسان".
إلّا أنّ كلا السيرورتين بنت تصورها عن المدنيّة انطلاقا من "حريّة الفرد والمساواة في الكرامة" ولأنّ الحياة المدنية تنافسيّة بطبيعتها فإنّها مرشحة لتنامي قوى على حساب قوى مقابلة فجاء اليسار ليساند القوى الأقل حظا ويعيد تحقيق المساواة.
خارج حدود الدول التي أسّست لمدنيّة "حريّة الفرد والمساواة" وما يترتب عليها من حقوق إنسان؛ كان ولا يزال ثمّة عالم آخر يتناول نقض مفاهيم الحرية والمساواة في توجّهين:
تراثي: معني بصياغة خطاب ملكي/ إمبراطوري عن "حقوق الأمّة" وكرامتها لا الفرد وكرامته.
علماني: استبدل الملوك والقياصرة بقادة تاريخيين يتحدّثون عن "حقوق الشّعب" وحريّته لا الفرد وحريّته؛ فكلا النموذجين -الإمبراطوري التراثي والعلماني الماركسي- يعتقد أنّ حريّة الفرد وما نتج عنها من "حقوق إنسان" ما هي إلا مؤامرة طبقيّة برجوازيّة أو عقديّة!
اليوم، وفيما تخوض أوكرانيا حربها العسكريّة مع روسيا بدماء أبنائها وبالاقتصاد الأوروبي فإن تداعيات الحرب على اقتصادات الاتحاد الأوروبي بدأت بالظهور خاصة في معالجة قضايا اللجوء، فاجتمع وزراء خارجية الدول الأوروبيّة في لوكسمبورغ وتباينت مواقفهم السّياسيّة بين: يمين متصاعد ذهب إلى حد الدعوة لبناء سياج يعزل أوروبا عن محيطها، ووسط يدعو إلى تقاسم العبء الاقتصادي الناجم عن اللجوء عبر تسوية بين دول الاتحاد، ويسار كما في موقف الوزيرة الألمانية التي طالبت برفع العوائق على الحدود أمام الأسر التي لديها أطفال صغار السن، وهذا الموقف السّياسي اليساري يقترب من موقف منظمات غير سياسيّة تُعنى بالدفاع عن حقوق الإنسان كمنظمة "أوكسفام" التي اعتبرت أن الاتحاد يريد التنصل من مسؤوليّاته!
ثمّة بلاد عجيبة لا تزال ترى اللاجئ إنساناً له حقوق والإساءة إلى تلك الحقوق مثلبة سياسية وأخلاقيّة لا يتسامح معها الجمهور الحر لأنّ "حقوق الإنسان" عتبة أصيلة لحقوق كل إنسان حر
على أيّة حال لن يكون صعود اليمين مؤثّرا بدرجة كبيرة على المواطن الأوروبي فاليمين واليسار الليبراليان يحفظان لمواطنيهم حقوقهم المدنيّة في حين أنّ الأثر المرشّح حدوثه سيكون على حقوق إنسانيّة للاجئين!
نعم يا رعانا الله وحده الشرق الأوسط؛ ثمّة بلاد عجيبة لا تزال ترى اللاجئ إنساناً له حقوق والإساءة إلى تلك الحقوق مثلبة سياسية وأخلاقيّة لا يتسامح معها الجمهور الحر لأنّ "حقوق الإنسان" عتبة أصيلة لحقوق كل إنسان حر.
في شرقنا البائس أصدرت "منظمة العالم الإسلامي" عام 2021 "إعلان القاهرة لمنظمة التعاون الإسلامي لحقوق الإنسان" وكي لا نذهب في التفاؤل بعيدا فإنّ الوثيقة لم تُبنَ على "حريّة" الإنسان الفرد ومن ثمّ فمن غير المتوقع أنْ يدافع الأفراد عن مضامينها التي هي غير ملزمة للحكومات على أيّة حال؛ ولعلّ مؤشّر التزام الحكومات بمفردها بأيّة وثيقة إنسانيّة بدا واضحا في سعي تلك الحكومات أو قبولها -بل وبدواعٍ إنسانيّة- إعادة مقعد سوريا في الجامعة العربيّة لرئيس نظام قتل مليوناً وهجّر ملايين السّوريين؛ هذا وقد ألغت ألمانيا -الرأسماليّة والمسيحيّة بهذا المعنى- قبل أيام اجتماعاً بين الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية بسبب مشاركة وزير خارجية النظام السوري في الاجتماع!
إنسانيّا: لا تزال دول الغرب تفاوض زعماءنا التاريخيين في الشرق الأوسط لإدخال مساعدات إنسانيّة إلينا أو إخراج معتقلين أو الكشف عن مصير مفقودين منّا؛ ولا يزال خطاب سيادة وكرامة "الأمّة" يُجمع على رفض "تسييس حقوق الإنسان" والحساسيّة تجاه "التدخل الخارجي في الشؤون الداخليّة"!
اجتماعيّا: لم تكن مصلحة الإنسان السّوري العادي عام 2011 ولا صرخته "أنا إنسان ماني حيوان" غير خطاب إنساني، كما لم تكن صرخة الشاب السوري اللاجئ بإسطنبول أحمد الكنج عام 2022 "أنا إنسان" خطابا سياسيّا لكن نخبا التي سيّست خطابنا الإنساني واستولت عليه تمكنت أيضا من التقاط الصّور مع أحمد الكنج واحتواء صرخته بل ونيل تصريح من الشاب ذاته باسم شباب الأمّة، والأمّة لم تعترف بعدُ به كإنسان حر مساو لكل إنسان حر!
لا تزال النخب التراثية والعلمانيّة الماركسيّة معا تحمل موقفاً إيديولوجيا من حريّة الفرد والمساواة ومن "حقوق الإنسان" فتحفر تلك النخب خنادقها بين الطوائف والأديان والأعراق وتمارس فوقيّتها كسلوك ثقافي وسياسي مشروع دون خجل!
إذ –حتى الآن- لا يشعر سياسي أو مثقف تركي معارض مثلا بالحرج وهو يقدم خطابا تحريضيّا "ضد المساواة الإنسانيّة" بحق ملايين اللاجئين كما لا يشعر السياسي والمثقف العربي حين يمارس مثل ذلك الخطاب التّحريضي؛ أمّا أثر ذلك الخطاب فقد يظهر في سلوك فقير يعاني عوزه أو متشدد يعاني من مشكلة ذهنية أو فكريّة؛ إلّا أنّ خطاب الكراهية لا علاقة بنيوية مباشرة بينه وبين الفقر أو الدين أو العرق بل يتعلق بسياق من المتتاليات تغذي اعتبار الآخر مصدرا للخطر وموضوعا لممارسة عنف مشروع ضده!
وليس أدل على عدم الارتباط العضوي بين الحدث الإرهابي مثلا وبين "العرق الدين أو الطائفة" من أنّ مرتكب العنف فرد يقابله آلاف الآخرين الذين لم يرتكبوا ذلك لكن دائما ثمّة نخب يمكنها إصدار تعميمات!
لا تبدو التهم الموجّهة إلى اللاجئ السوري مختلفة بين بلد واسع واقتصاد قوي كتركيا وآخر صغير واقتصاده منهار كلبنان؛ فالنخب تتحدّث بالطريقة ذاتها عن لاجئ غير متحضر يستولي على فرص العمل، ولغة اللاجئ أو لهجته تهدد هويّة البلد!
لا شك أنّ الانتهاكات بحق اللاجئين تحدث باستمرار، وعدد قليل من مرتكبي الانتهاكات قد يخضع إلى محاكمة ويدان فيما تظل تلك النّخب تمارس التحريض!
مؤخّرا انتشر فيديو للإعلامية اللبنانية "نضال الأحمدي" وهي تمارس تغذية الجمهور بمناهج عنصريّة لا تزال تمارسها الأحمدي منذ سنين، لكن ماذا عن جمهور الأحمدي وأقرانها؛ هل ارتكب أحدهم على الأقل فعلا عنصريّا ضد اللاجئين استجابة لخطاب الإعلاميّة؟!
لا شك أنّ الانتهاكات بحق اللاجئين تحدث باستمرار، وعدد قليل من مرتكبي الانتهاكات قد يخضع إلى محاكمة ويدان فيما تظل تلك النّخب تمارس التحريض!
بالمقابل لا يبدو جميع اللبنانيين ولا جميع الأتراك مؤيدين لمثل هذا الخطاب بل إنّ أعضاء من "حزب المستقبل" التركي انسحبوا من حزبهم لتحالفه مع أحزاب مارست خطابا عنصريّا ضد اللاجئين؛ ولاقت الإعلاميّة اللبنانيّة انتقادات واسعة من المجتمع اللبناني، لكن من المهم الإشارة هنا إلى أنّ التضامن الإنساني لا ينبغي أن ينجر إلى تضامن طائفي أو عِرقي لأنّ ذلك لا يعبر عن خطاب آخر!
في ظل غياب الأسس الليبراليّة المدنيّة لاحترام حرية الإنسان وكرامته المساوية لكرامة كل إنسان آخر قد تحتاج مصطلحات من مثل "يسار ويمين" إلى إعادة نظر؛ إذ كيف للاجئ مثلا أنْ يفرّق بين نخب يسار علماني لا يزال يعتقد أنّ حقوق الإنسان مؤامرة ضد حقوق الشّعب، وبين نخب يمين من جميع الأديان والطوائف والأعراق لا تزال تروّج لتناقض حقوق اللاجئ مع حقوق الأمّة أو المذهب أو الطائفة!
في النّهاية وسواء أكانت على الطريقة الإنجليزيّة أو الفرنسيّة أو بطريقة محليّة ثالثة لا شكّ أن لأعضاء كل طائفة وعِرق وديانة في الشرق الأوسط شديد التنوّع مصلحة في الانفتاح على الآخرين ضمن عقد مساواة يجمع فيما بيننا كأفراد ويسمح لنا بالتنقل الحر والعمل وممارسة الحياة؛ ولاشكّ أنّ ذلك يتناقض مع مصالح النخب التي تحفر خنادق حول الهويّات وتبني متاريسها عبر خطاب كراهية ضد الآخر لذا وجب التنويه!