كانت للشاعر والمسرحي الهزلي الفرنسي موليير قصة خاصة مع مسرحيته (مريض الوهم)، إذ يبدو من القراءة الأولى طرحه لتوهم (أرغان) الأب لمرض دائم يرافقه ويجعله ضحية لأقوال الأطباء واستغلالهم، وبذلك يفرض على ابنته الزواج من ابن الطبيب الذي سيصبح عمّا قريب طبيباً بدوره، ويهددها بإرسالها إلى الدير في حال رفضت بسبب غرامها بغيره.
رغبة الأب ناتجة عن توهمه بحاجته الدائمة للأطباء، ولكن حين نمعن النظر في تفاصيل المسرحية نجد أنها حلقات متتالية من الوهم الذي يعيشه، مصدرها جميعاً وهم المرض، ينتج عنه يقينه المطلق بكل ما يتفوه به الأطباء وإن كان سخافة، والتزامه بكل توصياتهم وإن كانت ساذجة، ويتبعه يقينه بحب زوجته الماكرة له فقط لأنها تجاريه في أنه سقيم عليل، وحين يساهم أخوه مع الخادمة في تنفيذ خطة لكسر دائرة أوهامه تنكشف له الحقيقة!
في تلك الخطة نقطتان مهمتان: الأولى تقوم على تنكر الخادمة بشخصية طبيب يقدم له نصائح مضرّة، فمثلاً يطلب منه فقء إحدى عينيه لتصبح الثانية أقوى بأخذها غذاء المفقوءة، أو قطع إحدى يديه كذلك، وبذلك كسرت الرمزية المتخيلة عن الطبيب/ المخلّص في نظره، أما الثانية فهي اقتراح التظاهر بالموت لاكتشاف مدى حب زوجته وابنته له، وحينئذ يقتنع بخداع زوجته الفرحة وصدق ابنته المنتحبة، وكأنّ المؤلف يرمز إلى الحقيقة المطلقة التي لا تتبدى إلا بموت الإنسان.
وإذا علمنا أن مؤسس "الكوميديا الراقية" موليير كان سيُحرق حياً بسبب مسرحيته (طرطوف) بأمر الكنيسة في القرن السابع عشر لولا حماية لويس الرابع عشر له، لأدركنا صلابة مواقفه من أوهام عصره، لكنه كان واقعاً في (وهم المريض) إن جاز التعبير في مسرحيته (مريض الوهم)، حيث كان مريضاً ونصحه أصدقاؤه بعدم تمثيلها بنفسه، لكنه أصر وسقط على الأرض في العرض الرابع، حيث مات ليلتها بالسل الرئوي، ودفن في مقابر المنتحرين وغير المعمَّدين بعد أربعة أيام من رفض الكنيسة، وكأنه توهم حينذاك أن مرضه ما هو إلا وهم، وأن موته لن يكشف أية حقيقة.
لابن عربي رؤية فريدة في الوهم ناتجة عن تصوفه وتصوره لطريقة الوصول لفهم الذات ومن منطق تقديسه للذات الإلهية، فيعلي شأن العقل بصفته منفعلا، ويحط من شأنه بصفته فاعلا
ومضمار الوهم في اللغة واسع، فهو "ما يقع في الذهن من الخاطر"، و"الطريق الواسع"، و"لا وهم في ذلك: لا بد منه"، ويشتبك اصطلاحاً مع الظن "الاعتقاد المرجوح"، وكذلك مع الشك والغلط، وفي علم النفس: "شكّ، وسواس، اعتقاد خاطئ يؤمن به المرء بقوّة بالرَّغم من عدم وجود أدلَّة عليه، ويدلّ على مرض عقليّ". أما من وجهة نظر الفلسفة فهو "الخطأ في الإدراك الحسي أو الحكم أو المحاكمة المنطقية بشرط أن يكون طبيعياً، بمعنى أن الواقع فيه مخدوع بالمظاهر" -لأنه إن لم يكن مخدوعاً بالمظاهر يُعدّ كاذباً لا واهماً- وينتج عن هذا الخطأ عيب في التصور وبالتالي عيب في السلوك؛ مثالاً: لنفترض أننا نبتعث مفاوضاً مع العدو، فإذا اعتقد الرسول أن العدو لا يريد حرباً دون اعتماده على دليل فهو واهم، في حين إذا أدرك غياب الدليل على ذلك وروّج لنجاح التفاوض وحسن نية العدو فهو كاذب! وهذا السياق يتناغم مع قول أرسطو: "الوهم هو انتصار الرغبة على الواقع"، وكذلك مع قول جوستاف لوبون: "الوهم منسوج من الرغبة ومن الجهل"، ومن روح هذا أيضاً وهم السلطة، الذي لخصه بشكل رائع أحد أبطال مسلسل (Vikings) المعروض على منصة (Netflex)، حيث يصرّح (هارولد ذو الشعر الناعم) منذ أول مشهد له برغبته ليصبح أول ملك للنرويج، لكنه يقول وهو ملك بعد سلسلة من المكر والخداع: "أردت فعل أي شيء للمطالبة بالعرش، لكن الجلوس عليه لا يعني شيئاً، هناك وهم السلطة الذي يحدث في داخلك ضرباً من الجنون".
كذلك فلابن عربي رؤية فريدة في الوهم ناتجة عن تصوفه وتصوره لطريقة الوصول لفهم الذات، ومن منطق تقديسه للذات الإلهية، فمن حيث يعلي شأن العقل بصفته منفعلا (قابلا للأخذ) يحط من شأنه بصفته فاعلا (ناظرا مفكرا) لأن النظر والفكر من مصادر الأوهام، "فلا أعلمَ من العقل ولا أجهلَ من العقل... فهو العالم الذي لا يعلم علمه وهو الجاهل الذي لا ينتهي جهله"، والوهم موجود عنده وجود العقل، وهو أقوى منه: "فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه النشأة الإنسانية"، لأن مصدر المعرفة الحقة برأيه هو المعرفة القبلية/الفطرية الموجودة أساساً في العقل، والمعرفة المستقبلة عن طريق الإلهام الذي هو مصدر المعرفة في الذات والذات الإلهية بشكل اصطفائي لعقول قابلة، ويُدخل على هذا الإلهام نفسه وهماً ناتجاً عن الفكر/التأمل، حيث يصبح (توهم الإلهام)، ومن هنا يحارب الفكر وينبذه: "فكان البلاء الذي ابتلاه به أن خلق فيه قوة تسمى الفكر، وجعل هذه القوة خادمة لقوة أخرى تسمى العقل وجبر العقل مع سيادته على أن يأخذ منه ما يعطيه ولم يجعل للفكر مجالاً إلا في القوة الخيالية"، أما العلوم المأخوذة بالنظر (الحس والقياس والمحاكمة الواعية) فما هي إلا أوهام، ولم يحط من قيمة هذه الأوهام، إلا أنها أوهام بصفتها علوم دنيوية: "لا بد من سلطان الوهم الذي يحكم على العاقل الباحث فيما جاء به الحق في هذه الصورة"، وهكذا يمكننا فهم مقطوعته الشعرية:
الوهـم يـصلح ما الألباب تفسده في الحق، لكنها ما لوهم تعبدهُ
العـقـلُ يـحـكـم والأوهـام تحكمه فــيــه فــتــضــبــطــه ولا تـحـدِّدهُ
وكـيـف يـحـكـم عـقـلٌ قـاصـراً حـدثٌ عــلى مــكــوّنـه والعـجـز مـشـهـدهُ
تـنـوّع الذات بـالأفـكار إن لها مـثـل الهـيـولى ولكـن لا تـعدّده
يرمي الإله بها من كان عنه به وليــس يــرمــي بـه إلا ويُـقـصِـده
العـقـلُ بـالنـظـر الفـكريّ يمسكه والكــشــفُ يــرســله ولا يــقـيـده
لو كـان للعـقـلِ حـكـمٌ فـي مكوّنه لمــا أتـى شـرعـه وقـتـاً يـفـنـده
كانت وما زالت حياة البشر مليئة بالتصورات، ومنها ينتج سلوكهم المعبر عن ذواتهم ومناهجهم نفسياً وعاطفياً وفكرياً، وإذا أجلنا النظر في خريطة الزمن العشوائية لرأينا أفكاراً كثيرة وحروباً كثيرة ونهر دماء لم ينقطع جريانه يوماً بسبب تصورات ثبت بطلانها مع مرور الوقت، حيث نقل –مثلاً- جثمان موليير من مقبرة المنتحرين بعد قرابة مئة وخمسين سنة؛ كأنّ هذا العالم سيبقى مراهقاً، والمعرفة الحقة لا تتحقق فعلاً إلا بموته.