مؤخراً أُقحمت القوات الأميركية بجولة أخرى من العنف الدائرة في الشرق الأوسط، حيث قتل بسببها جندي أميركي والعديد من المقاتلين التابعين للميليشيات المحلية. ويعتبر حمام الدم هذا جزءاً من مشهد دائرة العنف التي امتدت لسنين في المنطقة والتي قتل بسببها العشرات من الناس، إلى جانب إثارتها لحالة من القلق والتوتر .
قُتل متعهد وأصيب عدد من الجنود الأميركيين في أواخر شهر آذار وذلك عندما قامت مُسيرة يعتقد أنها إيرانية بضرب قاعدة في سوريا، وقد دفعت تلك الحادثة الولايات المتحدة إلى تنفيذ سلسلة من الغارات المدمرة التي شنتها ضد الميليشيات المدعومة من قبل إيران، والتي ردت عليها بتنفيذ مزيد من الهجمات ضد قواعد عسكرية تابعة لقوات التحالف في سوريا.
يرى خبراء بأنه على الرغم من تبادل إطلاق النار بشكل دوري على هذا النحو، فإن خطر التصعيد بات ضئيلاً نسبياً اليوم، بما أن الولايات المتحدة وإيران صارتا تعرفان بأن هنالك حدا لما بوسعهما أن يفعلاه، إلا أن لكل طرف منهما مصالحه الاستراتيجية، ولا يريد أي منهما الدفع باتجاه مواجهة شاملة، ومع ذلك ما يزال احتمال الخطأ في الحسابات وارداً، ثم إن تبادل إطلاق النار بهذا الشكل كاد أن يدفع الولايات المتحدة وإيران باتجاه الحرب قبل بضع سنوات.
هجمات متبادلة
وحول ذلك تعلق دارين خليفة، وهي محللة بارزة لدى المجموعة الدولية للأزمات، فتقول: "إن إدارة بايدن واضحة تماماً فيما يتصل بعدم رغبتها بالتصعيد أو بتخريب الوضع، والطرف الثاني لا يرغب هو أيضاً بإثارة حفيظة الولايات المتحدة".
بدأت أحدث مواجهة في 23 آذار وذلك عندما قامت مسيرة محملة بمواد متفجرة بضرب قاعدة للتحالف بالقرب من الحسكة في شمال شرقي سوريا، ما أدى لمقتل متعهد وإصابة خمسة جنود أميركيين إلى جانب جرح متعهد آخر، فشكّت الجهات الاستخبارية في الولايات المتحدة بأن مصدر المسيرة هو إيران.
ورداً على ذلك، نفذت طائرتان حربيتان أميركيتان غارات جوية في ساعة متأخرة من ذلك المساء استهدفت من خلالها مقار لفيلق القدس في سوريا، ما أدى لمقتل ثمانية مقاتلين تدعمهم إيران.
بعد ذلك، انتقمت الميليشيات المدعومة إيرانياً عبر تنفيذ مزيد من الهجمات ضد قواعد تابعة للتحالف في سوريا خلال اليوم التالي، ما تسبب بجرح مزيد من الجنود الأميركيين.
وفي مؤتمر صحفي أقيم في 24 آذار، قال اللواء بات ريدر الناطق الرسمي باسم البنتاغون: "لا نسعى للنزاع مع إيران، ولا نريد التصعيد معها"، وعندما سئل عما إذا كانت إيران مسؤولة عن مقتل المتعهد الأميركي، أجاب: بما أن طهران تدعم المجموعات المقاتلة فإنها: "تتحمل مسؤولية ضمان عدم مشاركتها في نشر حالة انعدام الأمن وزعزعة الاستقرار، ولكن من الواضح أنهم ما يزالون يقومون بذلك".
فرصة سانحة للهجوم على الولايات المتحدة
لم تكن عمليات تبادل إطلاق النار بين القوات الأميركية والميليشيات المدعومة إيرانياً التي جرت في أواخر آذار الماضي بجديدة، بما أن شرارة العنف بين الطرفين قد ظهرت أكثر من مرة على مدار سنوات، ومنذ 21 كانون الثاني 2021، أي بعد تولي الرئيس جو بايدن لمنصب الرئاسة، نفذ وكلاء طهران 83 هجمة ضد جنود أميركيين في العراق وسوريا، وذلك بحسب ما أعلنه المتحدث الرسمي باسم القيادة الوسطى الأميركية خلال هذا الشهر، عندما قال: "إننا نعتبر إيران مسؤولة عن تلك الهجمات".
في حين أضاف ريدر الناطق الرسمي باسم البنتاغون في 30 آذار الماضي بأنه: "رداً على أسلوب الهجمات الإيرانية وتلك المدعومة إيرانياً ضد الجنود والمقار الأميركية في العراق وسوريا، ونظراً لبقاء خطر تلك الهجمات موجوداً في المستقبل، قامت الولايات المتحدة بعمل عسكري بحسب ما تقتضيه الضرورة وستواصل القيام بهذا العمل العسكري ضد الحرس الثوري والعناصر التابعة له".
يتميز نمط دائرة العنف التي امتدت لسنوات بتوجهات وزيادة في التكرار على الرغم من تغير الإدارات الأميركية، كما أنها كانت تتم في بعض الأحيان بوتيرة دورية، وتنطوي على نزاع خفي بين إسرائيل الحليفة المهمة بالنسبة للولايات المتحدة، وعدوة إيران في المنطقة.
أما روسيا التي تشن حربها حالياً ضد أوكرانيا، فتسيطر على معظم المجال الجوي السوري، ومن هناك تسمح للجارة إسرائيل بتنفيذ غارات تستهدف مقار تابعة لإيران وشحنات أسلحة وهي في طريقها إلى الجماعات التابعة لطهران مثل حزب الله في لبنان. وبما أن المقاتلين المدعومين من قبل إيران يفتقرون إلى الإمكانيات التي تخولهم لشن هجوم على إسرائيل، وفي محاولة من قبلها لتجنب حدوث تصعيد كبير، يرد هؤلاء المقاتلون بدلاً من ذلك عبر استهداف القوات الأميركية الموجودة في العراق وسوريا.
وحول ذلك يعلق أليكس فاتانكا، وهو مدير برنامج إيران لدى معهد الشرق الأوسط، بالقول: "إن التوجه واضح أشد الوضوح، إذ فور ظهور القوات الخاصة الإيرانية ووكلائها في سوريا، بدأت إسرائيل باستهدافهم، كما عقد الإسرائيليون مختلف أنواع الصفقات حتى يقوموا بضرب الإيرانيين والإفلات مما اقترفته أيديهم".
أما خليفة، المحللة السياسية لدى المجموعة الدولية للأزمات والتي تعمل على ملفي الأمن والحوكمة في سوريا، فتخبرنا بأنه عندما تزيد الهجمات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا على سبيل المثال، فإن ذلك يؤدي إلى زيادة في الهجمات الإيرانية على المواقع الأميركية في البلد، ووصفت استراتيجية الهجوم على القوات الأميركية بأنها: "الثمرة الدانية" مثل فرصة مواتية.
يذكر أن إسرائيل نفذت العديد من الغارات على مواقع في سوريا خلال الشهر الماضي، منها تلك الغارة الجوية التي وقعت بالقرب من مطار حلب في 22 آذار، وفي اليوم التالي، هاجمت ميليشيات مدعومة إيرانياً القوات الأميركية الموجودة بالقرب من الحسكة، ما أدى لمقتل متعهد أميركي.
يعلق علي فايز وهو مدير برنامج إيران لدى المجموعة الدولية للأزمات، على ذلك بقوله: "إن إيران تحس على الدوام بأنه من الأسهل لها الانتقام من الولايات المتحدة لا من إسرائيل"، وذلك لأن الانتقام من إسرائيل برأيه: "شيء لا يمكنهم القيام به، كما أن الولايات المتحدة مكشوفة بشكل أكبر في العراق وسوريا".
عنف يتم احتواؤه بصورة ممنهجة
لا تعتبر سلسلة العلاقات المعقدة المحفز الوحيد بالنسبة لإيران، وذلك لأن ما يحرض على قيام اشتباكات بين القوات المدعومة إيرانياً والجنود الأميركيين في العراق وسوريا هو رغبة إيران بنشر حالة من عدم الارتياح بين صفوف الجنود الأميركيين على الرغم من قلة عددهم في كلا البلدين. ومن وجهة نظر استراتيجية إيرانية، يرى هؤلاء أن الهجمات ما هي إلا سبيل لتوجيه رسالة للولايات المتحدة مفادها بأنهم بوسعهم أن يتحولوا إلى قوة تزعزع الاستقرار وتصعب أمور الحياة بالنسبة للجنود الأميركيين، بحسب رأي خليفة.
إن عمليات تبادل إطلاق النار هذه التي تتم بين الولايات المتحدة وإيران عملاً بمبدأ العين بالعين امتدت لعقود طويلة بحسب رأي فاتانكا، الذي يرى هو وفايز بأنه من الواضح بأن السياسة الإيرانية تحاول وتعمل على إخراج القوات الأميركية بالتدريج من المنطقة، ورغبة طهران هذه لم تزدد عمقاً إلا بعد اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في عام 2020، إذ يعلق فايز على ذلك بقوله: "يدرك الإيرانيون أن إخراج الولايات المتحدة من إيران وسوريا لا يعتبر عائقاً كبيراً نسبياً، إلا أنه إنجاز مهم وكبير بالنسبة لهم".
ولكن ثمة حد فاصل تقف عنده رغبة كل طرف بالتوغل والمضي قدماً فيما يتصل بمواجهتمها لبعضهما بعضا، وذلك لأن كلا الطرفين لا يريدان أن يشتبكا مع بعضهما في حرب شاملة، وتخبرنا خليفة بأن ذلك ما يحدث في سوريا على سبيل المثال، حيث يتم احتواء العنف بصورة ممنهجة لأنه بات من الواضح لكلا الطرفين إلى أي مدى بوسع كل منهما المضي قدماً بما يفعلانه، وعند أي مرحلة تظهر الخطوط الحمراء.
ثم إن كلاً من إيران والولايات المتحدة تدركان حدودهما تماماً، وليست لدى أي منهما رغبة بتصعيد الأمور لتصل إلى مواجهة بينهما بحسب رأي فاتانكا، ثم إن الحرب ستكون وخيمة على إيران، كما ستلهي الولايات المتحدة في وقت تحتاج فيه إلى التركيز عند تعاملها مع قوى كبرى مثل الصين وروسيا، وحول ذلك يضيف فاتانكا قائلاً: "لهذا السبب يظهر هذا النهج الحذر مع الرغبة بوصول الطرفين إلى منتصف الطريق في بعض الأحيان، أو الابتعاد عن قيام حرب شاملة، لأن كلا الطرفين لا يعتبر أن من مصلحته قيام حرب كهذه".
ويخبرنا فاتانكا أنه في الوقت الذي يمكن من خلاله لحالة احتدام الاشتباكات بين القوات الأميركية والميليشيات المدعومة إيرانياً أن تشهد تصعيداً بين الفينة والفينة، إلا أن الحرب لن تقوم بينهما ما لم يحدث تغيير سياسي جوهري في واشنطن، أو ما لم تقم طهران بالتعبير عن جاهزيتها للحرب، إلا أن كل تلك المؤشرات غير موجودة، ولهذا لن تتطور الأمور اليوم إلى ما هو أبعد مما شهدناه خلال السنين الماضية".
على الرغم من أن احتمال قيام حرب شاملة بين واشنطن وطهران يبدو ضئيلاً نسبياً في الوقت الراهن، إلا أن تبادل إطلاق الصواريخ والغارات الجوية مايزال يحمل معه خطر وقوع خطأ جسيم في الحسابات.
فقد بلغ التوتر مداه بسرعة عقب اغتيال سليماني، حيث أتى بعده مباشرة تبادل مريع لإطلاق النار بين الولايات المتحدة والقوات المدعومة إيرانياً وكاد أن يتسبب ذلك بنشوب حرب بين واشنطن وطهران بعدما ضربت الأخيرة صواريخ باليستية على مواقع أميركية في العراق، ما تسبب بجرح العشرات من الجنود الأميركيين وأدى إلى تصعيد الخطاب ضد إيران، بعد ذلك سيطرت حالة من الهدوء وخفض التصعيد على المشهد.
إلا أن خليفة تصف الوضع فتقول: "قد تحدث مشكلة ما، وذلك على الجانب الإيراني على الأقل، بما أن غاراتهم ليست عالية الدقة، أي إن هنالك مجالا لحدوث خطأ في الحسابات، وخروج الأمور عن الخطة المرسومة لها"، ومع ذلك مايزال من المستبعد لكلا الطرفين التصعيد وصولاً إلى المرحلة التي تشعل نزاعاً على نطاق واسع.
المصدر: Insider