منذ خمسينيات القرن الماضي والولايات المتحدة تحاول إسقاط الحكومات في الشرق الأوسط الكبير، واستبدال كل منها الواحدة تلو الأخرى، بمعدل وسطي لحكومة واحدة خلال عقد كامل. إذ فعلت ذلك في إيران وأفغانستان (مرتين)، وفي العراق ومصر، وليبيا، وسوريا، وهذه القائمة تضم فقط الحالات التي كان فيها إسقاط حاكم البلاد وتغيير النظام السياسي هدف السياسة الأميركية، كما بذلت واشنطن جهوداً حثيثة لتحقيق تلك الغايات. إلا أن الدوافع التي أدت للتدخل اختلفت بشكل كبير، تماماً كما اختلفت أساليب واشنطن في التعاطي مع ذلك، ففي بعض الحالات لجأت إلى تمويل انقلاب ورعايته، وفي حالات أخرى عمدت إلى غزو البلاد واحتلالها، وفي غيرها من الحالات اعتمدت على الدبلوماسية والخطابات والعقوبات.
إلا أنه ثمة قاسم مشترك وحيد بين تلك المحاولات، وهو الفشل. ففي كل حالة من تلك الحالات، قام صناع السياسة الأميركية بتهويل الخطر الذي تواجهه الولايات المتحدة، مع التقليل من شأن التحديات التي تلف عملية إسقاط النظام، إلى جانب تطمينات كلها تفاؤل من قبل المعارضة الخارجية والفاعلين المحليين الذين يتمتعون بشيء من السلطة. وفي كل حالة من تلك الحالات، باستثناء سوريا (حيث ظل النظام يمسك بزمام السلطة)، أعلنت الولايات المتحدة عن إحراز النصر قبل أوانه، ولم تتمكن من التنبؤ بالفوضى التي ستأتي لا محالة عقب انهيار النظام، فوجدت نفسها في نهاية المطاف تتحمل مسؤوليات إنسانية جسيمة وتكاليف مالية باهظة ستظل ديناً برقبتها طيلة العقود القادمة.
لماذا تتسم عملية تغيير النظام في الشرق الأوسط بالصعوبة البالغة؟ ولماذا يصر القادة والخبراء الأميركيون على أنه بوسعهم أن يقوموا بذلك على أكمل وجه؟
ليس ثمة إجابات سهلة على هذين السؤالين، لذا من المهم أن نعترف أنه في كل حالة من تلك الحالات، لم تنل بدائل تغيير النظام أي قبول أو استحسان من قبل الولايات المتحدة. ولكن عندما يفكر صناع السياسة الأميركية بتحديات وأخطار التعامل مع منطقة تثير الحنق والغيظ، فلابد لهم أن يعاينوا أنماط التضليل الذاتي والحكم الخاطئ التي جعلت من أمر تغيير النظام مرة إثر مرة عملية مغرية وجذابة، وكارثية في نهاية الأمر.
ضربة مرتدة.. موجة من عدم الاستقرار بعد سقوط أنظمة
في عام 2011، ناقش مسؤولون أميركيون رفيعو المستوى وجوب لجوء الولايات المتحدة للقوة العسكرية ضد الحاكم الليبي، معمر القذافي، إذ قام روبرت غيتس وزير الدفاع الأميركي آنذاك، والذي يعتبر أكثر أعضاء فريق الأمن القومي لدى الرئيس باراك أوباما خبرة، بتذكير زملائه بالقول: "عندما تشنون حرباً فلن تعرفوا كيف ستسير الأمور"، فأتى تحذير غيتس هذا ليبخس الأمور حقها، إذ مع كل حالة من الحالات التي أوردناها، لا يهم مدى الحيطة والاستعداد، وذلك لأن عملية تغيير النظام في الشرق الأوسط تأتي مخالفة للتوقعات، وتحمل معها عواقب غير محمودة. ولعل أبلغ مثال على هذه الظاهرة ما جرى في غزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003، عندما أنهت واشنطن حكم صدام حسين، لكنها عززت دون أن تدري قوة إيران ونفوذها، وأذكت الحركة الجهادية، وأظهرت للديكتاتوريين في مختلف أنحاء العالم مدى أهمية امتلاك أسلحة نووية (وذلك لردع أي شكل من أشكال الغزو والعدوان) كما دفعت كل دول العالم للتشكيك بحسن طوية النفوذ والقوة الأميركية، وأثارت حالة من السخط في الشارع الأميركي تجاه أي تدخل أميركي ليستمر ذلك خلال العقود المقبلة.
ثم إن العراق لم يشذ عن القاعدة بحياته، إذ في كل الحالات الأخرى، تلخصت أهم النتائج بتلك التي لم تكن مقصودة. ففي إيران وتحديداً في عام 1953، ساهمت الاستخبارات المركزية الأميركية في إسقاط محمد مصدق رئيس الوزراء القومي المستفز على أمل أن يتحول شاه إيران محمد رضا بلهوي إلى حليف إقليمي جدير بثقة أكبر بعد استبعاد مصدق عن المشهد، إلى جانب الأمل بإبعاد إيران عن المعسكر السوفياتي. غير أن فساد الشاه الذي فاق كل تصور، وقمعه الشديد والقاسي، الذي أعانه عليه فاعلو خير من الولايات المتحدة، أدى في نهاية الأمر إلى قيام ثورة 1979، والتي أتت إلى السلطة بنظام إسلامي معاد لأميركا بشكل كبير، ثم شرع هذا النظام بتمويل الإرهاب وزعزعة الاستقرار في المنطقة منذ ذلك الحين.
وفي أفغانستان خلال ثمانينيات القرن الماضي، ساعد الدعم الأميركي للمجاهدين الإسلاميين على تقويض الاتحاد السوفياتي، لكنه أسهم أيضاً بخلق حالة من الفوضى استمرت لعقد كامل، ناهيك عن الحرب الأهلية، وصعود حكومة طالبان المتوحشة، والتي تمثل حركة جهادية عالمية قوية، ما أدى أخيراً إلى وقوع تدخل عسكري أميركي آخر، عقب هجمات 11 أيلول/سبتمبر في عام 2001 التي خطط لها إرهابيون من تنظيم القاعدة في مقرهم بأفغانستان. وبعد الانتفاضة الشعبية في مصر في عام 2011، استعانت الولايات المتحدة بنفوذها الدبلوماسي للمساعدة على إنهاء الحكم القمعي لحسني مبارك الذي استمر لعقود. غير أن الوضع تدهور في السنوات التي أعقبت ذلك، إذ في عام 2012 أتى صندوق الاقتراع بحكومة إسلامية إقصائية، وبعد ذلك بعام، تم إسقاط تلك الحكومة بالعنف، واستبدالها بنظام عسكري جديد يترأسه الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي تبين بأن حكمه صار أكثر قمعاً من حكم حسني مبارك.
وفي عام 2011 أيضاً، تسبب الدعم الأميركي لعملية إسقاط القذافي وما أعقب ذلك من انهيار للدولة الليبية إلى انتشار العنف على نطاق واسع في البلاد، ما أدى إلى انتشار السلاح في المنطقة، وزاد ذلك من حالة عدم الاستقرار في الجارتين تشاد ومالي، وجعل الموقف الروسي يتصلب ويصر على عدم السماح لمجلس الأمن الدولي بتمرير قانون يقضي بتسهيل عملية تغيير النظام، كما حدث في الحالة الليبية. فقد تمنى أنصار تغيير النظام في ليبيا أن يؤدي إسقاط القذافي إلى موافقة غيره من الديكتاتوريين على ترك السلطة طوعاً، وإلا سيواجههم مصير كمصير القذافي. إلا أن التدخل بليبيا أتى بنتائج عكسية. ففي سوريا مثلاً، شاهد بشار الأسد ما تعرض له القذافي من تعذيب وقتل وحشي على يد الثوار الليبيين، فقرر أن يزيد من قمعه لمعارضيه دون أن تأخذه أي رأفة أو شفقة، ما فتح المجال أمام الجهاديين الذين أتوا من الجارة العراق، بعدما قوضوا الحكومة هناك.
لقد أثبتت كل المحاولات الأميركية وغير الأميركية لإزاحة الأسد عبر دعم ثوار المعارضة بأنها ستحمل نتائج أفظع، إذ بعدما عقدت كل من روسيا وإيران العزم على إبقاء الأسد في السلطة، لم تصل سنوات من المساعدة العسكرية الخارجية للمعارضة السورية إلى استبعاد الأسد كما هو مخطط له، بل أدت إلى تصعيد مضاد من قبل النظام وداعميه في الخارج، بشكل أذكى الحرب السورية الآثمة، وتسبب بظهور مأساة إنسانية، فضلاً عن موجة اللجوء التي كانت الأكبر من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية (وتلك الأمور بحد ذاتها تسببت بظهور انتقادات شعبوية في أوروبا)، إلى جانب تفجر حالة التطرف الجهادي. كان هنالك من يتفهم الرغبة بإسقاط الأسد المجرم، إلا أن عواقب المحاولة والفشل في ذلك، والتي يعود جزء من أسبابها إلى عدم وجود رغبة لدى أي أحد بغزو سوريا واحتلالها، بعد مرور أقل من عقد على كارثة العراق، أثبتت أنها أسوأ من الامتناع عن المحاولة منذ البداية.
الطبيعة التي تمقت الفراغ.. تحديات أميركا في إسقاط الأنظمة
إن جوهر المشكلة يكمن في أنه كلما تم تدمير نظام قائم (أو حتى إضعافه بشكل كبير على يد قوى خارجية، كما حدث في سوريا) يظهر فراغ سياسي وأمني ويبدأ الصراع على السلطة. وفي ظل غياب الأمن، يجد الناس أنه لم يعد لديهم أي بديل خلا الانخراط في تنظيمات والتزود بالسلاح والانكفاء ضمن تكتلات عشائرية وقبلية ومذهبية طلباً للأمان، مما يزيد من الاستقطاب الطائفي والتناحر الداخلي، وقد يؤدي ذلك في بعض الأحيان إلى المطالبة بالانفصال.
وخلال الفترة التي تسبق أي تدخل، تقوم مجموعات لا يجمع بينها سوى القليل من القواسم المشتركة بتشكيل تحالفات مبنية على المصالح، ولكن بمجرد أن يسقط النظام، ينقلب هؤلاء ضد بعضهم على الفور، لتنتشر بعد ذلك وتسود أكثر المجموعات تطرفاً وعنفاً، في حين يتم تحييد أكثر القوى اعتدالاً وبراغماتية وتهميشها. وحتماً سيعمل هؤلاء الذين تم إقصاؤهم عن السلطة على تقويض من استولوا عليها. إذ حينما حاولت الولايات المتحدة أن تملأ هي هذا الفراغ، كما فعلت في العراق وفي بعض الأحيان في أفغانستان، وجدت نفسها هدفاً لشعب تلك الدولة ولشعوب دول الجوار التي تقاوم أي تدخل أجنبي، فانتهى بها المطاف إلى التضحية بآلاف الأرواح وإنفاق مليارات الدولارات وهي ماتزال تفشل في نشر الاستقرار في تلك البلدان.
ثم إن الفراغ الأمني الذي يخلقه تغيير النظام لا يؤسس لصراع على السلطة بين دول فحسب، ولكن يؤدي دوماً إلى ظهور حالة عنيفة من التنافس بين قوى متناحرة إقليمية أيضاً. إذ عندما تسقط الحكومات (أو تبدو وكأنها على وشك السقوط) تتزاحم القوى الإقليمية، بل حتى الدولية، لتصل إلى تلك الدولة وهي تحمل معها أموالها وأسلحتها، وتقوم في بعض الأحيان بتوجيه قوات عسكرية حتى تقيم لنفسها وكلاء في السلطة ولتستقطب تلك الدولة لتصبح تابعة لها وتدور في فلكها. إن التأكيدات المتكررة التي أطلقتها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس قبيل حرب العراق بأن سعي واشنطن "لنشر الاستقرار على حساب الديمقراطية" في الشرق الأوسط لم يكن صحيحاً بخصوص كلا الهدفين، بل تبين بأن لذلك نتيجة مباشرة وهي أن السعي لنشر الديمقراطية على حساب الاستقرار لا يحقق كليهما أيضاً، ولكن الفاتورة لابد وأن تصبح أعلى هي أيضاً.
يميل الأميركيون إلى التصديق بأن تدخلاتهم الخارجية تحمل بين طياتها الكثير من الكرم والطيبة وتلقى تقديراً وترحيباً على نطاق واسع، ولكن تبين أنه حتى عندما ساعد الأميركان على إسقاط أنظمة لا تتمتع بأي شعبية، لم يقم أحد باستقبالهم استقبال الفاتحين. بل حتى التدخلات التي تعبر عن حسن طويتها والتي قامت بها في الشرق الأوسط قوبلت بمقاومة عنيفة في أغلب الأحيان. إذ بعد الانقلاب الذي وقع في إيران عام 1953، أدت الكراهية التي ظهرت تجاه الولايات المتحدة جراء دعمها لحكم الشاه الديكتاتوري إلى ظهور نزعة خبيثة معادية للأميركيين ماتزال قائمة حتى يومنا هذا. أما في أفغانستان حيث لا يثق أحد بالأجانب، لم ينج حامد كرازاي الرئيس الذي قربته واشنطن منها عقب الغزو الأميركي في عام 2001 من الانطباع الذي انتشر بين الأفغان بأن الأجانب هم من دعموه وأتوا به إلى السلطة. وإلى اليوم، ماتزال فكرة تخليص البلاد من القوات الأميركية المحتلة تمثل الصرخة الجامعة التي تلتف حولها معارضة طالبان. إلا أن التوقعات التي نالت أوسع شهرة هي تلك التي صرح بها نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني وقتئذ، حيث ذكر بأن القوات الأميركية "سيتم الترحيب بها وكأنها قوات تحرير وفتح" في العراق، لكن تلك التوقعات أثبتت خطأها الفادح إذ شهدت البلاد عقب ذلك سنوات من التمرد الدموي ضد أميركا.
بل حتى الزعماء والرؤساء الذين يظهرون الكثير من المودة والذين جاءت بهم الولايات المتحدة إلى السلطة لم يتصرفوا على الدوام وفقاً لمشيئة واشنطن ورغباتها، ففي النهاية لكل فرد منهم مصالح وطنية عليه أن يراعيها كما عليه أن يقف في مواجهة القوى الخارجية في أغلب الأحيان وذلك ليدعم شرعيته. إذ كثيراً ما يتحدى هؤلاء واشنطن بالنسبة لعدد من القضايا الداخلية والدولية، وهم على علم بأن مموليهم الأميركيين لم يعد لديهم أي خيار سوى أن يستمروا في دعمهم.
وبعيداً عن ممارسة تأثير إيجابي على هؤلاء القادة، ومساعدة الولايات المتحدة على تذليل تلك التحديات، فإن ما يقوم به الكثير من الفاعلين الإقليميين والدوليين هو النقيض تماماً. إذ طوال عقود ساعدت باكستان في إحباط المساعي الأميركية في ترسيخ الاستقرار بأفغانستان، كما قوضت إيران جهود الولايات المتحدة في العراق عبر دعم الميليشيات الشيعية التي تمارس العنف. وتمزقت ليبيا بين قوتين خارجيتين متنافستين تدعم كل منهما وكلائها المتناحرين. وفي سوريا، قوضت كل من روسيا وإيران وما تزالان عملية تغيير النظام التي تدعمها الولايات المتحدة، وذلك مخافة أن يفكر الأميركيون بمحاولة القيام بالشيء ذاته في موسكو أو طهران في يوم من الأيام، ولذلك جابهت كل منهما أي تصعيد أميركي بتصعيد مضاد. وغالباً ما ينجح هؤلاء المخربين الإقليميين نظراً لامتلاكهم لنفوذ أكبر على المستوى المحلي، ولاستعدادهم لبذل تضحيات أكبر من تلك التي يمكن للولايات المتحدة أن تقدمها، ثم إنه من الأسهل أن تحدث الفوضى لا أن تمنع وقوعها.
لقد سعت آخر التدخلات الأميركية في الشرق الأوسط إلى استبدال الأنظمة الاستبدادية بحكومات ديمقراطية، ولكن حتى لو تجنبت تلك الأفعال بطريقة ما تلك المزالق التي تخلفها حالة الفراغ الأمني، والمقاومة الشعبية، والوكلاء الذين لا يمكن الوثوق بهم، من المستبعد أن يتمكن هؤلاء من قيادة أي ديمقراطية جديدة.
وبالرغم من عدم وجود أي وصفة واضحة للتنمية الديمقراطية، تشير أبحاث كثيرة وموسعة حول هذا الموضوع بأن المكونات الرئيسية لابد وأن تشمل درجة عالية من التنمية الاقتصادية، وتجانساً عرقياً وسياسياً وثقافياً كبيراً (أو على الأقل سردية وطنية مشتركة جامعة)، إلى جانب وجود مسبق لقواعد الديمقراطية، ولممارساتها ومؤسساتها. ولسوء الطالع، لا توجد أي من تلك المؤهلات في الشرق الأوسط المعاصر، وغيابها يعني استحالة الديمقراطية هناك أو أن تعزيز الديمقراطية يجب ألا يصبح طموحاً أميركياً. إلا أن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن السعي لتغيير النظام في الشرق الأوسط على أمل أن يؤدي ذلك إلى إحداث تنمية ديمقراطية ما هو إلا تفكير مبني على الأماني التي وصلت إلى أقصاها.
التعلم بأصعب الطرق.. الأميركيون يفضلون الأمل على التجربة
إن الرغبة الأميركية الدفينة لمعالجة مشكلات الشرق الأوسط تبدو نبيلة من نواح عدة، لكنها قد تصبح خطيرة أيضاً. إذ تتلخص الحقيقة المرة، التي تعكسها عقود من التجارب المريرة في هذه المنطقة، بوجود بعض المشكلات التي لا يمكن حلها جملة وتفصيلاً وإن أي محاولة لحل تلك المشكلات قد تزيد الأمور سوءاً في بعض الأحيان.
ويعود جزء من المشكلة إلى أن صناع السياسة في الولايات المتحدة يفتقرون في كثير من الأحيان إلى فهم عميق لتلك الدول، مما يجعلهم عرضة لتلاعب من قبل أطراف لديها مصالحها الخاصة المضمرة. وأشهر مثال على ذلك يتمثل بشخصية المعارض العراقي المنفي أحمد شلبي، الذي عمل على إقناع كبار السياسيين في إدارة جورج بوش الابن بامتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، وبأن القوات الأميركية ستستقبل استقبال الفاتحين في العراق. ولكن بعد مرور سنوات على غزو العراق، قامت السلطات العراقية بإلقاء القبض على شلبي بتهمة التزوير والسعي لتقديم مصالح إيران على مصالح البلد. وحدث الشيء نفسه في ليبيا وسوريا وغيرهما، وذلك عندما أخذ حتى أكثر المعارضين طيبة في الخارج يرددون على مسامع الأميركان وغيرهم ما يرغبون بسماعه وذلك ليكسبوا دعم أقوى الدول في العالم. وقد أدى ذلك في كل حالة من تلك الحالات إلى إجراء حسابات غير دقيقة على نطاق واسع حول ما سيحدث في أعقاب التدخل الأميركي، حيث تم توجيه كل ذلك دوماً باتجاه حالة الإفراط في التفاؤل.
وهكذا ظل الأميركيون يفضلون الأمل على التجربة فيما يتصل بسياسة الشرق الأوسط، وذلك بسبب نزعة التقليل من قيمة الموارد والالتزامات التي يتعين على الولايات المتحدة أن تقدمها في سبيل التخلص من أي حكم عدواني، وحتى تسهم في استقرار الأوضاع عند رحيل ذلك النظام. إلا أن عقوداً من الخبرة تكشف بأن الأنظمة الاستبدادية لن تتخلى عن السلطة إذا قوبلت بعقوبات اقتصادية فقط (تلك العقوبات التي تضر بالشعب أكثر مما تضر بالقيادة)، أو حتى أمام أعداد متواضعة من القوات العسكرية.
إذ إن عدداً من الحكام في الشرق الأوسط يفضل أن يخاطر بحياته أو حتى خسارتها على التخلي عن السلطة بشكل طوعي. ونتيجة لذلك، عندما ترغب الولايات المتحدة بالتخلص من أحد هؤلاء الحكام، يتعين عليها أن تبتعد عن الإصلاحات التي لا تكلف سوى القليل والتي يقترحها في أغلب الأحيان من يؤيدون فكرة تغيير النظام، ومنها فكرة إنشاء منطقة حظر جوي، أو شن غارات جوية، أو دعم المعارضة بالسلاح. بل عوضاً عن كل ذلك يجب أن تقوم الولايات المتحدة بنشر عدد كبير من التشكيلات العسكرية في سبيل خلع هؤلاء القادة والحكام، بل حتى بعد رحيلهم، أثبتت التجارب أن التعامل مع ما خلفه رحيلهم يحمل بين طياته تكاليف أعلى مما توقعه مؤيدو فكرة تغيير النظام. وبالرغم من أن المسؤولين في واشنطن يفترضون في أغلب الأحيان بأن الشركاء الإقليميين أو الدوليين سيشاركون في تحمل الأعباء وسيتقاسمون معهم فاتورة تغيير النظام، إلا أن ذلك نادراً ما يحدث على أرض الواقع.
إلا أن بعض تلك المشكلات يمكن إدارته والتعامل معه في حال كان الالتزام والصبر والقوة التي يبديها الشعب الأميركي لا حدود له، ولكن نظراً لأن القادة الأميركيين ومؤيدي تغيير النظام نادراً ما يعترفون بالتكاليف الباهظة التي قد تترتب عليهم عندما يقررون التحرك من أجل هذه القضية، لذا بمجرد أن تنقضي الأزمة المباشرة وتمر، ويصبح الشعور العام بالخطر ضعيفاً، ينحسر الدعم الشعبي لتلك القضية. إذ إن غالبية الأميركيين دعمت فكرة غزو أفغانستان والعراق بادئ الأمر، ولكن بمرور الوقت، اكتشفت تلك الغالبية بأن عمليتي التدخل هاتين كانتا مجرد أخطاء، ولهذا لم نجد أي دعم شعبي لعمليات التدخل أو حفظ السلام في ليبيا وسوريا. فمع كل حالة من تلك الحالات، تزداد المشكلات كما ترتفع التكاليف، فيختفي الدعم الشعبي اللازم لتحقيق النجاح إثر ذلك.
المصدر: فورين أفيرز