في الحلقة الأخيرة من الجزء الأول من مسلسل "الهيبة"، مات "شاهين" وفقد "صخر" بصره، واخترقت الكاميرا حاجز الزمن، لتصور لنا صوراً من المستقبل، توثق لنا الحياة السعيدة التي يعيشها "جبل" في مدينته الحدودية التي يحكمها، "الهيبة"، بعد أن تزوج بأرملة أخيه "عليا"، التي أحبته عقب حكاية غريبة رصدت ارتدادها من التمدن والتحضر إلى الإيمان بمبادئ العشيرة والعنف والسلاح.
نجاح المسلسل تجارياً دفع صناعه إلى إنتاج جزء ثانٍ منه، رغم وصوله إلى طريق مسدود درامياً ورغم انسحاب نجمته اللبنانية، ندين نجيب نسيم، ورفضها المشاركة فيه؛ فحاولوا حينها أن يحافظوا على المنطق، واختاروا أن تكون أحداث الجزء الثاني سابقة زمنياً أحداث الجزء الأول، ليكون "الهيبة العودة"، أولى المسلسلات السورية التي تبنى بمفهوم رجعي، يعود به الزمن إلى الماضي لنبش تفاصيل وحكايات جديدة، بدلاً من المضي نحو المستقبل ذي النهاية المعلومة. ورغم ضعف هذا الخيار الفني ومحدوديته، إلا أن "الهيبة" حافظ على جماهيريته، القائمة بالأصل على الأوساط الذكورية المولعة بقيم العنف التي يرسخها المسلسل.
ربح مادي وقيم رديئة
السعي وراء الربح المادي دفع شركة "الصباح" لإنتاج جزء ثالث، تم فيه التخلي عن كل ما تبقى من منطق، يبدأ زمنه الدرامي بنقطة رسمها الجزء الأول بنهايته، لكن دون أي مراعاة لمنطق الأحداث. فعلياً لقد تم بناء حبكة الجزء الثالث بروح منفصلة تعاطت بشكل انتقائي مع الجزأين السابقين، اختارت منهما ما يناسبها، لتنسج حكاية ضعيفة، لا تشبِع سوى آمال الجمهور بالمحافظة على الشخصيات التي يرغبون بمتابعتها. هذه التحولات جعلت المسلسل ينزلق نحو هاوية جديدة، لتنحصر النقاشات حوله بين جمهوره على المقارنة بين قصات شعر تيم حسن في الأجزاء الثلاث، وحول الممثلة اللبنانية الأفضل التي وقفت أمام تيم حسن؛ ولم يخلُ هذا الجزء من النقاش من لوثة العنصرية، ليتحول النقاش إلى حرب بين النجمات السوريات واللبنانيات، ويطالب الجمهور بالاستعاضة عن النجمات اللبنانيات بنجمة سورية لتلعب دور البطولة في الجزء الرابع؛ وهو ما تحقق عندما تعاقدت شركة "الصباح" مع ديمة قندلفت.
اقرأ ايضاً: الدراما السورية 2020.. زمن واحد لا يكفي
وبالإضافة لمشكلتي حبكة الحكاية المتعثرة والقيم السخيفة التي يروج لها المسلسل، كان هناك مشكلة أخرى لازمت المسلسل عبر أجزائه ولا تقل أهمية عنهما، وهي مشكلة الإخراج الرديء والإيقاع البطيء والممل الذي وصل لأوجه في الجزء الرابع؛ إذ أن المخرج سامر البرقاوي الذي يجيد صنع الملل، والذي بات اسمه نموذجاً لدراما الإيقاع البطيء، بعد أن تمكن من تحويل أفلام عالمية لا يزيد طولها عن ساعتين إلى مسلسلات رمضانية مكونة من ثلاثين حلقة، نراه يتفوق على نفسه في مسلسله الأخير "الهيبة الرد"، ليصل فيه إلى أقصى درجات الملل والفراغ الدرامي.
ففي الجزء الرابع من مسلسل "الهيبة" بالغ البرقاوي باستخدام تقنية الـ"سلو موشين" ليقحمها بكل مشاهد الأحداث المهمة وشبه المهمة والذروات الوهمية وحتى في لحظات التذكر، ولو أنه لم يقم باستخدام الـ"سلو موشين" لكان ذلك سينقص خمسة حلقات من المسلسل على الأقل. ذلك عدا عن لجوئه للعديد من الأساليب التي تساعده على المماطلة وشد الحكاية لتزداد طولاً، كسرد حكاية بعض المشاهد بعد تجسيدها وأخذ لقطات طويلة للأماكن الفارغة وتصوير الأفعال الروتينية البسيطة بشكل تفصيلي دون فائدة؛ لتساهم كل هذه العناصر بزيادة الملل. ويبدو أن عرض مسلسل "الهيبة" خارج السوق الرمضاني قد ساهم بكشف عيوبه للجمهور، ليدونوا آلاف الانتقادات بالمسلسل الذي انكشفت مساحة الفراغ فيه بعد تقديمه منفرداً وبعيداً عن زخم وازدحام الحكايات الرمضانية.
عادل كرم الذي أحرقه المخرج
إن الحبكة في الجزء الأخير قائمة على اقتحام شخصيتيتن غريبتين لفضاء الهيبة بغرض الانتقام، وهما "نمر السعيد" (عادل كرم) و"رانيا" (ديمة قندلفت) وعلى ما ينجم عن ذلك تصادمات ومفارقات. لكن صنّاع العمل يقتلون الحكاية سريعاً، ليكشفوا بالحلقات الأولى عن نوايا كلتا الشخصيتين، ليتركوا الأحداث تسير ببطء وبما يتناسب مع التوقعات حتى يعيد "جبل" كشف الأوراق مجدداً في الحلقات الأخيرة.
اقرأ أيضاً: "معلشها بتتمعلش معك".. مسلسل الهيبة يروج للعودة إلى "حضن الوطن"
ورغم أن الطريقة التي تم بها ترتيب الحكاية وإخراجها فنياً قد أثرت بشكل سلبي على تلقي المسلسل، لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار العوامل التي تجعل مسلسل "الهيبة" واحداً من أكثر المسلسلات العربية المشتركة متابعة حتى اليوم، والتي ترتبط قبل كل شيء بالأداء وطريقة رسم الشخصيات؛ إذ إن تيم حسن تمكن خلال الأجزاء الأربعة من رسم ملامح شخصية شعبية، واستطاع أن يطورها ويضيف عليها في كل جزء.
وفي "الهيبة الرد"، لا يمكن إنكار الإضافة الهائلة التي تمكن الممثل عادل كرم من تقديمها بشخصيته، رغم إخفاق مخرج العمل وكتابه باستثمار الشخصية على النحو الأفضل، وحرق أوراقها سريعاً، وعدم تهيئة الظروف الدرامية بما يخدم الشخصية.
فشلٌ في الأداء وتكريسٌ للفوضى
وبالمقابل، هناك عدد كبير من شخصيات "الهيبة" التي تحولت مع توالي الأجزاء إلى أنماط غير متقنة، تعتمد على اللهجة والمبالغة للفت النظر دون جدوى، كما هو الحال بشخصيتي "صخر" (أويس مخللاتي) و"شاهين" (عبده شاهين)؛ اللذين وصلا لمرحلة جديدة من الفشل في الجزء الرابع. ويضاف إليهما ديمة قندلفت، التي أدت دورها المحوري بأسوأ شكل ممكن، ببرود يناسب إيقاع المسلسل البطيء ويختزل خيباته وفشله. ديمة قندلفت التي جاءت إلى المسلسل كأول بطلة سورية في أجزائه الأربعة، وبعد خطابات المنصات الإعلامية السورية المتعصبة التي حمّلت الفنانات اللبنانية مسؤولية كل انتقاد كان يطول المسلسل، أثبتت سريعاً أنها الشريكة الأسوأ لـ"جبل"، وأن رداءة التمثيل وجودته هو أمر لا يتعلق بجنسية الممثل.
بيد أن أسوأ ما في مسلسل "الهيبة" عبر أجزائه الأربعة هو الدور الترويجي الذي يقدمه المسلسل لرجال العصابات، في مناخ يغيب عنه القانون والسلطات التشريعية والقضائية كلياً، وتحل مكانه سلطة الأفراد أو المجموعات والعشائر الخارجة عن القانون. ويزداد الأمر سوءاً في الجزء الرابع، الذي يتم فيه تعزيز سلطة العشائر من خلال تصوير أجهزة الدولة كداعمة لسلطة "جبل" ومتعاطفة معه؛ لتكون مباركة لإقفال ملفات الخارجين عن القانون والمجرمين على طريقة "جبل"، بتعرضهم للقتل بعد صراعاتهم العشائرية. إن الجزء الرابع ينتهي بطريقة وحشية، حيث يقوم "جبل" بتعليق جثة عدوه "نمر" في ساحة الضيعة التي يتسيدها، والأسوأ أن هذا المشهد يقترن باتصال من رجال الأمن الذين يهنئون "جبل" على انتصاره!
شاهد: أخطاء مسلسل الهيبة "الحصاد"
عادةً ما يميل أنصار "الهيبة" إلى استخدام حجج منطقية للدفاع عنه، ليقولوا أن الانتقادات الأخلاقية التي يتعرض لها المسلسل هي أمر غير منصف؛ إذ أن دراما العصابات منتشرة بجميع أنحاء العالم. فعلاً هذا أمر لا يمكن إنكاره، لكن يجب هنا التنبه إلى خصوصية مسلسل "الهيبة"؛ إذ أنه مسلسل عصابات يتم تصويره في دول تحكمها عصابات بالفعل، ومن غير الممكن إطلاقاً فصله عن سياقه التاريخي والجغرافي؛ ولا يمكن متابعة حكايات ضيعة "الهيبة"، التي وصفها صناع المسلسل بأنها ضيعة حدودية بين سوريا ولبنان، دون التفكير بتلك الضيع في البقاع الغربي، التي تقوم بزراعة الحشيش والمتاجرة به، والتي كانت خلال السنوات الماضية ملجأ لعصابة النظام السوري بكل ممارساته المحرمة بالقانون الدولي. لذلك فإن مسلسل "الهيبة" يختلف عن باقي المسلسلات من أبناء جلدته، بأنه الوحيد بينها الذي يلعب دوراً لتلميع صورة رجال العصابات وإعادة ضبطها لتصبح موضة رائجة، قد تغوي آلاف المراهقين للالتحاق بركبها، في بقعة جغرافية توفر لهم هذا المناخ.
ولا يبدو أن الحكاية ستقف عند هذا الحد، فالربح التجاري سيجعل صنّاع العمل يبحثون عن مخرجاً يحيي القصة، لينتجوا جزءاً خامساً، وفي الغالب سيجدون ضالتهم من خلال إضافة شخصيات بعض الدخلاء، الذين يخلخلون توازن "الهيبة" المحمية في حكم "جبل" الذاتي. وقد قام الممثل تيم حسن بالتأكيد على وجود جزء جديد من خلال تغريدة نشرها على "تويتر" عقب انتهاء عرض المسلسل، طلب فيها من الجمهور أن يشاركوا آراءهم وآمالهم بمسار الحكاية في الجزء القادم.